نعيم الطاعة

راكان المغربي

2023-04-18 - 1444/09/27
عناصر الخطبة
1/قصة توبة إبراهيم بن أدهم 2/لذة العيش في الطاعة 3/قانون السعادة الحقيقية 4/خطورة اتباع الشهوات 5/من الشواهد العملية على نعيم الطاعة 6/أعمال صالحة في خواتيم شهر رمضان 7/زكاة الفطر 8/صلاة العيد.

اقتباس

انظر إلى حالِ البلادِ التي تزعّمت الحضارةَ المادية، وفتحت كلَّ أبوابِ الشهواتِ الدنيوية، وغرقَ أهلُها في كلِّ أنواع الملذات والملهيات، ماذا أنتج لهم هذا السعي وراءَ حطامِ الدنيا؟! حالاتُ اكتئابٍ متزايدة! قلقٌ معيشيٌ هائل! معدلاتُ انتحارٍ غيرُ مسبوقة! انتشارٌ لتعاطي المخدراتِ والمسكراتِ هروباً من همومِ الحياةِ الثقيلة....

الخُطْبَة الأُولَى:

 

أما بعد:

كان إبراهيمُ بن أدهمَ من أصحاب الترف والغنى، فقد كان أبوه أحدَ ملوك خراسان، وكان في شبابه يعيشُ حياةَ اللهو واللعب، منغمساً في ملذاتِ الدنيا وشهواتِها، غافلاً عن الآخرةِ وسلوكِ الطريقِ القويم.

 

وفي يومٍ من الأيام، انتبه من غفلته، وفاق من رقدته، فقرّر القرارَ الجازمَ بأن يتركَ حياةَ اللهو والعبث، ويهجرَ طريق الفجور والمعاصي، ليسلك الصراط المستقيم.

 

قرر إبراهيمُ بن أدهمَ أن يسافرَ إلى العراقِ والشام، إذ كانت هي مراكز العلمِ والعلماء. وهناك انقلبت حياتُه فتحوَّل من حياةِ الغنى إلى حياةِ الفقر، وانتقل من حال الرخاء إلى حال الشدة.

 

قرَّب له يوماً صاحبُه أبو يوسف الْغَسُولِيُّ قطعاً من الخبز يابسة، كانت هي وجبتُه الرئيسيةُ والثانويةُ طوالَ اليوم، فأكل من الخبزِ اليابس وشربَ عليه من الماء، ثم قال لصاحبه: "يا أَبَا يُوسُفَ، ‌لَوْ ‌عَلِمَ ‌الْمُلُوكُ ‌وَأَبْنَاءُ ‌الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ لَجَالَدُونَا بِالسُّيُوفِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ وَقِلَّةِ التَّعَبِ".

 

الذي يقول هذا الكلامَ هو من أبناءِ الملوكِ الذين جرّبوا حياةَ الترفِ الدنيوي، والانغماسَ الشهواني، وجمعَ ما لذ وطاب من متاع الدنيا، ثم جرّب أيضا حياةَ الطاعة، ونعيمَ القرب من الله، فخرج من تجربته بهذه الخُلاصة: أن ما ذاقه من لذة العيش في الطاعة هو السعادةُ الحقيقية، والنعيمُ الأكمل، الذي لو علم عنه الناس لبذلوا أغلى ما يملكون لتحصيله.

 

مضمونُ ما قاله إبراهيم بن أدهم قد ذكره الله -سبحانه- لأبينا آدمَ -عليه السلام- حين قال له: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 123- 124].

 

لقد علّم اللهُ -سبحانه وتعالى- آدمَ قاعدةَ السعادةِ في أولِ لحظاتِ إنزالِه إلى الأرض، القاعدةُ أنك كلما اتبعتَ هدى الله كلما ابتعدت عن الضلالِ والشقاءِ، واقتربت من سعادةِ الدنيا ونعيمِ الآخرة. وكلما أعرضت عن ذكر الله وهداه كلما اقتربت من شقاءِ القلب وضَنَكِ المعيشة، وابتعدتَّ عن السعادة والنعيم.

