عناصر الخطبة
1/وجوب إبقاء المطلقة في بيت الزوجية في الطلاق الرجعي2/العشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان والإشهاد عليه 3/عدة المرأة الحامل والمطلقة واليائسة والتي لم تحض 4/حرمة الإضرار بالزوجة المطلقة 5/ما للمرأة المطلقة من حقوق لها ولرضيعها.اقتباس
هَذِهِ بَعْضُ بَرَكَاتِ سُورَةِ الطَّلَاقِ، فِي شَأْنِ التَّسْرِيحِ وَالْفِرَاقِ، تُبْرِزُ جَانِبًا مِنْ جَوَانِبِ سُمُوِّ الْإِسْلَامِ وَسَمَاحَتِهِ، فَتَعَالِيمُ سَامِيَةٌ عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَقَوَاعِدُ رَاقِيَةٌ عِنْدَ فِرَاقِهِمَا، وَرَحْمَةٌ بِالرُّضَّعِ وَالذُّرِّيَّةِ، فَيُوجِبُ الْإِسْلَامُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَرْحَمَ مَنْ كَانَتْ لَهُ فِرَاشًا، وَأَنْجَبَتْ بَطْنُهَا لَهُ الْوَلَدَ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ هُوَ الضِّيَاءُ الْمُبِينُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، مَنِ اتَّبَعَهُ اهْتَدَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ غَوَى... وَإِنَّ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَا يَتَنَاوَلُ تَوْحِيدَ اللَّهِ -تَعَالَى- وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَمِنْهُ آيَاتُ الْغَيْبِيَّاتِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمِنْهُ آيَاتٌ تَتَحَدَّثُ عَنْ قِصَصِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُ أَيْضًا آيَاتُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُرْسِي حُدُودَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَتُبَيِّنُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ.
وَمِنَ السُّوَرِ الَّتِي تَنَاوَلَتِ الْأَحْكَامَ "سُورَةُ الطَّلَاقِ"، الَّتِي تَنَاوَلَتْ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ فَقَالَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَفْصَةَ، فَأَتَتْ أَهْلَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)[الطَّلَاقِ: 1]، فَقِيلَ لَهُ: رَاجِعْهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ مِنْ أَزْوَاجِكَ وَنِسَائِكَ فِي الْجَنَّةِ"(تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ).
وَقَالَ السُّدِّيُّ: "نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ؛ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً"(تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ)، وَأَصْلُ الْوَاقِعَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.. فَقَالَ: "لِيُرَاجِعْهَا"، فَرَدَّهَا، وَقَالَ: "إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ، أَوْ لِيُمْسِكْ"، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَرَأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)... فَنَزَلَتْ سُورَةُ الطَّلَاقِ، وَلَنَا مَعَ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ تَأَمُّلَاتٌ وَوَقَفَاتٌ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي أَوَّلِ آيَاتِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ نَلْتَقِي بِقَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)[الطَّلَاقِ: 1]، فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُخْرِجَ مُطَلَّقَتَهُ مِنْ بَيْتِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا.
وَهَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِالْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَقَطْ، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى؛ فَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: "طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا، فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَلَمَّا رَفَضَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ حَدِيثَهَا؛ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)[الطَّلَاقِ: 1]، قَالَتْ: "هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَةٌ، فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ؟ فَكَيْفَ تَقُولُونَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا؟ فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا؟"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَهِيَ تَقْصِدُ ذَيْلَ الْآيَةِ: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)[الطَّلَاقِ: 1].
