عناصر الخطبة
1/ معايشة النبي صلى الله عليه وسلم لهموم أمته 2/ شروط الانتفاع بالموعظة 3/ مشهد عجيب يمثل الفقر والبؤس والمجاعة بأقوى درجاتها 4/ الموقف الشرعي الصحيح من أهل الفقر والبؤس والبلاء 5/ صفات المروءة والكرم والأخوة الإيمانية في حياة الصحابة 6/ المنهج النبوي في التعامل مع أحوال المسلمين الفقراء 7/ من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته 8/ كن سابقًا في الخيراتاهداف الخطبة
اقتباس
من يقف مع المسلمين من عباد الله الذين تصيبهم نوازل المجاعات والكوارث والجفاف والحروب وظلم الظالمين، فيحل بهم الفقر والتشرد واللجوء والعيش بالعراء والتحاف السماء وافتراش الأرض والهجران للبيوت والقرى والمنازل- ابتلاء وامتحانًا لهم ولغيرهم؟ من يقف معهم إن لم نقف نحن المسلمين المؤمنين الموحدين؟ من يطعم جائعهم؟ من يؤوي طريدهم؟ من يلبس عاريهم؟ من يسد رمق صبيانهم ويسكت أنات أطفالهم؟ من يمسح دموع والديهم؟!!
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله..
وبعد: في هذه الخطبة نقف معًا أمام مشكلة إنسانية، وكيف قام النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاطي معها، في هذه الخطبة نعيش مع نبينا صلى الله عليه وسلم وهو يتخذ موقفًا يمليه عليه دينه من فاجعة حدثت في مجتمعه المسلم.
دعونا -أيها الإخوة- نشاهد هذا الحدث ونستمع كلنا إلى فصول قصته، كيف بدأت وكيف انتهت، ولكن قبل أن ننطلق إلى رواية هذا الحدث، أسأل الله لي ولكم أن نكون ممن قال الله فيهم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37]، فالانتفاع بالمواعظ مرهون بصدق الاستماع وصفاء القلب وإخلاص القصد وحضور العقل.
أيها الإخوة المؤمنون: روى الإمام مسلم في صحيحه، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهَارِ (أي في أوّله)، قَالَ: "فجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ، عُرَاةٌ، مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ..."
هذا هو المشهد الإنساني المؤلم الذي وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى مرأى منه ومن أصحابه المتحلقين حوله، مجموعة من المسلمين من إحدى القبائل ومن يعيشون في ديار المسلمين، دخلوا المدينة المنورة بحالة يرثى لها من شدة الفقر والحاجة لدرجة أنهم كانوا حفاة، يمشون على الأرض بلا أحذية تحمي أقدامهم من حر الأرض ووعورة الطريق، وكانوا شبه عراة قد أكل الفقر ألبستهم ومزقت المجاعة أرديتهم، فوصفهم الصحابي بقوله: "مُجْتَابي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ"، قال شراح الحديث: "والاجتباب: التقطيع والخرق، ومنه قوله تعالى: (الَّذين جَابُوا الصَّخْر بِالْوَادِ) [الفجر: 9]؛ أي: قطعوها وخرقوها، والنِّمَارِ كساء مخطط من صوف، و"العباء": أكسية غلاظ مخططة، أي: لابسي النمار قد خرقوها في رؤوسهم وقوّروا وسطها"، فهؤلاء فوق ضرّ الجوع وقلّة الطعام وجفاف اللسان وخواء البطن، وصل الأمر بهم إنهم لبسوا الصوف الغليظ بعد أن قطعوه ليستروا به عوراتهم على الأقل ويتقاسموا بينهم ما يزيد فوق ذلك.
إنه -حقًّا- مشهد يمثل الفقر والبؤس والمجاعة بأقوى درجاتها، وهو مشهد تكرر في السابق وما زال يتكرر وسيبقى يتكرر ما شاء الله ذلك، مشهد الفقر والجوع والبؤس والمجاعة يتكرر في بلاد مسلمة كما يتكرر في بلاد غير مسلمة، هذا المشهد الإنساني المؤلم، قد يحدث بصورة أو بأخرى داخل الأسرة الواحدة، حيث يتنعم بعض الإخوة بالمال ويتلذذ بأشهى أنواع الطعام وأخته فقيرة أو أخوه بائس، ولكنه لا يلقي لهم بالاً.