 

قريبٌ من مثالِ إبراهيمَ بن أدهم، نموذجُ شيخِ الإسلامِ ابن تيميةَ -رحمه الله-، الذي كادوا له أعداؤه كلّ الكيد، ومكروا كل المكر، ليضيِّقوا عليه ويحبسوه ويسلبوه راحته. فكان يقول لهم بكل ثقةٍ واطمئنانٍ: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أنّى رُحتُ فهي معيَ لا تفارقُني، إن حبسي خَلْوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة". وكان يقول في محبسه بالقلعة: "لو بذلتُ ملءَ القلعةِ ذهباً ما عدل عندي شكرَ هذه النعمةِ وما تسببوا فيه من الخيرِ لي". وقال مرة: "المحبوسُ من حبس قلبَه عن ربه تعالى، والمأسورُ من أسرَه هواه".

 

ويقول عنه تلميذه ابن القيم: "وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدّها، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسَرِّهم نفساً تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامَه فيذهب ذلك كلُّه، وينقلب انشراحاً، وقوةً ويقيناً وطمأنينةً. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبواباً في دار العمل، فأتاهم من رَوْحِها، ونسيمِها، وطِيبِها ما استفرغَ قواهم لطلبِها، والمسابقةِ إليها".

 

عباد الله: يقول الله -سبحانه-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97]؛ هذا هو القانونُ الثابت: الإيمان + العمل الصالح = الحياة الطيبة.

 

ليس في مدخلاتِ المعادلةِ أن يكون الإنسانُ غنيًّا أو فقيرًا، صحيحًا أو سقيمًا، ضعيفًا أو قويا، كل هذه الأمورِ لا تؤثرُ في نتيجة المعادلة النهائية. فالحياة الطيبة إنما تنال بالإيمان والعمل الصالح في كل حالٍ وفي كل حين.

 

عاش رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كلَّ هذه الأحوالِ من غنىً وفقر، وصحةٍ وسُقْم، وضعفٍ وقوة، ولكنّه كان دائمًا منعّمًا بإيمانه، سعيدًا بطاعته، لا تفارق البسمةُ شفاهَه، ولا يَنقُصُ منسوبُ الرضا من قلبه. إن أصابته سراءَ شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءَ صبرَ فكان خيرًا له، فحياتُه أكملُ حياة، وعيشُه أحلى عيش؛ فلنا فيه أعظمُ أسوة، وأكملُ قدوة.

 

عباد الله: لقد بيّن الله -سبحانه- لنا أن الحياةَ الحقيقةَ هي في اتباعِ ما جاء اللهُ به ورسولُه من الوحي والهدى فيقول –سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[الأنفال:24].

 

قال ابن القيم: "الحياةُ النَّافعةُ إنَّما تحصُلُ بالاستجابةِ لِلَّهِ ورَسولِه، فمَن لم تحصُلْ له هذه الاستجابةُ، فلا حياةَ له، وإن كانت له حياةٌ بَهيميَّةٌ مُشتَركةٌ بينه وبين أرذَلِ الحيواناتِ؛ فالحياةُ الحقيقيَّةُ الطَّيبةُ هي حياةُ مَن استجابَ للهِ والرَّسولِ ظاهرًا وباطنًا، فهؤلاءِ هم الأحياءُ وإن ماتوا، وغيرُهم أمواتٌ وإن كانوا أحياءَ الأبدانِ؛ ولهذا كان أكمَلُ النَّاسِ حياةً أكمَلَهم استجابةً لِدَعوةِ الرَّسولِ، فإنْ كان ما دعا إليه فيه الحياةُ، فمَن فاتَه جُزءٌ منه فاتَه جزءٌ مِن الحياةِ، وفيه من الحياةِ بحَسَبِ ما استجابَ للرَّسولِ".

 

هذا هو قانونُ الحياةِ الطيبة، فما بال كثيرٍ من الناس عنه غافلون؟! ما بالهم يلهثون في أودية المعاصي، ولُجَجِ الآثام، ليحصلوا على السعادةِ في غير مظانّها، فما يجدون إلا الشقاءَ العظيم، والضلالَ المبين.

 

انظر إلى حالِ البلادِ التي تزعّمت الحضارةَ المادية، وفتحت كلَّ أبوابِ الشهواتِ الدنيوية، وغرقَ أهلُها في كلِّ أنواع الملذات والملهيات، ماذا أنتج لهم هذا السعي وراءَ حطامِ الدنيا؟!

 

حالاتُ اكتئابٍ متزايدة! قلقٌ معيشيٌ هائل! معدلاتُ انتحارٍ غيرُ مسبوقة! انتشارٌ لتعاطي المخدراتِ والمسكراتِ هروباً من همومِ الحياةِ الثقيلة! وغيرُ ذلك الكثيرُ والكثيرُ من مظاهرِ ضَنَكِ العيشِ الناتجِ عن البعدِ عن هُدَى الله ووحيِه.

