عناصر الخطبة
1/تزكية الله لخليله إبراهيم عليه السلام 2/مناظرة إبراهيم عليه السلام لأهل الأوثان 3/تحطيم إبراهيم عليه السلام للأصنام 4/دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه 5/مجادلة إبراهيم عليه السلام لعباد الكواكب ومحاجته للنمرود 6/سرعة استجابة إبراهيم عليه السلام لأمر الله 7/فضل العمل الصالح في عشر ذي الحجة 8/أفضل القربات في عشر ذي الحجةاقتباس
هل تأملتم -يا عبادَ اللهِ- يوماً قولَه تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم: 37]؟ إنها –واللهِ- تزكيةٌ عظيمةٌ من خالقِ السماواتِ والأرضِ، وشهادةُ تقديرٍ من العليمِ الخبيرِ لإبراهيمَ -عليه الصلاة والسلام- بأنه وفىّ جميعَ ما أُمرَ به من التكاليفِ الكبيرةِ، وقامَ بجميعِ خصالِ الإيمانِ على أتمِ الوجوهِ، لذلك جعلَه اللهُ -تعالى- إماماً للناسِ يقتدون به ويأتمون بهديه؛ كما...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي شرعَ لعبادِه التقرّبَ إليه بذبحِ القُربانِ، وقرَنَ النحرَ له بالصلاةِ في محكمِ القرآنِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ذو الفضلِ والامتنانِ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه المصطفى على كلِ إنسانِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومَن تبعهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيراً.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
هل تأملتم -يا عبادَ اللهِ- يوماً قولَه تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم: 37]؟
إنها –واللهِ- تزكيةٌ عظيمةٌ من خالقِ السماواتِ والأرضِ، وشهادةُ تقديرٍ من العليمِ الخبيرِ لإبراهيمَ -عليه الصلاة والسلام- بأنه وفىّ جميعَ ما أُمرَ به من التكاليفِ الكبيرةِ، وقامَ بجميعِ خصالِ الإيمانِ على أتمِ الوجوهِ، لذلك جعلَه اللهُ -تعالى- إماماً للناسِ يقتدون به ويأتمون بهديه؛ كما قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)[البقرة: 124].
فتعالوا لنرى شيئاً مما ذكرَه اللهُ -تعالى- عن خليلِه إبراهيمَ في كتابِه المجيدِ.
لقد آتاه اللهُ -تعالى- رُشدَه صغيراً، فناظرَ أهلَ الأوثانِ بالحجةِ والبرهانِ، وأثبتَ لهم أنها أصنامٌ لا تضرُ ولا تنفعُ، ولا تبصرُ ولا تسمعُ: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[الشعراء: 70- 83].
حطمَ الأصنامَ، فجعلها حطاماً: (إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 58- 67].
ثم ألقوه في النارِ، فقال: "حسبيَ اللهُ ونعمَ الوكيلِ" فاستجابَ له ذو الفضلِ الجليلِ: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء: 69-70].
خاطبَ أباه بأجملَ خطابٍ، وأشفقَ خطابٍ: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتّبِعْنِيَ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّيْطَانَ كَانَ لِلرّحْمَـَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنّيَ أَخَافُ أَن يَمَسّكَ عَذَابٌ مّنَ الرّحْمَـَنِ فَتَكُونَ لِلشّيْطَانِ وَلِيّاً) [مريم: 42-45].
فردَ عليه أبوه بأغلظ خطابٍ، وأقسى خطابٍ: (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم: 46].
جادلَ عبَّادَ الكواكبِ، وأثبتَ لهم أنها مخلوقاتٌ مُدَبرةٌ مُسخرةٌ، تظهرُ وتغيبُ، وأما الربُ -عز وجل- فلا يغيبُ عنه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ ولا تخفى عليه خافيةٌ، بل هو الحيُ القيومُ لا إلهَ غيرُه ولا معبودَ سواه: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[الأنعام : 78-79].
حاجَّ الملكَ المتمردَ الذي ادّعى الربوبيةَ، فبيَّنَ له جهلَه وضلالَه وكَذِبَ ما ادّعاه، فقال له: (فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 258].
