عناصر الخطبة
1/قصة أبي الدحداح والحائط 2/الدروس المستفادة من القصةاقتباس
إِيثَارُ الأَجْرِ الْبَاقِي عَلَى الأَجْرِ الْفَانِي مِنَ الصَّحَابِيِّ أَبِي الدَّحْدَاحِ الَّذِي آثَرَ بُسْتَانَهُ الَّذِي بِهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ بِنَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْجَنَّةِ؛ وَذَلِكَ لأَنَّهُ ضَمِنَ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِهَذَا الْعَرْضِ الْمُبَارَكِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: “أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ لِفُلَانٍ نَخْلَةً، وَأَنَا أُقِيمُ حَائِطِي بِهَا، فَأْمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِي حَتَّى أُقِيمَ حَائِطِي بِهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: “أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ” فَأَبَى ! فَأَتَاهُ أَبُو الدَّحْدَاحِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي؛ -أَيْ بِبُسْتَانِيِ- فَفَعَلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي، قَالَ: فَاجْعَلْهَا لَهُ، فَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: “كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ” قَالَهَا مِرَارًا. فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَتْ: رَبِحَ الْبَيْعُ - أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا”(صححه الألباني).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذِهِ قِصَّةُ رَجُلٍ جَاءَ لِلرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَشْكُو لَهُ مِنْ جَارِهِ الَّذِي يُوجَدُ لَدَيْهِ نَخْلَةٌ بِجِوَارِ بَيْتِهِ تَمْنَعُهُ مِنْ إِقَامَةِ جِدَارٍ فِي بُسْتَانِهِ، وَطَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَأْمُرَ جَارَهُ بِأَنْ يَبِيعَهَا لَهُ، فَقَامَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِاسْتِدْعَاءِ جَارِهِ، وَقَالَ لَهُ: “أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ” وَلَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الإِلْزَامِ مِنَ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَإِلاَّ لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُهُ، وَإِنَّمَا عَلَى سَبِيلِ الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يُوَافِقْ عَلَى طَلَبِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَعِنْدَمَا سَمِعَ أَبُو الدَّحْدَاحِ طَلَبَ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذَهَبَ إِلَى الرَّجُلِ وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ نَخْلَتَهُ هَذِهِ بِحَدِيقَتِهِ الَّتِي بِهَا سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى.
فَسُرْعَانَ مَا وَافَقَ الرَّجُلُ، وَذَهَبَ بَعْدَهَا أَبُو الدَّحْدَاحِ إِلَى الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي، فَاجْعَلْهَا لَهُ، فَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: “كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ لأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ”؛ أَيْ: كَمْ مِنْ غُصْنٍ ثَقِيلٍ بِحِمْلِهِ فِي الْجَنَّةِ لأَبِي الدَّحْدَاحِ؛ قَالَهَا مِرَارًا.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِيهَا مِنَ الدُّرُوسِ النَّافِعَةِ، وَالْفَوَائِدِ الْمَاتِعَةِ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ، وَالَّتِي مِنْهَا:
إِيثَارُ الأَجْرِ الْبَاقِي عَلَى الأَجْرِ الْفَانِي مِنَ الصَّحَابِيِّ أَبِي الدَّحْدَاحِ الَّذِي آثَرَ بُسْتَانَهُ الَّذِي بِهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ بِنَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْجَنَّةِ؛ وَذَلِكَ لأَنَّهُ ضَمِنَ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِهَذَا الْعَرْضِ الْمُبَارَكِ.
وَنَخْلُ الْجَنَّةِ -يَا عِبَادَ اللهِ- لاَ تُشَابِهُ نَخْلَ الدُّنْيَا إِلاَّ فِي الاِسْمِ فَقَطْ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: “نَخْلُ الْجَنَّةِ سَعْفُهَا كِسْوَةٌ لأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ -أَيْ: قُمُصُهُمْ- وَمِنْهَا حُلَلُهُمْ، وَكَرَبُهَا ذَهَبٌ أَحْمَرُ، وَجُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، وَثَمَرُهَا أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، وَلَيْسَ لَهُ عَجْمٌ”(صححه الألباني).
وَمِنَ الدُّرُوسِ النَّافِعَةِ، وَالْفَوَائِدِ الْمَاتِعَةِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ: أَنَّ الْمُسَارَعَةَ إِلَى الْخَيْرَاتِ دَلِيلٌ عَلَى امْتِثَالِ الْعَبْدِ لأَمْرِ رَبِّهِ، الْقَائِلِ: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 133]، وَيَقُولُ: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)[الحديد: 21]، وَالْمَعْنَى: بَادِرُوا يَا مُؤْمِنُونَ إِلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَتَنَافَسُوا فِي تَقْدِيمِ الْخَيْرَاتِ، وَلاَ تُضَيِّعُوا الأَوْقَاتَ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَلاَ تُؤْثِرُوا الْحَيَاةَ الْعَاجِلَةَ وَتَتْرُكُوا الْبَاقِيَةَ؛ فَإِنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
وَمِنَ الدُّرُوسِ النَّافِعَةِ، وَالْفَوَائِدِ الْمَاتِعَةِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ:
أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ هَيِّنًا لَيِّنًا سَمْحًا رَفِيقًا؛ فَهَذِهِ الْخِصَالُ الْعَظِيمَةُ، وَالْمَعَانِي الْجلِيلَةُ: كُنُوزٌ مَطْلُوبَةٌ، وَأَخْلاَقٌ مَحْبُوبَةٌ، وَأَعْمَالٌ مَرْغُوبَةٌ فِي إِسْعَادِ الآخَرِينَ، وَتَحَمُّلِ أَذَاهُمْ وَالصَّفْحِ عَنْ زَلاَّتِهِمْ، وَالتَّوَاضُعِ لَهُمْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[الشورى: 40].
وَخُصُوصًا إِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْجَارِ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: “خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ”(رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني).
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلاً صَالِحًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنَ الدُّرُوسِ النَّافِعَةِ، وَالْفَوَائِدِ الْمَاتِعَةِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ: هَذِهِ الزَّوْجَةُ التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ الصَّالِحَةُ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: بِالظَّفَرِ بِأَمْثَالِهَا عِنْدَمَا قَالَ: “فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ؛ تَرِبَتْ يَدَاكَ”(متفق عليه).
لَمَّا أَتَى إِلَيْهَا زَوْجُهَا فَقَالَ: “يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، اخْرُجِي مِنَ الْبُسْتَانِ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ” فَقَالَتْ: رَبِحَ الْبَيْعُ - أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا.
امْتَثَلَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ لأَمْرِ زَوْجِهَا، وَأَطَاعَتْهُ فِيمَا أَرَادَ، دُونَ اسْتِفْصَالٍ عَنِ الْحَالِ أَوْ رَدٍّ بِمَقَالٍ؛ وَذَلِكَ لأَنَّ الثَّمَنَ الْجَنَّةُ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَسَارِعُوا إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَاسْتَغِلُّوا جَمِيعَ الأَوْقَاتِ قَبْلَ الْمَمَاتِ؛ وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا”(رَوَاهُ مُسْلِم).
التعليقات