عناصر الخطبة
1/قصة رجل جاء يستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الزنا وما فيها من الدروس والعبراقتباس
انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يفيض بعاطفته على هذا الشاب، ويغمره بمشاعر الرأفة، ولمسات الحنان، فلم يعنفه، ولم يزجره، بل قال له: "ادنه" فدنا منه قريبا، ثم جلس، ثم حاوره بكامل اللطف والهدوء، ثم وضع يده عليه، وأرسل الدعوات الصادقة له وهو يسمعها. إن التعاملَ الحسن، والقربَ من الناس، وكسبَ قلوبهم، يكسر حواجز الخوف والهيبة، ويفتح صفحات الصدق والصراحة، وبذلك تُجتث كثير من المشاكل قبل أن...
الخطبة الأولى:
أما بعد: بينما أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين يدي حبيبهم، يتلقون الإيمان، ويحفهم الطهر، إذ يقبل ذلك الشاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول بكل صراحة: يا رسولَ اللهِ ائذنْ لي بالزِّنا؟!
يا لفظاعة الطلب! ويا لغرابة الموقف! أما القوم فأقبلوا عليه وزجروه وقالوا: مه مه!
وأما الرؤوف الرحيم بأمته فقال له: "ادنُهْ" فدنا منه قريبًا فجلس.
ثُمَّ بدأ يحاوره بكل هدوء غقَالَ لَه: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟" يفكر الرجل، يتصور الموقف، ثم يقول استبشاعا واستنكارا: "لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ"، فيقول له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ".
ثم قَالَ له: "أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟"، قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، فقَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ".
ثم قَالَ له: "أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟"، قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، فقَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ".
ثم قَالَ له: "أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟"، قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، فقَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ".
ثم قَالَ له: "أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟"، قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، فقَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ".
ثم وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- يدَه عليه وقال: "اللهمَّ اغفرْ ذنبَه، وطهِّرْ قلبَه، وحصِّنْ فرْجَهُ".
ثم كانت النتيجة كما تقول الرواية: "فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفتُ إلى شيءٍ".
جاء منكسر القلب، أسير الشهوة، فلم يخرج من عنده صلى الله عليه وسلم إلا وقد استؤصل الداء، وتحرر القلب، وعاد العقل إلى صوابه.
فما الذي أحدثه النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفس هذا الشاب، حتى استطاع أن يجتث تلك المشكلة من جذورها في دقائق معدودة؟!
إن في هذا الحديث نبراسا للمعلمين والمربين والآباء والأمهات، يرشدهم إلى وسائل التعامل مع الشباب، وطرق احتوائهم والتأثير فيهم.
فانظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يفيض بعاطفته على هذا الشاب، ويغمره بمشاعر الرأفة، ولمسات الحنان، فلم يعنفه، ولم يزجره، بل قال له: "ادنه" فدنا منه قريبا، ثم جلس، ثم حاوره بكامل اللطف والهدوء، ثم وضع يده عليه، وأرسل الدعوات الصادقة له وهو يسمعها.
فما أحوج الشباب اليوم إلى مثل هذه العاطفة التي تأسر قلوبهم، وتغنيهم عن التنقيب عنها في مراتع الفحش والرذيلة.
ثم انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يوقظ في الشاب رصيد الفطرة، ويسقي فيه بذرة الخير، ويحاوره حوارا عقليا ليرسخ فيه بشاعة الأمر، وفداحة الطلب، فيستيقظ من الغفلة، وتعود الأمور في عقله إلى نصابها، فيزنها بالميزان الصحيح.
وقد كان بإمكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينهي الأمر من البداية، ويعلن رفضه لتحليل الحرام، ولكنه استخدم هذا الأسلوب الناجع، ليكون امتناع الشاب امتناعا ذاتيا عن كامل الاقتناع والاطمئنان، وبذلك يكون أرسخَ في الطهر، وأبعدَ عن وساوس الشيطان.
وكم نحن والله بحاجة إلى مثل هذه الحوارات مع شبابنا وفتياتنا، نفتح لهم قلوبنا، ونصغي لهم بأسماعنا، خصوصا في هذا الزمان الذي نرى فيه شبابنا يتخطفهم شياطين الإنس والجن، فإن لم يجدوا عندنا صدورا رحبة، وآذانا صاغية، فالشياطين لهم بالمرصاد.
وإن من أعجب ما في هذا الحديث هو إحساس الشاب بالأمان التام وهو يقف أمام رسول الأمة، ورئيس الدولة، ويطلب هذا الطلب الفاحش بتحليل كبيرة من الكبائر.
فبالله عليكم كيف سيكون له هذا الأمان لولا معرفته السابقة بأنه بين يدي صاحب ذلك الصدر الرحب، والقلب الطيب، الذي غمرهم برحمته ورأفته ولينه، والذي قال الله فيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران: 159].
إن التعاملَ الحسن، والقربَ من الناس، وكسبَ قلوبهم، يكسر حواجز الخوف والهيبة، ويفتح صفحات الصدق والصراحة، وبذلك تُجتث كثير من المشاكل قبل أن تتضخم وتتفاقم.
وإن أعظم سبل علاج المشكلات هو: أن تتجه إلى من بيده ملكوت كل شيء، ومن بيده القلوب يقلبها كيف يشاء، وهذا ما فعله الحبيب -صلى الله عليه وسلم- حين وضع يده عليه، وقال: "اللهمَّ اغفرْ ذنبَه، وطهِّرْ قلبَه، وحصِّنْ فرْجَهُ"، فتحول ذلك القلب بمشيئة الله واستجابته، وصار الزنا أبغض شيء إليه بعد أن كان أحب شيء إليه، كل ذلك بدعوة صادقة منه صلى الله عليه وسلم.
فصلى الله على المعلم الأكمل، والمربي الأفضل وجمعنا به في جنات الفردوس.
ورضي الله عن معاوية بن الحكم إذ يقول في موقف فيه بعض الشبه من موقفنا: "فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه؛ فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني".
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
ومما نستفيده من هذا الحديث -يا عباد الله-: أنه لا محاباة في الحق، فإن الرفق بالناس والرأفة بهم لا يعني تحليل الحرام لهم، ولا التهوين من شأنه، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ولا تبديل لكلمة الله وشرعه.
وكم نجد في واقع الناس اليوم من يستجيب لضغوطات الواقع، وعموم البلوى، فتجده يستجيب لأهواء النفوس، ويستمع لكلام أهل الباطل، فيقع في تحليل الحرام أو التهوين من شأنه، ويدعي بذلك أنه يسلك سبيل الرفق والتيسير.
والتيسير الحقيقي هو ما جاءت به الشريعة السمحة، لا ما ضغط علينا به الواقع.
الشريعة التي وضعها الحكيم العليم سبحانه، والذي هو أرحم بعباده وأعلم بهم من أنفسهم؛ كما قال سبحانه: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14].
والرفق بالناس هو أن نعلمهم محاسن هذه الشريعة، ونقربهم منها، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل، لا أن نطوعها ونكيفها على شهواتهم وأهوائهم..
وبذلك يصلح لهم الدين والدنيا، وتُحقق لهم السعادة الكاملة في الدارين، بالحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم الأبدي والنجاة في الآخرة.
تلك هي الرحمة الحقيقية، وذلكم هو أعظم الرفق وأعلاه: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[الحـج: 78].
اللهم اغفر ذنوبنا، وطهر قلوبنا، وحصن فروجنا.
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها، وما بطن.
اللهم احفظ شباب وفتيات المسلمين، اللهم اهدهم إليك، ودلهم عليك، واحفظهم من مكائد الشياطين.
التعليقات