هذا المشهد يتكرر في القرية المسلمة وفي المدينة المسلمة وفي المجتمع المسلم وفي ديار المسلمين حيث يتلوى مسلمون كثر من الفقر وتنزل ببعضهم المجاعة لدرجة موت أطفالهم -كما يحدث في الصومال-، وتحلّ ببعضهم الكارثة فلا يجد حليبًا لأطفاله -كما نجد ذلك في بيوت غزة وفي خيم اللاجئين المظلومين من أهلنا في سوريا- تحدث مشاهد الفاقة وتتكرر حوادث المجاعة، وتتنوع نوازل الفقر والمسكنة والبؤس في ديار المسلمين، فماذا عسانا فاعلين؟
لنتابع ذلك المشهد الذي حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لنرى ما فعل، ولنقتدي به صلى الله عليه وسلم بما فعله، فهو قدوتنا الأول والخير، ولا خير فينا إن لم نقتد به صلوات الله وسلامه عليه.
يقول الصحابي الذي يروي لنا الحديث متابعا وصفه لهذا المشهد، بعد أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حالهم هذه، وهم حفاة عراة مجتابي النِّمار، يقول: "فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ..."
قال شراح الحديث: أي تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهر عليه آثار الحزن. وكيف لا يحزن ولا يتأثر وهو الذي وصفه ربه فقال فيه: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
فما الذي أحزنك يا رسول الله؟ ما الذي جعل وجهك يتمعر لهذه الدرجة يا رسول الله؟ ما الذي أهمك وأزعجك؟ الجواب هو ما قاله راوي الحديث: "لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ"؛ لأنه رأى أناسا مسلمين مُوَحّدين لا يجدون ما يلبسون، ولا يجدون ما يأكلون، فهم أناس قد جعلوا من الرمال أحذية لهم، ومن خِرَق الصوف أردية لأجسادهم وعوراتهم، أناسا قد ضمرت بطونهم وجفت ألسنتهم، فحزن لأجل ذلك، وتمعّر وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم.
فكيف لو رأى رسولنا صلى الله عليه وسلم جماعات موحّدة من أمته يلفظون أنفاسهم الأخيرة لأنهم لا يجدون كسرة من الخبز؟ كيف لو رأى أمهات مؤمنات، قد نشفت ضروعهن ويبست أجسادهن فلا يجدن ما يرطبن به حلوق أطفالهن؟ كيف لو رأى شيوخا هرمة عابدة، يستجدون الناس في الطرقات من أجل لقيمات يقمن صلبهم؟ كيف لو رأى دولا مسلمة، ينخر الجوع في مفاصلها والبؤس في مدنها والجفاف في قراها، كما هو الحال في الصومال وفي جزر القمر؟ فما هي الحال التي عسانا نراه عليها صلوات ربي وسلامه عليه؟
والسؤال الآن -أيها الإخوة المؤمنون- ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما رأى هذا الحال من البؤس والفقر قد أصابت قوماً مؤمنين؟ هل اكتفى بمجرد التأثر والحزن على حالهم؟ هل اكتفى حتى بمجرد الدعاء لهم فقط؟ هل اكتفى بالقول: لهم الله؟ هل اكتفى بالحوقلة؟ هل قال في نفسه هناك أهل خير غيري سوف يساعدونهم؟ لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل شيئا من ذلك أبدا. فما إذاً فعل أمام واقع إنساني مؤلم؟ لنستمع إلى "شاهد العيان" يكمل لنا هذا المشهد، حيث يقول: "فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ..."
قال شراح الحديث: أي "دخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيته لعله أن يجد في البيت ما يدفع به فاقتهم، فلَعَلّه ما وجد فخرج، أو دخل لتجديد الطهارة" ثم خرج إلى الناس، فأمر بلالاً بالأذان، فأذن وأقام الصلاة، فصلّى إحدى الصلوات المكتوبة، والظاهر أنها الظهر لقوله "في صدر النهار"، ثم قام النبي صلوات الله وسلامه عليه بالناس خطيبًا، لماذا سيخطب؟ لأجل هؤلاء الفقراء المحتاجين، نعم لأجلهم، لأنه يريد أن يساعدهم، وأن يجد لهم مخرجا مما هم فيه، فلم يقف النبي صلى الله عليه وسلم محوقلاً وحزينًا فقط، بل بادر بخطبة مؤثرة، قال الراوي في وصفها:
ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: «(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1] وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) [الحشر: 18]، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».
