عناصر الخطبة
النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرادَ أن يَدُلَّ أمَّتَهُ على شفاءِ القلبِ من الشُّبهاتِ والشَّهواتِ، ووسيلةِ الثَّباتِ على الحقِّ حتى المماتِ؛ لأنَّ القلبَ يتقلَّبُ أشدَّ من تقلُّبِ القدورِ، ولا يسكنُ ويطمئنُ إلا بذكرِ العزيزِ الغفورِ...اقتباس
1/وصية نبينا بالإكثار من الذكر في العشر من ذي الحجة 2/سر هذه الوصية وبيان أسبابها
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102], (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].
أَمَّا بَعْدُ: عندما أخبرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن فضلِ عشرِ ذي الحِجةِ وقالَ: "ما من أيَّامٍ أعظمُ عندَ اللهِ، ولا أحبُّ إليهِ العملُ فيهنَّ؛ من هذه الأيَّامِ العَشرِ"، أوصى أمَّتَه فيها بأمرٍ عظيمٍ مَجيدٍ، فقالَ: "فأكثِروا فيهنَّ من التَّهليلِ والتَّكبيرِ والتَّحميدِ".
وقد يتبادرُ إلى الذِّهنِ: ما هو السِّرُ في وصيتِه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بذكرِ اللهِ -تعالى-؟، وهو الذي وصفَ اللهُ -سُبحانَه- حُبَّهُ لأمَّتِهِ بقولِه: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128].
قد يكونُ السببُ: أنَّهُ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أرادَ لأمَّتِه أن يزدادوا من الخيراتِ، فأوصاهم بذِكرِ اللهِ الذي يُعينُ على سائرِ العباداتِ، فعندما جاءَ رَجلٌ إلى رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقَالَ: يا رسولَ اللهِ! إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به، وهذا لا يعني أنَّه يريدُ عبادةً واحدةً فقط ويتركُ الباقي، ولكن يُريدُ عبادةً تُعينُه على المحافظةِ على شرائعِ الإسلامِ الكثيرةِ، فقالَ لهُ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يزالُ لسانُكَ رطبًا من ذكرِ اللهِ"، عندها ستهونُ عليكَ جميعُ العباداتِ، وستصبحُ مبادراً بالصَّالحاتِ، حريصاً على الخيرِ والطَّاعاتِ.
وقد يكونُ السببُ: هو سهولةُ ويُسرُ هذه العبادةِ على الجميعِ، الصَّغيرُ والكبيرُ، الذَّكرُ والأنثى، العالمُ والجاهلُ، الفارغُ والمشغولُ، المريضُ والصَّحيحُ، الغنيُ والفقيرُ، لا تحتاجُ إلى طهارةٍ، ولا إلى استقبالِ قِبلةٍ، ولا إلى مكانٍ مُخصَّصٍ، ولا زمانٍ محدودٍ، ولا هيئةٍ مُعيَّنةٍ، (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[آل عمران: 191] ، فكانَ من رحمةِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأمتِّه أن أوصاهم بأسهلِ العباداتِ، حتى لا يفوتَ عليهم فضلُ هذه الأيامِ المُباركاتِ.
وقد يكونُ السببُ: أنَّ عشرَ ذي الحِجةِ هي موسمٌ للمسابقةِ إلى الصَّالحاتِ، واللهُ -تعالى- قد أوصى عبادَه بقولِه: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[البقرة: 148]، فمن يا تُرى يسبقُ في هذهِ الأيامِ المباركةِ؟، اسمعْ إلى رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يقولُ لأصحابِهِ: "سَبَقَ المُفَرِّدُونَ"، قالوا: وَما المُفَرِّدُونَ, يا رَسولَ اللهِ؟، قالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ"، كلماتٌ يسيراتٌ مُباركاتٌ، يسبقُ بها الصَّالحونَ والصَّالحاتُ، في زَمنِ التَّنافسِ والخيراتِ.
وقد يكونُ السببُ: أنَّ العملَ الصَّالحَ في هذه العشرِ هو أحبُّ إلى اللهِ من غيرها؛ كما قالَ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ"، فأوصانا -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بالإكثارِ من ذكرِ اللهِ؛ لأنَّهُ من خيرِ الأعمالِ وأحبِّها إلى اللهِ؛ كما قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم، ويَضْرِبوا أعْناقكُم؟"، قالوا: بَلَى، قال: "ذِكْرُ اللهِ".
وقد يكونُ السببُ: هو تدريبُ العبدِ على الذِّكرِ في هذه الأيامِ؛ حتى يعتادَ لسانُه هذه العبادةَ على الدَّوامِ، فذكرُ اللهِ -تعالى- هو العلامةُ الفارقةِ بينَ أهلِ الإيمانِ وأهلِ النِّفاقِ، فالمؤمنُ يذكرُ اللهَ كثيراً كما أوصاهُ اللهُ -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الأحزاب: 41، 42]، وأما المنافقونَ فقد وصفَهم اللهُ -تعالى- بقولِه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء: 142]، فانظرْ إلى حالِك من ذكرِ اللهِ، تَعرفْ قَدرَكَ ومنزلتَكَ عندَ اللهِ.
