عناصر الخطبة
1/أهمية العشر الأواخر 2/فضائل ليلة القدر 3/اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر 4/من أفضل أعمال التقرب إلى الله في العشر الأواخر 5/لحظات فريدة في عمر الإنسان 6/عروض ربانية في العشر الأواخر.اقتباس
سوق التقرب إلى الله في أيام العشر الأخير قد راجت، وأبواب خزائن الكريم قد فُتحت، فهلَّا وَلَجْنَا، ولِبَابه قرَعنا، وللكسل والخمول طرحنا، ولعظيم جوده تعرَّضْنا؟! وليالِي العشر ليالي قيام وتهجد، احرصوا -وفقكم الله- على ألا يفوتكم فيها شيء....
الخطبة الأولَى:
أيها الإخوة: كنا قبل أسابيع نتشوّف لإدراك شهر رمضان، وبفضل الله أدركناه، وها هي أيامه ولياليه تنقضي، منا مَنْ وُفِّق لاستثمارها، ومنا مَن فرَّط، والآن ها هي عَشره الأخيرة المعظمة توشك أن تحل بنا، عشرٌ فضّلها الله وخصها بليلة القدر، ليلة كثيرة الخيرات، شريفة القدر، عميقة الفضل، متنوعة البركات، قد فخّم الله شأنها، وعظم مقدارها فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)[القدر:2]؟! فقد اختصَّها بإنزال القرآن العظيم.
(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر:3]؛ أي: تعادل مِن فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها خيرٌ من العمل في ألف شهرٍ خالية منها، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول؛ حيث مَنَّ -تبارك وتعالى- على هذه الأمةِ ضعيفة القوَّة والقُوَى، بليلةٍ يكون العمل فيها خير من العمل في ألف شهر، وهذه الأشهر عُمُر رجل عُمِّرَ نيفًا وثمانين سنة.
(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا)[القدر: 4]؛ أي: يكثر نزولهم فيها (مِنْ كُلِّ أَمْر)؛ أي: من أجل كلّ أمر من الأمور التي قضى الله بها في تلك السنة؛ (سَلامٌ هِيَ)؛ أي: سالمة من كل آفة وشر، وذلك لكثرة خيرها؛ (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[الفجر: 5]؛ أي: مبتدؤها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر.
وقد كان النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلت العشر غيَّر برنامجه اليومي في رمضان، واستنفر قواه وأهلَ بيته كما قَالَتْ أُمُّنَا عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ"(رواه مسلم)، وَهُوَ الْإِزَارُ، قَالَ العُلماءُ: وَإِنَّمَا كَانَ يجْتَهد فِي الْعشْرِ لمعنيين؛ أَحدهمَا: لرجاء لَيْلَة الْقدر. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ آخر الْعَمَل، وَيَنْبَغِي أَن يحرص على تجويد الخاتمة.
وقال شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يجتهد، ويشمر، وهذا من أنواع المجاهدة؛ فالإنسان يجب أن يجاهد نفسه في الأوقات الفاضلة حتى يستوعبها في طاعة الله".
أحبتي: سوق التقرب إلى الله في أيام العشر الأخير قد راجت، وأبواب خزائن الكريم قد فُتحت، فهلَّا وَلَجْنَا، ولِبَابه قرَعنا، وللكسل والخمول طرحنا، ولعظيم جوده تعرَّضْنا؟!
وليالِي العشر ليالي قيام وتهجد، احرصوا -وفقكم الله- على ألا يفوتكم فيها شيء من صلاة التراويح ولا القيام، من تكبيرة الإحرام حتى السلام من الوتر، ولا تنصرفوا حتى ينْصرفَ الإمامُ بوجهه للمصلين؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ"(رواه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وصححه الألباني).
وَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، وبما أنَّ لياليَ العشر يكثر فيها السُّجُودَ الذي هُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وهو وضع الجبهة على الأرض بقصد التذلل والخضوع لله -تعالى-، وهي أكمل حالات التعبُّد لله والذُّلِّ له، ذلك أن الساجد يضع أشرف ما فيه وهو جبهته؛ بحذاء أسفل ما فيه وهو قدّمه، ويضعها على موطئ الأقدام، يفعل كلَّ هذا تعبُّداً لله -تعالى- وتقرُّباً إليه.
ومِن أجل هذا التَّطامن والنزول الذي فَعَلَهُ العبد لله -تعالى- كانت حالة السجود أفضلَ هيئة للمصلي، بل جعل الله -سبحانه- العبدَ فيها أقرب ما يكون إليه؛ فقد قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-). ولنزوله لله -عزَّ وجلَّ- صار أقرب إلى الله، "وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
أيها الإخوة: هذه هي الحكمة والسرّ في هذا السجود العظيم، ولهذا ينبغي لنا أن تسجد قلوبُنا قبل أن تسجدَ جوارحُنا؛ فنستشعر الذُّلَّ والتَّطامنَ والتواضعَ لله -عزَّ وجلَّ- في قلوبنا.
واعلموا أنَّ لحظاتِ السجودِ لحظاتٌ فريدةٌ في عمرِ الإنسانِ؛ لأنهُ في مقامِ القرب من الرب -جل جلاله-، وحين يستشعرُ القلبُ هذا المعاني وأمثالَه، تنفتحُ له في سجودِه عوالمُ وآفاق، وتتوالد في روحه معانٍ راقية يعجزُ القلم عن تقييدها، ومن عرف الله حقاً ذاق لذة السجود وشعر بلذة التسبيح والمناجاة التي لا تعدلها لذة في الدنيا.