بهذه الآيات الكريمات استثار النبي صلى الله عليه وسلم وازع الإيمان والأخوة في نفوس المؤمنين الموحدين الذين يستمعون إليه، فقرأ عليهم آية النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، قال شراح الحديث: " سبب قراءة هذه الآية وهي أول النساء أنها أبلغ في الحث على الصدقة عليهم؛ ولما فيها من تأكد الحق لكونهم إخوة"، وأثار دافعيتهم للعمل الصالح بآية الحشر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يحث المسلمين بشكل مباشر على تقديم المساعدة المادية والإعانات الإنسانية لإخوانهم المحتاجين الفقراء الذين ينتظرون منهم كل خير وعون ومساعدة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته مرغّبًا ومشجعًا وحاثًّا وداعيًا: «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، قال شراح الحديث:" (تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ) بفتح القاف صيغة ماضٍ بمعنى الأمر، وذكر بصيغة الإخبار مبالغة فكأنه أمره وامتثل به فأخبر عنه به"، وهذا لشدة رغبته صلى الله عليه وسلم في أن يستجيب الناس لدعوته هذه في تقديم العون لإخوانهم المسلمين الجياع والعراة، وهذا صدقٌ وإخلاصٌ وعظيمُ رحمةٍ منه صلى الله عليه وسلم بحال هؤلاء وحبّه لإنقاذهم وإطعامهم وكسوتهم. وتأملوا معي قول النبي صلى الله عليه وسلم : «وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، قال شراح الحديث: "في ذلك تحريض على الصدقة، وأنه لا يستحقر منها شيء".
فماذا كانت ردة فعل الصحابة رضوان الله عليهم؟ ماذا فعلوا لإخوانهم في العقيدة من الفقراء والمحتاجين والمنكوبين وقد رَأوا حالهم ولامسوا حاجتهم وعوزهم؟ ماذا صنعوا؟ هل كل واحد منهم بقي مكانه وقال غيري سوف يتصدق ويقدم لهم المساعدات؟ لنستمع لراوي الحديث يكمل لنا بقية المشهد، فيقول: "فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ".
نعم، هذا ما صنعه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين ربّاهم أحسن التربية: على معاني الأخوة في الدين، وعلى معاني فعل الخيرات والقربات، وعلى معاني التكافل والتراحم والإحسان، وعلى معنى العمل للآخرة وابتغاء أجر الصدقات من الله، وادخاره ليوم لا ينفع فيه المال ولا البنون، والذين رباهم على معاني الابتلاء ومناصرة الضعفاء، والوقوف مع كل مسلم في محنته وعدم إسلامه وخذلانه، فجاء موقفهم هنا بقدر ذلك كله، فقدموا لهؤلاء الفقراء والمحتاجين والعراة ما يحتاجونه بسرعة كبيرة، فجاؤوهم بالنقد وبالطعام وباللباس، حتى جمعوا لهم مجمعة طيبة وصفها راوي الحديث بقوله: "حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ"، وَالْكَوْم الْعَظِيم مِنْ كُلّ شَيْء.
فجمع المسلمون من بيوتهم ومن مالهم ومما أعطاهم وأغناهم ربهم الطعام واللباس، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى من سرعة إقبال أصحابه على الاستجابة لأمره وتقديم العون لإخوانهم وتفريج كربهم وسدّ جوعتهم، عبّر عن موقفه من ذلك كله بالفعل والقول، كيف ذلك؟
لنستمع إلى راوي الحديث يقص علينا خاتمة هذا المشهد فيقول: "حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ،حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ».
