عناصر الخطبة
1/ الإسلام دين التكاتف والتكافل الاجتماعي 2/ نشاط الجمعيات التنصيرية لإغاثة الأسرى مع غفلة المسلمين 3/ أهمية السعي في فكاك الأسرى 4/ مواقف العلماء والأمراء إزاء قضية الأسرى 5/ واجب المسلمين إزاء إخوانهم من الأسرى 6/ الإسلام الأسبق في حماية الحقوق والحرياتاهداف الخطبة
اقتباس
هكذا كان أسلافنا مع أسرى المسلمون، عناية واهتمامًا ونجدة، يلبون النداء ويسمعون صوت المنادي وتجهز الجيوش، وتكتب الرسائل من أجل أسارى المسلمين ثم استدار الزمان وغفا المسلمون الطلقاء من الأسر، وبقي الأسرى المسلمون في غياهب سجون مظلمة أو مرتهنين في أقفاص حديدية مؤلمة لا مجير لهم ولا ناصر إلا الله، يتفنن العدو في أذيتهم وأسلوب التعامل معهم ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
أيها المسلمون: ديننا دين التكاتف والتكافل الاجتماعي، دين تنص تعاليمه على كفالة اليتيم، وإعانة المحتاج، وفكاك الأسير، ورعاية ابن السبيل وعيادة المريض، ورعاية المسن، والإعانة على نوائب الحق، والتنفيس عن المعسر، وتفريج كرب المكروب.. ونحو ذلك من سلوكيات تلبس المجتمع الإسلامي لبوس المودة والإخاء، وتشيع المحبة والتعاون بين المسلمين.
ولكن آفة المسلمين حين يغفلون عن هذه المعاني، ويفرطون في رعاية هذه القيم أو شيء منها، فيظل الفقير يكابد آلام الفقر والحرمان وحده، بعيدًا عن مشاعر المسلمين ومعونتهم، وتتراكم الهموم على مسلم مهموم فلا يجد -على الأقل- من يسرّي عنه ويسأل عن أحواله، ويفيض عليه من المشاعر المؤنسة ما ينفس كربته أو يخفف عليه ضائقته.
وهكذا يظل المريض يعاني من ألم المرض ووحشة الزوار، فلا يُسأل عن حاله ولا يُزار فيدعى له بالشفاء والعافية، وينقطع ابن السبيل فلا يكاد يلتفت إليه أحد ليسأل عن حاله ويقدّم له العون في سفره وغربته، وقل مثل ذلك حين يشعر كبار السن أنهم أصبحوا عالة على المجتمع، فلا يُقدّرون حق قدرهم، ولا تُقدّر سابقتهم ولا يُستفاد من تجاربهم.
وحين يضطر المحتاج في سبيل قضاء حاجته إلى ممارسات لم يأذن بها الله إما عن طريق السرقة، أو النصب والاحتيال، أو الاستقراض الربوي، وكلها ظلمات بعضها فوق بعض.
إخوة الإيمان: أما حين تشتعل الحروب، وتستخدم لغة القوة، ويكون المسلمون هدفًا يُبتغى هنا يكثر الجرحى والأسرى، وتشتد حاجة الأيامى واليتامى، ومن المؤسف والمؤلم أن تسبق إلى إيواء هؤلاء وإعانتهم جمعيات تنصيرية يكفيها أن تصرفهم عن الإسلام ولو لم تدخلهم النصرانية، ويكفيها أن تشعرهم أن النصارى كانوا أقرب إليهم من إخوانهم المسلمين وإن لم يدخلوهم في منظومة النصارى وحقوقهم، هنا تقع الفتنة، ويضعف حبل الإخاء، ويطيش ميزان التكافل الاجتماعي عند المسلمين.
أما الأسارى المرتهنون عند قوم كافرين، فكم لهم من الحقوق على إخوانهم المسلمين، وهذا رسول الهدى والرحمة يستصرخ المسلمين كافة لنجدتهم والسعي في فك أسرهم ويقول: "فكوا العاني -أي الأسير- وأجيبوا الداعي، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض". رواه البخاري. صحيح الجامع (4/90).
ولأهمية هذا الأمر بوب البخاري في صحيحه بابًا في فكاك الأسير، وبه ساق الحديث؛ عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فكوا العاني -يعني الأسير-، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض". وساق حديثًا آخر فيما اشتملت عليه الصحيفة. من فكاك الأسير.
ونقل ابن حجر عن ابن بطال: "فكاك الأسير واجب على الكفاية، وبه قال الجمهور". الفتح (6/167).
تُرى ما حجم اهتمام المسلمين بأسراهم عند اليهود أو النصارى أو عند غيرهم من الأمم والشعوب المعادية للمسلمين؟!
وهذا الإمام مالك -رحمه الله تعالى- يقول: "واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم، وهذا لا خلاف فيه لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فكوا العاني".