ومن الحرمان الذي مُنِيت به الأمة في هذا الزمان حرمانها من لذة مناجاة الله في السجود، ونقره كنقر الغراب، وعلى أئمة المساجد ملاحظة ذلك فهم ضامنون بإمامتهم، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، اللَّهُمَّ فَأَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ"(رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
قال العيني: "أصل الضمان: الرعاية والحفظ؛ لأنه يحفظ على القوم صلاتهم، وقيل: صلاة المقتدين به في عهدته، وصحتها مقرونة بصحة صلاته؛ فهو كالمتكفل لهم بصحة صلاتهم".
وكثرة السجود سببٌ في مرافقة النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الجنة؛ فعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: "سَلْ"، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟"، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: "فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ"(رواه مسلم).
وكثرة السجود ترفع منزلة العبد عند الله -تعالى-، فَعَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ. فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً"(رواه مسلم).
أخي الحبيب: أوصيك ونفسي إذا كنّا في حال القرب من الرب الكريم الجواد البَرّ الرحيم، أن نبث إليه شكوانا بخضوع وتودد، ونلحّ عليه، وأن نبكِي بين يديه، ونفرغْ في سجودنا كل شكوانا بيقين فإنه يسمعنا ويرانا، لنبثّه الشكوى بكل تفاصيلها ونسأله حلَّها وتحويلَها؛ فوالله لن يَرُدَّك، ووالله لن يخيبك، فهو الذي يحب الملحين بالدعاء، ويستجيب للأواء.
أحبتي: ليالي العشر ليالي الدعاء، يتفرّغ فيها عموم المسلمين للطاعة، ويرفع فيها الأئمة الدعوات إلى الباري -جل وعلا- في آخر كل ليلة في قنوتهم، ويُؤمِّنُ عليها المصلون، ويلهجون جميعًا لله بالدعاء في سجودهم وجلوسهم وخلواتهم.
ما أجمل هذه اللحظات وأسعدها خصوصًا إذا استشعرنا قَوْلَ الرَسُولِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟"(متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
أحبتي: الله -جل جلاله-، الملك القدوس العزيز الجبار المتكبر، ينادي بودٍّ عبادَه فيقول: مَن يدعوني؟! من يسألني؟! من يستغفرني؟! أين نحن من هذه العروضِ الربانية الضخمة، والدعوةِ الكريمة السامية المتوددة؟! كيف يطيب لنا سمر، وكيف يطيب لنا تسوق، بل وكيف يطيب لنا نوم ونحن نعلم بهذه العروض، ونحن المحتاجون الضعفاءُ لمسألته وفضله وجوده؟! فلماذا لا نعرض حاجتنا عليه، ونُنيخ مطايانا ببابه، ونُمرّغ أنوفنا بين يديه، فمَن الذي دعاه بصدق فخيَّبه؟! بل مَن الذي انطرح بين يديه بصدق فأعرض عنه وتركه؟!
فما لنا عن هذا الباب المشرع للإجابة غافلون؟ وفي طَرقه مترددون؟ وعن وُلوجه متأخرون، وعن إجابته متثاقلون؟! آه، ثم آه، من تفريطنا وقلة عزيمتنا.
والله لو ذكرت لنا عروض تسوق مغرية لأسرعنا واستجبنا، فما لنا لا نستجيب لربنا وهو يعرض علينا هذا العرض الكريم.
اللهم يا مقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على طاعتك، وصلِّ الله على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: احذروا من الغفلة أثناء الدعاء والتأمين عليه، فقد حذّر من ذلك رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ"(رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني).
واستحضِروا معاني الدعاء، وأَظْهِروا الافتقار والذل بين يدي الله أثناء دعائكم، ولا تستبطئوا الإجابة، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الاسْتِعْجَالُ؟! قَالَ: "يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ"؛ أي: ينقطع عن الدعاء. (رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
أيها الأحبة: أدعو نفسي وإخواني من الأئمة والمأمومين لترتيب الدعاء، فندعو لأنفسنا، ونستوعب حاجاتنا، ثم ندعو لوالدينا وذريتنا وأزواجنا ومن نحب بخيري الدنيا والآخرة، ثم ندعو لإخواننا المسلمين من السابقين الأولين واللاحقين عمومًا، ثم نخص المظلومين والمعوزين، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
وندعو لولاة الأمر من العلماء والأمراء والولاة بخير؛ قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "دُعَاءُ الْمُسْلِمِ مُسْتَجَابٌ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، مَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ إِلا قَالَ لَهُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ"(رواه البغوي واللفظ له، وابن ماجه، وصححه الألباني).
قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "وفي هذه الأيام العصيبة ينبغي أن نطيل السجود وأن نكثر من الدعاء بأن يأخذ الله على أيدي الظالمين المعتدين، ونلح ولا نستبطئ الإجابة؛ لأن الله حكيم قد لا يجيب الدعوة بأول مرة أو الثانية أو الثالثة من أجل أن يعرف الناس شدة افتقارهم إلى الله فيزدادوا دعاء، والله -سبحانه وتعالى- أحكم الحاكمين، حكمته بالغة لا نستطيع أن نصل إلى معرفتها، ولكن علينا أن نفعل ما أمرنا به من كثرة الدعاء".
وصلوا وسلموا...
التعليقات