فهذا هو رد فعله صلى الله عليه وسلم على ما رأى وشاهد وعايش المشكلة وحلها بنفسه، يعبر عن ذلك بالفعل، حيث "يَتَهَلَّلُ وجهه كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ"، قال شراح الحديث: "أَيْ يَسْتَنِير فَرَحًا وَسُرُورًا،كَأَنَّهُ فِضَّة مُذْهَبَة، وهُوَ وصف أَبْلَغ فِي حُسْن الْوَجْه وَإِشْرَاقه. وَأَمَّا سَبَب سُرُوره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَفَرَحًا بِمُبَادَرَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى طَاعَة اللَّه تَعَالَى، وَبَذْل أَمْوَالهمْ لِلَّهِ، وَامْتِثَال أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِدَفْعِ حَاجَة هَؤُلَاءِ الْمُحْتَاجِينَ، وَشَفَقَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتَعَاوُنِهِمْ عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى، وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ إِذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذَا الْقَبِيل أَنْ يَفْرَح وَيُظْهِرَ سُرُورَهُ، وَيَكُون فَرَحُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ".
وأما تعبيره عما رآه بالقول، فهو حيث قال: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ»، وقد قال شراح الحديث في معناه:"فِيهِ الْحَثّ عَلَى الِابْتِدَاء بِالْخَيْرَاتِ وَسَنّ السُّنَن الْحَسَنَات، وَالتَّحْذِير مِنْ اِخْتِرَاع الْأَبَاطِيل وَالْمُسْتَقْبَحَات، وَسَبَب هَذَا الْكَلام فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّله: "فَجَاءَ رَجُل بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا ، فَتَتَابَعَ النَّاس"، وَكَانَ الْفَضْل الْعَظِيم لِلْبَادِي بِهَذَا الْخَيْر، وَالْفَاتِح لِبَابِ هَذَا الْإِحْسَان".
فكنْ -يا أيها المؤمن- من السابقين إلى تقديم العون المادي لكل مسلم فقير ولكل عبد محتاج وما أكثرهم في زماننا، وكن أول من يبدأ الأمر ويشجع الآخرين ويحثهم لتكن لك سنة حسنة يجري عليك أجرها .
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين... والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين...
وبعد: نعم -يا أيها الإخوة المؤمنون- هذا هو المنهج النبوي في التعامل مع أحوال المسلمين الفقراء، إنه منهج يقوم على الحل العملي لمشكلاتهم وتقديم ما يكفيهم وحث أخوة العقيدة على الوقوف إلى جانبهم.
فمن يقف مع أولئك المسلمين من عباد الله الذين تصيبهم نوازل المجاعات والكوارث والجفاف والحروب وظلم الظالمين، فيحل بهم الفقر والتشرد واللجوء والعيش بالعراء والتحاف السماء وافتراش الأرض والهجران للبيوت والقرى والمنازل- ابتلاء وامتحانًا لهم ولغيرهم؟
من يقف معهم إن لم نقف نحن المسلمين المؤمنين الموحدين؟ من يطعم جائعهم؟ من يؤوي طريدهم؟ من يلبس عاريهم؟ من يسد رمق صبيانهم ويسكت أنات أطفالهم؟ من يمسح دموع والديهم؟ من يجعل عيونهم الساهرة من ألم الجوع تغفو؟ وأجسادهم التي ترتجف من لسع البرد تسكن؟ من يجعل عباد الله هؤلاء يجدون ماء غير ما الشرب ليتوضئوا فيه فيعبدون خالقهم سبحانه؟
من يُبقي على ستر المؤمنات ملتحفات به لا يمزعن أطرافه لِيلبِسْنه أطفالهم؟ ولقد رأينا مسلمات فقيرات وجائعات وتائهات في الصحراء والطرقات مع أطفالهن لا تقوى الواحدة منهن على الكلام، ولكنها متسترة بحجابها وجلبابها، فالفقر والجوع الذي عضها وأبكى أطفالها لم تسمح له بأن يزيح سترها ويكشف محارمها. أليست هذه المؤمنة العفيفة تفدى بمال الدنيا كله، أليست هي أحق مَنْ على وجه الأرض أن يمدّ لها إخوانها في الدين وأخواتها في الحجاب يَدَ العون والمساعدة، استجابة لقول ربنا سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].
يا عبد الله: أنفق على الفقير، وأغث الجياع والمنكوبين من إخوانك المسلمين، عملا بقول قدوتنا صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ».
فهذه هي معاني عقد الأخوة بين المؤمنين، وهذه هي معاني الإحسان، وأفعال المحسنين الذين يحبهم رب العالمين.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا ... يا رب العالمين..
التعليقات