أما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقد كتب رسالة مطولة إلى سرجوان عظيم أهل ملة النصارى، بمناسبة أسره لفئة من المسلمين، ومما قاله في هذه الرسالة: "ومن العجب كل العجب أن يأسر النصارى قومًا غدرًا أو غير غدر ولم يقاتلوهم، والمسيح يقول: من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن أخذ رداءك فأعطه قميصك. وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده المسلمين، فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص، سيما وعامة هؤلاء الأسرى قوم فقراء وضعفاء، ليس لهم من يسعى فيهم...". الفتاوى (28/625).
ثم يخاطب الشيخ عظيم النصارى مبينًا له فرق معاملة المسلمين لما عندهم من النصارى، عن معاملة النصارى لما عندهم من المسلمين ويقول: أما يعلم الملك أن بأيدينا من النصارى أهل الذمة والأمان ما لا يحصي عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة، فكيف يعاملون أسرى المسلمين بهذه المعاملة التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين؟! الفتاوى (28/622).
أيها المسلمون: وإذا كان هذا طرفًا من مواقف العلماء مع أسارى المسلمين فدونكم طرفًا من مواقف الأمراء والولاة مع الأسرى.
فعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يكتب إلى بعض عماله أن فادِ بأسارى المسلمين، وإن أحاط ذلك بجميع ما عندهم من المال.
وسمع الحكم بن هشام أمير الأندلس أن امرأة مسلمة أخذت سبية فنادت:" واغوثاه يا حكم، فعظم الأمر عليه وجمع عسكره واستعد وحشد وسار إلى بلاد الفرنج سنة ست وتسعين ومائة، وأثخن في بلادهم، وافتتح عدة حصون، وخرّب البلاد ونهبها، وقتل الرجال وسبى الحريم، وقصد الناحية التي كانت بها تلك المرأة حتى خلصها من الأسر ثم عاد إلى قرطبة ظافرًا.
أما المنصور بن أبي عامر فهو -كما قال الذهبي-" البطل الشجاع الغزاء العالم، جم المحاسن، كثير الفتوحات، ملأ الأندلس سبيًا وغنائم، وأكثر من غزو النصارى حتى اجتمع له من غبار المعارك التي خاضها ما عملت منه لبنة وألحدت على خده، أو ذر ذلك على كفنه. سير أعلام النبلاء (17/124,123،16،15).
هذا البطل المغوار ساق له الذهبي موقفًا رائعًا في فك أسرى المسلمين فقال: "ومن مفاخر المنصور أنه قدم من غزوة فتعرضت له امرأة عند القصر فقالت: يا منصور: يفرح الناس وأبكي؟! إن ابني أسير في بلاد الروم، فثنّى عنانه وأمر الناس بغزو الجهة التي فيها ابنها. سير أعلام النبلاء (17/216،125).
أيها المسلمون: هكذا كان أسلافنا مع أسرى المسلمون، عناية واهتمامًا ونجدة، يلبون النداء ويسمعون صوت المنادي وتجهز الجيوش، وتكتب الرسائل من أجل أسارى المسلمين ثم استدار الزمان وغفا المسلمون الطلقاء من الأسر، وبقي الأسرى المسلمون في غياهب سجون مظلمة أو مرتهنين في أقفاص حديدية مؤلمة لا مجير لهم ولا ناصر إلا الله، يتفنن العدو في أذيتهم وأسلوب التعامل معهم، ويستصرخون إخوانهم المسلمين ولا مجيب، بل يطبق الصمت الرهيب إلا من رحم الله، وأكثر إيلامًا أن تدافع عن حقوقهم منظمات وهيئات لا تمت للإسلام والمسلمين بصلة، فهل أنفس المسلمين وحقوقهم رخيصة إلى هذا الحد من الإهمال. فإلى الله المشتكى وهو وحده المستعان. اللهم نفّس كرب المكروبين من المسلمين، اللهم فك أسرى المأسورين من المسلمين، واحفظ عليهم دينهم ولا تجعلهم فتنة للكافرين، اللهم آنس وحشتهم، وارحم غربتهم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله فارج الكربات مغيث اللهفات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالعدل والقسط والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والعدوان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قال -وهو الصادق الأمين-: "من نفَّس عن مؤمن كربة نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة". رواه مسلم، صحيح الجامع (5/64). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوة الإيمان: وإذا أردتم أن تدركوا حجم المأساة والظلم الذي يلحق بالمستضعفين من المسلمين، فانظروا كيف يعامل مجرمو الحرب من اليهود والنصارى، وكيف يحاكمون وماذا ثبت عليهم من العقوبات الواقعية لا مجرد الأحكام الصورية، وبين معاملة المسلمين الواقعين في أسر اليهود والنصارى!!
