عناصر الخطبة
1/ سيرة عطرة ومسيرة طيبة 2/ تربية رحيمة ونشأة كريمة 3/ فضائل الإمام أحمد 4/ أهمية الاقتداء بالصالحيناهداف الخطبة
اقتباس
وحينما يُذكر الزهد فالإمام أحمد إمام فيه، فلقد أتته الدنيا فأباها والرياسة فنفاها, عرضت عليه الأموال وفرضت إليه الأحوال وهو يرد ذلك بتعفف وتعلل، ويقول: قليل الدنيا يجزئ وكثيرها لا يجزئ, وما قل من الدنيا كان أقل للحساب, ويقول: إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وأيام قلائل, ولقد ذكرت ببعض كتب التراجم عنه أنه مكث في حذائه ثمانية عشر عامًا ..
معاشر المسلمين: يطيب الكلام حين يكون عن الأعلام الذين سطر التاريخ مآثرهم وبقيت على مر الأيام أخبارهم, وحديث اليوم هو عن السير التي تزخر بالدروس والعبر، وعن القدوات الذين حازوا قصب السبق في كثير من المجالات.
وكم نحتاج إلى ذكر أخبار الأعلام في زمن قلّت القدوات, ونبرز سير النجوم في زمن صرفت فيه النجومية لمن ليسوا أهلاً لها.
إنه حديث: عن علمٍ من أعلام المسلمين، عن إمامٍ إذا ذكر أهل السنة فهو إمامهم وإذا ذكر العلماء فهو في مقدمتهم.
إنه إمام أهل السنة والجماعة: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني.
ومن ذا الذي لا يعرفه وهو أحد الأئمة الأربعة وإليه ينسب المذهب الحنبلي، ومن ذا الذي لا يعرفه وهو أحد حفاظ المسلمين، والذي ألف للأمة كتابه العظيم الموسوم بالمسند، في ثلاثين ألف حديث.
ومن ذا الذي لا يعرفه وهو الذي ثبت يوم المحنة ثبات الجبال. يوم تساقط جلّ الناس، حتى قيل: نصر الله الدين برجلين، بأبي بكر يوم الردة، وبأحمدَ بن حنبل يوم المحنة والفتنة.
عباد الله: وحياة كحياة ذلك الإمام أنى يحيط بها خطيب في خطبته، سيما وقد أُلّفت فيها المؤلفات، ولا يجد المتحدث عنها حينها إلا أن يذكر لمحات من هذه السيرة, ليدع ما سوى ذلك مودعًا في مظانه من كتب السيرة لمن رامه, فدعونا نعيش مع سيرته, ونقف مع بعض مواقفه.
لقد عاش الإمام أحمد يتيمًا ومات والده وعمرة ثلاث سنوات، ولعمري فما ضر اليتم يومًا من الأيام أحدًا, بل لربما نشأ خيرًا من غيره.
وهكذا كان الإمام أحمد: فقد بزّ أقرانه وفاق خِلانه. وسبقهم في العلم والعبادة, وما كان لذلك الغرس أن ينمو إلا بتوفيق الله ثم عناية الأم, وكم للأم من دور في تربية الأجيال, كانت ترعاه وتحضره للمسجد في صغره, وتنتظره حتى يفرغ من صلاته فتعود به, وقال عن نفسه: ربما أردتُ الذهاب مبكرًا في طلب الحديث قبل صلاة الفجر، فتأخذ أمي بثوبي وتقول: حتى يؤذِّن المؤذِّن.
عباد الله: لقد كان الإمام أحمد فقيرًا قليل ذات اليد, فربما ترك السفر لأنه لم يملك شيئًا, فإذا وجد مالاً خرج لطلب الحديث.
وما زال ذلك الشاب ساعيًا في تحصيل العلم حتى سافر على الرواحل والأقدام إلى اليمن والحجاز وغيرها من بغداد في سبيل تحصيل الحديث، وما تردد لأجل المشقة، فأين همم طلاب العلم اليوم في زمن تيسرت فيه كل وسائل التحصيل, وربما رأيت مع قرب المنال الكسل والملال؟!
وفي خبر حفظه للقرآن يقول: كنت أحفظ القرآن فلما بدأت بالحديث انشغلت عن القرآن فقلت متى أحفظه. فسألت الله أن يمن عليَّ بحفظه ولم أقل في عافية, فما حفظته إلا في السجن والقيود، فإذا سألت الله حاجة فقل في عافية.