 

لقد صدقَ أحدُ السلفِ حين قال متحسراً على مثل أولئك: "مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبه الله -تعالى- ومعرفته وذكره والأُنس به.

 

اللهم ارزقنا لذة عبادتك، ونعيم طاعتك، وحلاوة مناجاتك، والأُنس بقربك.

 

بارك الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: عباد الله: إن من أعظمِ الشواهدِ العمليةِ على عظم نعيم الطاعة، هو ما يعيشه المسلم في رمضان من لذة العبادة، والأنسِ بالقربِ من اللهِ -سبحانه-. ففي رمضان يقبل المسلمُ على كثير من الطاعات، من صيامٍ وقيامٍ، وصدقةٍ وذكرٍ وقراءة قرآن، فيعمرُ أوقاتَه بالطاعة، ويبتعدُ عن المعصية، فيستشعرُ حينها حلاوةَ الإيمان، وتحلقُ روحُه عالياً في سعادةٍ وسرور.

 

لقد زاد منسوبُ الطاعةِ في رمضان؛ فزاد منسوبُ السعادةِ في قلوبنا، ونقص منسوبُ المعصيةِ فتبددت الوحشةُ من صدورنا. إن في ذلك لأعظمُ شاهدٍ واقعيٍّ على نعيمِ الطاعة.

 

فأقبلوا فيما بقي من شهركم على الطاعات، واغتنموا آخرَ الليالي، وشمّروا عن سواعدِ الجد، فإنما الأعمالُ بالخواتيم، وإنما العبرةُ بالنهايات، ختم لنا ولكم رمضان بالغفران، والعتق من النيران، وثبتنا على طاعته حتى نلقاه.

 

عباد الله: اعلموا أنه "قَد شَرَعَ الله لَكُم في خِتَامِ هَذَا الشَّهرِ زَكَاةَ الفِطرِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ لَهُ فَضلٌ عَن قَوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ لَيلَةَ العِيدِ، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قَالَ : "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ زَكَاةَ الفِطرِ مِن رَمَضَانَ، صَاعًا مِن تَمر، أَو صَاعًا مِن شَعِيرٍ، عَلَى العَبدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَن تُؤَدَّى قَبلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلى الصَّلاةِ".

 

وَالأَفضَلُ إِخرَاجُهَا قَبلَ الصَّلاةِ مِن يَومِ العِيدِ، وَلا يَجُوزُ تَأخِيرُهَا إِلى مَا بَعدَ الصَّلاةِ، وَمَن أَخَّرَها بِغَيرِ عُذرٍ فَهُوَ آثِمٌ، وَيَجِبُ عَلَيهِ إِخرَاجُهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ زَكَاةَ الفِطرِ طُهرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعمَةً لِلمَسَاكِينِ، فَمَن أَدَّاهَا قَبلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقبُولَةٌ، وَمَن أَدَّاهَا بَعدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ".

 

وَيَجُوزُ أَن تُخرَجَ قَبلَ العِيدِ بِيَومٍ أَو يَومَينِ، وَفي البُخَارِيِّ: كَانَ ابنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- يُعطِيهَا لِلَّذِينَ يَقبَلُونَهَا, وَكَانُوا يُعطَونَ قَبلَ الفِطرِ بِيَومٍ أَو يَومَينِ.

 

وَمِمَّا شَرَعَهُ اللهُ لَنَا صَلاةُ العِيدِ، شعيرةً عظيمةً من شعائر المسلمين، وقد أُمرنا بأن نخرج إليها جميعا رجالاً ونساءً، كبارًا وصغارًا، ففي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "أُمِرْنَا أَن نُخرِجَ الحُيَّضَ يَومَ العِيدَينِ وَذَوَاتِ الخُدُورِ، فَيَشهَدْنَ جَمَاعَةَ المُسلِمِينَ وَدَعوَتَهُم، وَتَعتَزِلُ الحُيَّضُ عَن مُصَلاَّهُنَّ".

 

وَمِمَّا شَرَعَهُ اللهُ لَنَا َالتَّكبِيرُ مِن غُرُوبِ الشَّمسِ لَيلَةَ العِيدِ حَتَّى انقِضَاءِ صلاة العيد تطبيقًا لأمر الله وشكرًا لنعمته، كما قال -سبحانه-: (وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ)[البقرة:185].

 

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life