ألا بواكي للمسلمين؟! أين صوت العلماء؟! أين شهامة الأمراء؟! أين رجالات الإعلام؟! أين أصحاب الأموال، وأين عوام المسلمين وخواصهم من الدعاء؟! وفي سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- دعوة للدعاء للأسرى ومن وقع من المسلمين تحت طائلة فتنة الكافرين وعلى من قتل من المسلمين، وفي صحيح البخاري، باب الدعاء على المشركين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قال: سمع الله لمن حمده في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت: اللهم أنجِ عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنجِ الوليد بن الوليد، اللهم أنجِ سلمة بن هشام، اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. الفتح (11/193،ح6393).
وفي البخاري أيضًا من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية يقال لهم: القراء، فأصيبوا، فما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد على شيء ما وجد عليهم، فقنت شهرًا في صلاة الفجر ويقول: "إن عصية عصت الله ورسوله". الفتح (11/194ح6394).
فهل يا ترى يعجز المسلمون عن الدعاء لإخوانهم المستضعفين وهو من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟!
هل من دعوات صادقة تطلق في الأسحار؟! وهل يتحين المسلمون أوقات إجابة الدعاء فيدعون لرفع ما حل بالأمة من محن وبأساء؟!
عباد الله: وهل يسوغ لنا نسيان هؤلاء المستضعفين؟! هل من جهة تطالب بحقوقهم وترفع الضيم عنهم؟!
اللهم إنهم ضعفاء فانصرهم، ومأسورون ففك أسرهم، اللهم آنس وحشتهم، واحفظ عليهم دينهم، وفرج كربتهم.
إخوة الإسلام: وإذا طالبت منظمة العفو الدولية بحقوق الإنسان المنتهكة في جوانتانامو وطالبت بزيارة الأسرى، وتعيين محامين مستقلين فورًا لهؤلاء الأسرى -كما نقلت وكالات الأنباء- فأين مطالبة المنظمات الإسلامية؟!
وإذا سمح لوفد اللجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارة هؤلاء الأسرى، وسمح كذلك لوفد المسؤولين البريطانيين بزيارة الأسرى البريطانيين، فهل يا ترى يسمح لعدد من الهيئات الإسلامية، ووفود من الدول التي لها أسرى بزيارات مماثلة؟!
وإذا نقلت الصحف الأمريكية وغيرها تحالف مجموعة من رجال الدين والمحامين وأساتذة الجامعات الأمريكان للدفاع عن المعتقلين، فهل وقع مثل ذلك عند المسلمين؟!
لقد نشرت صحيفة الواشنطن بوست أن منظمة العفو الدولية ذكرت في تقريرها السنوي أن الولايات المتحدة الأمريكية خاضت الحرب على الإرهاب على حساب حقوق الإنسان، وهو الأمر الذي يضعف مصداقية أمريكا كزعيم عالمي في القضايا الإنسانية.
إننا -معاشر المسلمين- لا نعوّل كثيرًا على هذه المنظمات الغربية في الدفاع عن قضايانا والمطالبة بحقوق إخواننا المسلمين، لكننا حين نذكر ذلك للعلم بأن سوء المعاملة وهضم حقوقنا الإنسانية وصل حدًّا ضجرت منه منظمات القوم، على حين تبقى عدد من المنظمات المعنية بالأمر صامتة، فإلى متى يظل الصمت؟! وأحوال المعتقلين تزداد كل يوم سوءًا، ومصابهم وجرح أهاليهم بات عظيمًا!! كم من دمعة حرّى أراقها المعتقلون أو أريقت لهم؟! فمن يحس بهذه الدموع ويؤنس الملهوف وينتصر للمظلوم؟! ومن هدي النبوة: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا". وفي مسطور التاريخ: "وامعتصماه"، تلك التي سيرت لها الجيوش، وكان الفتح الأعظم لعمورية والانتصار للمظلومين.
رب وامعتصماه انطلقت *** ملء أفـواه الصبايا اليتم
لامسـت أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة المعتصم
واليوم:
رب وامعتصماه انطلقت *** ملء أفـواه الأسارى العزل
لامست أسماعهم لكـنها *** لم تـلامس نخوة المعتصم
عباد الله: ومهما تشدق الآخرون بمنظماتهم الإنسانية لحماية حقوق الإنسان، فيبقى الإسلام شامخًا في حماية حقوق الإنسان، ويبقى ميثاق القرآن أقوى وأسبق وأصدق، والله يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70]، ويقول -جل شأنه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ...) الآية [النحل: 90].
بل يجد المنصفون في تعاليم إسلامنا رعاية ورحمة بالحيوان فضلاً عن الإنسان، وفي الصحيح "أن رجلاً اشتد به العطش فنزل بئرًا فشرب منها ثم خرج، فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغني، فنزل البئر فسقى الكلب، فشكر الله له وغفر له". فقال الصحابة: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم لأجرًا؟! قال: "في كل كبد رطبة أجر".
ولئن كانت الرحمة بالكلب تغفر ذنوب البغايا كما في الرواية الأخرى، فإن الرحمة بالإنسان تصنع العجائب. (محمد الغزالي: خلق المسلم ص263). فأين المسلمون من تعاليم دينهم ونصرة إخوانهم؟!
التعليقات