أُمرَ بتركِ ابنَه الرضيعَ وأمَه بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ، والذي جاءَه على كِبَرٍ، فاستجابَ وأطاعَ، فأخرجَ اللهُ -تعالى- ببركةِ هذه الطاعةِ ماءَ زمزمٍ، وبُنيتْ الكعبةُ، وفُرضَ السعيُ بينَ الصفا والمروةِ ورميُ الجمار.
وأما أعظمُ بلاءٍ تعرضَ له إبراهيمَ -عليه الصلاة والسلام- هو تلك الرؤيا التي رآها: "ورؤيا الأنبياءُ حقٌ" أنه يذبحُ ابنَه الوحيدَ إسماعيل -عليه السلام-، والذي بلغَ معه السعيَ فصارَ يسعى في مصالحِ أبيه ويساعدَه في العملِ، فعرضَ عليه الرؤيا ليُطيَّب قلبَه ويُهوَّنَ عليه الأمرَ: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)[الصافات: 102].
فما كانَ من هذا الابنُ البارُ إلا أن قال لأبيه: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102].
فعجباً لهذه العائلةِ المباركةِ، أتعجبُ من الأبِ؟ أم من الابنِ؟
هذا –واللهِ- كما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ) [الصافات: 106].
(فَلَمَّا أَسْلَمَا) لأمر الله -تعالى-: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات: 103] ألقاه على وجهِه لئلا يشاهدَه حالَ الذبحِ، ناداه اللهُ -تعالى-: (أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[الصافات: 104- 105].
وفداهُ عز وجل: (بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات: 107].
وجعلَها سنةً باقيةً إلى يومِ القيامةِ، فهي أُضحيتُكم التي تذبحونَها للهِ -تعالى- في عيدِ الأضحى.
فهل نستشعرُ ونحنُ نشتري الأضحيةَ ونذبحَها تلكَ القصةَ العظيمةَ من التسليمِ والانقيادِ؟
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمداً حمداً، والشكرُ له شكراً شكراً، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، وصفيُه من خلقِه وخليلُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلمَ تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون: جاءتكم أيامٌ مباركةُ قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عنها: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ".
فأكثروا فيهن من التسبيحِ والتحميدِ والتكبيرِ ؛ كما جاءَ عن النبيِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قالَ: (ما من أيامٍ أعظمُ عندَ اللهِ ولا أحبُ إليه العملُ فيهن من هذه الأيامِ العشرِ، فأكثروا فيهن من التهليلِ والتكبيرِ والتحميدِ".
وقد ثبتَ: "أن ابنَ عمرَ وأبا هريرةَ -رضي الله عنهم- كانا يخرجانِ إلى السوقِ أيامَ العشرِ يكبرانِ ويكبرُ الناسُ بتكبيرِهما".
والمرادُ أن الناسَ يتذكرون التكبيرَ فيكبرُ كلُ واحدٍ بمفردِه، وليسَ المرادُ التكبيرَ الجماعي بصوتٍ واحدٍ، فإن هذا غيرُ مشروعٍ.
ويُشرعُ الصيامُ في هذه الأيامُ، فعن بعضِ أزواجِ النبيِ -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كانَ النبيُ -صلى الله عليه وسلم- يصومُ تسعَ ذي الحجةِ ويومَ عاشوراء وثلاثةَ أيامٍ من كلِ شهرٍ".
ومن أفضلِ القرباتِ: الأضحيةُ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: "من وجدَ سَعةً ولم يضحِ فلا يقربَن مصلانا".
ومن أرادَ أن يضحيَ فقد قالَ النبيُ -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الحجّة وَأَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عن شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ".
عبادَ اللهِ: أكثروا من الأعمالِ الصالحةِ في هذه العشرِ فإِنَّ لِرَبِّكُمْ -عز وجل- فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا.
اللهم اقسم لنا من خشيتِك ما تحولُ به بيننا وبين معصيتِك، ومن طاعتِك ما تبلغُنا به جنتَك، ومن اليقينِ ما تهونُ به علينا مصائبَ الدنيا، ومتعنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقواتِنا ما أحييتَنا، واجعلُه الوارثَ منا، واجعل ثأرَنا على من ظلمَنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ همِنا، ولا مبلغَ علمِنا، ولا تسلط علينا بذنوبِنا من لا يخافُك ولا يرحمُنا.
التعليقات