ثُمَّ اسْتَثْنَى -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ هَذَا الْحُكْمِ اسْتِثْنَاءً وَاحِدًا فَقَالَ: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)[الطَّلَاقِ: 1]؛ "أَيْ: لَا يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إِلَّا أَنْ تَرْتَكِبَ الْمَرْأَةُ فَاحِشَةً مُبَيِّنَةً، فَتَخْرُجُ مِنَ الْمَنْزِلِ، وَالْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ تَشْمَلُ الزِّنَا، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ... وَتَشْمَلُ مَا إِذَا نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ بَذَأَتْ عَلَى أَهْلِ الرَّجُلِ وَآذَتْهُمْ فِي الْكَلَامِ وَالْفِعَالِ، كَمَا قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ"(تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَإِذَا شَارَفَتْ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ عَلَى الِانْتِهَاءِ فَإِمَّا أَنْ يُرْجِعَهَا زَوْجُهَا إِلَى عِصْمَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا فَتَخْرُجَ إِلَى بَيْتِ أَهْلِهَا، وَتَصِيرَ الطَّلْقَةُ الرَّجْعِيَّةُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ طَلْقَةً بَائِنَةً، يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)[الطَّلَاقِ: 2]، وَلَابُدَّ فِي الْحَالَتَيْنِ مِنَ الْإِشْهَادِ؛ عَلَى الرَّجْعَةِ أَوْ عَلَى الْفِرَاقِ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ)[الطَّلَاقِ: 2]، وَلَقَدْ سُئِلَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ يَقَعُ بِهَا، وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا، وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا، فَقَالَ: "طَلَّقْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، وَرَاجَعْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا، وَعَلَى رَجْعَتِهَا، وَلَا تَعُدْ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَإِنْ سَأَلْتَ: وَمَا فَائِدَةُ هَذَا الْإِشْهَادِ؟ أَجَابَكَ الْخَازِنُ فِي تَفْسِيرِهِ قَائِلًا: "وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِشْهَادِ: أَنْ لَا يَقَعَ بَيْنَهُمَا التَّجَاحُدُ، وَأَنْ لَا يُتَّهَمَ فِي إِمْسَاكِهَا، وَأَنْ لَا يَمُوتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَيَدَّعِي الْآخَرُ ثُبُوتَ الزَّوْجِيَّةِ لِيَرِثَ، وَقِيلَ: أُمِرَ بِالْإِشْهَادِ لِلِاحْتِيَاطِ؛ مَخَافَةَ أَنْ تُنْكِرَ الزَّوْجَةُ الْمُرَاجَعَةَ، فَتَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَتَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ".
فَإِنْ أَمْسَكَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ وَرَاجَعَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَاشِرَهَا بِالْمَعْرُوفِ، ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[النِّسَاءِ: 19]، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَنْ يُوَفِّيَهَا "حَقَّهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَأَلَّا يَعْبِسَ فِي وَجْهِهَا بِغَيْرِ ذَنْبٍ، وَأَنْ يَكُونَ مُنْطَلِقًا فِي الْقَوْلِ، لَا فَظًّا وَلَا غَلِيظًا، وَلَا مُظْهِرًا مَيْلًا إِلَى غَيْرِهَا"(تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ)، وَهَذَا مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ، وَيُؤَكِّدُ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَيَقُولُ: "فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَإِنِ اخْتَارَ الزَّوْجُ بَتَّ طَلَاقِهَا، فَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفِرَاقُ أَيْضًا بِمَعْرُوفٍ؛ "أَيْ: مِنْ غَيْرِ مُقَابَحَةٍ وَلَا مُشَاتَمَةٍ وَلَا تَعْنِيفٍ، بَلْ يُطَلِّقُهَا عَلَى وَجْهٍ جَمِيلٍ وَسَبِيلٍ حَسَنٍ"(تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ)، "وَقِيلَ: هُوَ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا أَدَّى إِلَيْهَا جَمِيعَ حُقُوقِهَا الْمَالِيَّةِ، وَلَا يَذْكُرُهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ بِسُوءٍ، وَلَا يُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْهَا"(تَفْسِيرُ الْخَازِنِ).