وإذا كان هذا هو الإمام أحمد فما أحرى شباب اليوم إلى أن يعتنوا بحفظ القرآن قبل أن تتشعب بهم المشاغل, ويشغلهم طلب الدنيا وطلب العلم عن حفظه.
أيها الكرام: لقد كان الإمام متورعًا عن المال الحرام، وما فيه أدنى شبهة, رهن سطلاً له عند صاحب خضار، ولما جاء يطلب سطله أخرج إليه سطلين، فقال: انظر أيهما سطلك؟ فقال: لا أدري أنت في حِل منه، وخذهما لك, كل ذلك خشية أن يأخذ بالخطأ سطلاً غير سطله, تركهما تورعًا وتعففًا.
وقد بلغ من حاجته أنه رهن نعله عند خباز باليمن، وأكرى نفسه من جمالين عند خروجه، وكانت الأموال تعرض عليه فيتمنع.
وحين ذاع صيت الإمام وعلا ذكره وطار خبر علمه وكثر الثناء عليه, جاء إليه المروزي فقال: يا أبا عبد الله، إن رجلاَ قال لي: إنه من بلاد الترك إلى ها هنا يدعون لك، فكيف تؤدي شكر ما أنعم الله عليك، وما بث لك في الناس، وإن الجنود في المعركة إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء: ادعوا الله لأبي عبد الله، فقال: ليته لا يكون استدراجًا، أسأل الله أن لا يجعلنا مرائين, يا أبا بكر إذا عرف الرجل نفسه، فما ينفعه كلام الناس, وكان إذا أُثنِي عليه قال: ليس يحرز الرجل المؤمن إلا حفرته، الأعمال بخواتيمها.
ودخل عليه أحد الصالحين فقال: إنَّ أمي رأت لك منامًا هو كذا وكذا، وذكرت الجنة، فقال: يا أخي إنَّ سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا، وخرج في سفك الدماء، الرؤيا تسرُّ المؤمن ولا تغره, نحن أدرى بأنفسنا من أصحاب المنامات.
أيها الكرام: ولقد كان الإمام أحمد من أفاضل الناس نسبًا، ومع هذا فإذا ذكرت الأنساب عنده لا يأبه بها, قال أحد تلاميذه: قلت له يومًا يا أبا عبد الله، بلغني أنك من العرب فقال: يا أبا النعمان، نحن قوم مساكين, فلم يزل يدافعني حتى خرج، ولم يقل لي شيئًا.
رسالة تهدى لأقوام لا تحلو مجالسهم إلا بالحديث عن الأنساب والفخر بالأحساب.
وكان لا يرى لنفسه على الناس قدرًا، قال يحيى بن معين: ما رأيت مثل أحمد، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير, وقال أحد تلاميذه: قلت له يومًا إن فلانًا قال: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها، بل زهد في الناس, فقال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيّ.
وقد أثنى عليه شخص، وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيرًا, قال: بل جزى الله الإسلام عني خيرًا, من أنا وما أنا؟
عباد الله: ولقد كان الإمام أحمد على ما ناله من الشهرة إلا أنه من أشد الناس بعدًا عنها, قال المروزي: سمعته يقول: والله لو وجدت السبيل إلى الخروج لم أقم في هذه المدينة، ولخرجت منها حتى لا أُذكر عن هؤلاء ولا يذكروني.
وقال: أريد أن أكون في شُعَب بمكة حتى لا أعرف، قد بليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحا ومساء.
فماذا نقول في زمن أصبحت الشهرة مطلبًا ومرادًا بعد أن كانت عند الإمام أحمد بلية.
عباد الله: ومن عجيب أمر الإمام أن أقرانه ذكروا أنه يحفظ من الأحاديث والأسانيد ما يبلغ مئات الآلاف..
وقال الوراق: ما رأيت مثل أحمد، سئل عن ستين ألف مسألة، فأجاب فيها بحدثنا وأخبرنا أي بالحديث، ولعمري ما نال هؤلاء العلم بالدعة والكسل، بل بصبر وجلد وعزيمة لا تُفلّ، وطلب متواصل, حتى قال عن نفسه وقد عوتب في ملاحقته للدروس والأئمة: "مع المحبرة إلى المقبرة"، فما أحرى طلاب اليوم إلى أن يقتدوا بأولئك الرعيل، ويعلموا أن العلم لا يُنال براحة الجسم، ويعرفوا لأولئك الأئمة قدرهم في زمن أصبح التطاول على هؤلاء الكبار فرصة سريعة لمن أراد الظهور والبروز.