وقد يكونُ السببُ: أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرادَ أن يَدُلَّ أمَّتَهُ على شفاءِ القلبِ من الشُّبهاتِ والشَّهواتِ، ووسيلةِ الثَّباتِ على الحقِّ حتى المماتِ؛ لأنَّ القلبَ يتقلَّبُ أشدَّ من تقلُّبِ القدورِ، ولا يسكنُ ويطمئنُ إلا بذكرِ العزيزِ الغفورِ؛ كما قالَ -سبحانَه-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28]، وكم نحتاجُ اليومَ إلى ما تَسكنُ به القلوبُ، وتطمئنُ إلى أقدارِ علَّامِ الغيوبِ!.
فلكَ المحامدُ والمدائحُ كُلُّها *** بخَواطِري وجَوانحي ولِساني
أقولُ ما تَسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ؛ إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي أَمرَ بذكرِه، ورَتَّبَ على ذلك عَظيمِ أَجرِه، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أعظمِ النَّاسِ ذِكراً لربَّه نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه ومن سَارَ على دَربِه، أما بَعد:
وقد يكونُ السببُ: أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرادَ ربطَ أمتِّه بربِّهم -عزَّ وجلَّ-، دونَ الحاجةِ إلى واسطةٍ مِنْ مَلَكٍ مُقرَّبٍ، أو نبيٍّ مُرسلٍ، في أعظمِ مقاماتِ التَّوحيدِ؛ كما قالَ -تعالى-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)[البقرة: 152]، تَذكرُ في الأرضِ، تُذكَرُ في السَّماءِ، وفي الحديثِ القُدسيِّ: "وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ"، يقولُ يَحيى بنُ مُعاذٍ: "يا غَفولُ يا جَهولُ! لو سَمعتَ صَريرَ الأقلامِ في اللَّوحِ المحفوظِ وهيَ تَكتبُ اسمَكَ عِندَ ذِكرِكَ مَولاكَ، لمِتَّ شَوقًا إلى مَولاكَ".
واذكُرهُ يذكُرْكَ واستغفِرهُ من زَللٍ *** واشكُرْ يزدْكَ من الخَيراتِ والنِّعَمِ
وقد يكونُ السببُ: أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد جاءَ بالوحي الذي هو روحٌ يُحيي بهِ اللهُ -تعالى- موتَ القلوبِ؛ كما قالَ تعالى: (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الشورى: 52]، ولذلكَ أوصانا بذكرِ اللهِ -تعالى- لأنَّ بهِ حياةَ النَّاسِ والقلوبِ؛ كما قالَ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ".
وقد يكونُ السَّببُ: أن كثرةَ الذِّكرِ في الرَّخاءِ، سببٌ لاستجابةِ الدُّعاءِ في البلاءِ؛ (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[الصافات: 143، 144]، وهكذا قد تكونُ أسبابٌ كَثيرةٌ، في منافعِ الذِّكرِ الكبيرةِ.
فُزْ بالثَّـوابِ ووافِـرِ الحسـناتِ *** بيسيرِ ذِكرٍ واغنَمِ اللحـظَـــاتِ
سبِّحْ بحمدِ اللهِ واستغفرْ وتُبْ *** وعلىٰ النبـيِّ فأكثِـرِ الصَّــلواتِ
اللهمَّ صَلِّ وسَلمْ على عَبدِكَ ورَسولِكَ محمدٍ، وارضِ اللهمَّ عن خُلفائه الأربعةِ الرَّاشدينَ أبي بَكرٍ وعُمرَ وعُثمانَ وعَليٍ وعن الآلِ والصحبِ الكرامِ، وعنَّا مَعهم بعفوكَ وإحسانِك وكَرمِك يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهمَّ اجعلنا من الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، واجعلْ ذِكرَكَ أَحَبُّ إلينا من المَاءِ البَاردِ عَلى الظَّمأِ، اللهمَّ اجعلنا لك ذَاكرينَ، لَكَ شَاكرينَ، لَكَ مُخبتينَ، لَكَ أَوَّابينَ مُنيبينَ، اللهمَّ تَقَّبلْ تَوبتَنا، واغسلْ حَوبتَنا، وثَبِّتْ حُجَّتَنا، وسَدِّدْ ألسنتَنا، واغسل سَخيمةَ قُلوبِنا، اللهم اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهمَّ وَفقْ وليَنا لما تُحبُ وتَرضى، اللهم وَفِّقهُ لهُداكَ، واجعل عَملَه في رِضاك يا ربَّ العَالمينَ، ربَّنا ظَلمنا أَنفسَنا وإن لم تَغفرْ لنا وتَرحمنا لنَكونَنَّ من الخَاسرينَ، ربنا آتنا في الدنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حَسنةً وقِنا عَذابَ النارِ.
التعليقات