وَهَذَا هُوَ حَالُ الْمُسْلِمِ التَّقِيِّ؛ مُتَرَفِّعٌ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ عَنِ الدَّنَايَا، سَمْحٌ إِذَا عَاشَرَ، وَسَمْحٌ إِذَا فَارَقَ، عَفُّ اللِّسَانِ، طَاهِرُ الْجَنَانِ، لِذَا فَلَمَّا قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إِنَّ لِي بِنْتًا أُحِبُّهَا وَقَدْ خَطَبَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، فَمَنْ تُشِيرُ عَلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَهَا؟ أَجَابَهُ: "زَوِّجْهَا رَجُلًا يَتَّقِي اللَّهَ، فَإِنَّهُ إِنْ أَحَبَّهَا أَكْرَمَهَا، وَإِنْ أَبْغَضَهَا لَمْ يَظْلِمْهَا"(شَرْحُ السُّنَّةِ، لِلْبَغَوِيِّ).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: الْأَصْلُ فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)[الْبَقَرَةِ: 228]، أَيْ: ثَلَاثَ حَيْضَاتٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ خَلَّادُ بْنُ النُّعْمَانِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا عِدَّةُ مَنْ لَا تَحِيضُ، وَالَّتِي لَمْ تَحِضْ، وَعِدَّةُ الْحُبْلَى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)[الطَّلَاقِ: 4]، فَجَاءَتِ الْآيَةُ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعِدَّةِ.
فَأَمَّا الْيَائِسَةُ مِنَ الْحَيْضِ، وَمِثْلُهَا الَّتِي لَمْ تَحِضْ بَعْدُ، فَعِدَّتُهُمَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ هِجْرِيَّةٍ، يَقُولُ الْخَازِنُ مُفَسِّرًا: "(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ)؛ يَعْنِي الْقَوَاعِدَ اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنِ الْحَيْضِ، فَلَا يُرْجَى أَنْ يَحِضْنَ وَهُنَّ: الْعَجَائِزُ الْآيِسَاتُ مِنَ الْحَيْضِ، (إِنِ ارْتَبْتُمْ)؛ أَيْ: شَكَكْتُمْ فِي حُكْمِهِنَّ وَلَمْ تَدْرُوا مَا عِدَّتُهُنَّ، (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)، يَعْنِي: الصَّغَائِرَ اللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ بَعْدُ، فَعِدَّتُهُنَّ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ".
وَأَمَّا مَنْ طُلِّقَتْ أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَعِدَّتُهَا وَضْعُ حَمْلِهَا، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَوِ الْمَوْتِ بِوَقْتٍ يَسِيرٍ، فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "إِنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ (وَلَدَتْ) بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، وَإِنَّهَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا أَنَّهَا: "مَكَثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ، ثُمَّ جَاءَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "انْكِحِي"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَهُنَاكَ نَوْعٌ رَابِعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَمْ تَتَنَاوَلْ هَذِهِ الْآيَةُ عِدَّتَهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ؛ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ تَكُنْ حَامِلًا، وَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ آيَةُ الْبَقَرَةِ الَّتِي تَقُولُ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)[الْبَقَرَةِ: 234]، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
ثُمَّ تُطَالِعُنَا -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- لَفْتَةٌ قُرْآنِيَّةٌ رَاقِيَةٌ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ)[الطَّلَاقِ: 6]؛ فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ فَغَالِبًا مَا يَنْشَأُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَمُطَلَّقَتِهِ التَّبَاغُضُ وَالتَّنَافُرُ، لِذَا نَصَحَ اللَّهُ -تَعَالَى- الرَّجُلَ -لِأَنَّهُ الْأَقْوَى- أَلَّا يَحْمِلَهُ الْبُغْضُ لَهَا وَالنُّفُورُ مِنْهَا عَلَى أَنْ يَظْلِمَهَا أَوْ يَمْنَعَهَا حُقُوقَهَا.