وحينما يُذكر الزهد فالإمام أحمد إمام فيه، فلقد أتته الدنيا فأباها والرياسة فنفاها, عرضت عليه الأموال وفرضت إليه الأحوال وهو يرد ذلك بتعفف وتعلل، ويقول: قليل الدنيا يجزئ وكثيرها لا يجزئ, وما قل من الدنيا كان أقل للحساب, ويقول: إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وأيام قلائل, ولقد ذكرت ببعض كتب التراجم عنه أنه مكث في حذائه ثمانية عشر عامًا.
أما والله ليس ذلك بخلاً وليس كل ذلك فقرًا، لكنه معنى من معاني الزهد، وأن الدنيا متاع يكفيك منها القليل، وأن القضية ليست بالمظاهر بل بالمخابر، فأين هذا من حال بعض شباب اليوم ممن لا هم له إلا مظهره, وليست العناية بالمظهر مذمومة لكن الإشكال حين تلهي وتكون الغاية وتكون بالسرف والتبذير.
وأما عن عبادته فقد كان يمضى كثيرًا من يومه في الصلاة, وكان يصلي العشاء فينام بعدها نومة خفيفة ليقوم بعد ذلك يصلي ويدعو إلى الصباح, ولا يترك صوم الاثنين والخميس وأيام البيض, وبالتعبد والعمل بالعلم ينال العلم.
وكم ترى من امرئ يطلب العلم فلا يُوفَّق له، وما علم أن ذلك ليس بكثرة الحضور والقراءة بل لا بد لذلك من وقود العبادة والعلاقة مع الله, وماذا يغني علم وصاحبه لا يعمل به.
أتى بعض طلاب الحديث إلى الإمام أحمد فنام عنده فوضع عنده ماء ليتطهر به ولما أتى لإيقاظه للفجر وإذا الماء على حاله لم يُمس، فقال له أبو عبد الله: سبحان الله! طالب حديث وليس له حظ من قيام الليل؟!
اللهم علمنا، وارزقنا العمل بالعلم, أستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
تذكر كتب السير أن الإمام حين مرِض مرَض الوفاة طرق الباب عليه رجل قد شابت لحيته, وتقاطرت دمعاته, وحين فُتح الباب له ألقى بنفسه على الإمام، وقال له متوسلاً: اعفُ عني أبا عبد الله، فأنا ممن جلدك عند الخليفة, أتدري كيف جلد, لقد جلد جلدًا أغمي من شدته مرات, قال أحد جلاديه: جلدته جلدًا لو وقع على فيل لمات, ومع هذا يلتفت إليه الإمام أحمد ويقول له: والله ما خرجت من ذلك المكان إلا وقد عفوت عن كل من ظلمني إلا صاحب بدعة... فما أسماها من نفوس وما أعظمه من عفو لا يقدر عليه إلا الكرام.
وأما حاله مع أهل بيته فقد كان يكثر أن يترحم على زوجته، ويتصدق عنها كثيرًا، وقال: أقامت معي زوجتي أم صالح ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة, وبالوفاء يدوم الصفاء.
ولفتة من لفتات التربية عند الإمام أحمد تبين لك حين نصب ابنه صالح للقضاء، فقرئ الكتاب بذلك وأُلبس السواد وعنده المشايخ، وهم يدعون له، وإذا صالح ابن الإمام يبكي بكاء شديدًا فسألوه عن ذلك فقال: ذكرت أبي أن يراني في مثل هذه الحال، وكان أبي يبعث خلفي إذا جاءه رجل زاهد أو متقشف لأنظر إليه ويقول أين صالح يرى هذا يحب أن أكون مثله, ولكن الله يعلم ما دخلت في هذا الأمر إلا لدَين غلبني وكثرة عيال.
عباد الله: ولم ينتهِ الحديث عن سيرة هذا العَلَم, فقد بقي من حياته أشد مراحلها, وذاك حديث نحتاجه في زمن الفتن والمحن, حين تعرض الإمام للفتنة فثبت, ومواقف أخرى فيها عبرة, وذاك مما نشير له في الخطبة القادمة.
التعليقات