فَلْيَتَّقِ الرِّجَالُ رَبَّهُمْ وَلَا يُضَيِّقُوا عَلَى مُطَلَّقَاتِهِمْ فِي مَسَاكِنِهِنَّ؛ "بِشَغْلِ الْمَكَانِ، أَوْ بِإِسْكَانِ غَيْرِهِنَّ مَعَهُنَّ مِمَّنْ لَا يَحْبِبْنَ السُّكْنَى مَعَهُ؛ لِيُلْجِئُوهُنَّ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَسَاكِنِهِنَّ"(تَفْسِيرُ الْمَرَاغِيِّ)! أَوْ يُضَيِّقُ عَلَيْهَا فِي النَّفَقَةِ فَلَا يُعْطِيهَا مَا يَكْفِيهَا! كَذَلِكَ لَا يَتَعَمَّدُ الْإِضْرَارَ بِهَا بِإِطَالَةِ عِدَّتِهَا؛ يَقُولُ أَبُو الضُّحَى: "هُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَإِذَا بَقِيَ يَوْمَانِ مِنْ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا"(تَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ)! فَكُلُّ صُوَرِ التَّضْيِيقِ وَالْإِضْرَارِ مَمْنُوعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، سَوَاءٌ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى أَوْلَادِهَا.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: وَلَنَا وَقْفَةٌ أُخْرَى مَعَ قَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)[الطَّلَاقِ: 6]، وَفِيهِ يَأْمُرُ اللَّهُ -تَعَالَى- الزَّوْجَ بِعَدَمِ إِخْرَاجِ مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ مِنْ بَيْتِهَا، وَأَنْ يُوَفِّرَ لَهَا السَّكَنَ مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا، بِخِلَافِ الْبَائِنِ فَلَا سَكَنَ لَهَا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَلَهَا السَّكَنُ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا.
وَكَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ -تَعَالَى- لِلْمُطَلَّقَةِ السُّكْنَى، فَقَدْ أَوْجَبَ لَهَا النَّفَقَةَ كَذَلِكَ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ)[الطَّلَاقِ: 7]، وَالنَّفَقَةُ أَيْضًا لِلرَّجْعِيَّةِ دُونَ الْبَائِنَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَقَدْ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: وَاللَّهِ مَا لَكِ مِنْ نَفَقَةٍ إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ قَوْلَهُمَا، فَقَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا"(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ).
وَأَمَّا الطِّفْلُ الرَّضِيعُ فَإِنَّ حَقَّهُ عِنْدَ فِرَاقِ أَبَوَيْهِ مَحْفُوظٌ، يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)[الطَّلَاقِ: 6]، فَيُحَدِّثُنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ حَقِّهِ فِي الرَّضَاعَةِ، لِيَصُونَ نَفْسَهُ، وَيُوجِبَ أُجْرَةَ رَضَاعَتِهِ عَلَى الْأَبِ، فَإِنْ أَرْضَعَتْهُ أُمُّهُ فَلَهَا الْأُجْرَةُ عَلَى أَبِيهِ، وَإِنْ أَبَتِ اسْتَأْجَرَ لَهُ أَبُوهُ مَنْ تُرْضِعُهُ، وَذَلِكَ لِئَلَّا يَضِيعَ الرَّضِيعُ أَوْ يَمُوتَ جُوعًا بِسَبَبِ فِرَاقِ أَبَوَيْهِ!
فَهَذِهِ بَعْضُ بَرَكَاتِ سُورَةِ الطَّلَاقِ، فِي شَأْنِ التَّسْرِيحِ وَالْفِرَاقِ، تُبْرِزُ جَانِبًا مِنْ جَوَانِبِ سُمُوِّ الْإِسْلَامِ وَسَمَاحَتِهِ، فَتَعَالِيمُ سَامِيَةٌ عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَقَوَاعِدُ رَاقِيَةٌ عِنْدَ فِرَاقِهِمَا، وَرَحْمَةٌ بِالرُّضَّعِ وَالذُّرِّيَّةِ، فَيُوجِبُ الْإِسْلَامُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَرْحَمَ مَنْ كَانَتْ لَهُ فِرَاشًا، وَأَنْجَبَتْ بَطْنُهَا لَهُ الْوَلَدَ، وَلَا يَكُونَنَّ كَالْمُنَافِقِ الَّذِي إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ!
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات