عناصر الخطبة
1/أحسن القصص قصص القرآن والسنة 2/قصة صاحب الذبابة وبعض فوائدها 3/قصة عجيبة من قصص بني إسرائيل وبعض فوائدها 4/قصة الرجل الذي استلف ألف دينار وفوائدها 5/قصة جرة الذهب وبعض فوائدها 6/قصة تاجر غشاش وفوائدهااهداف الخطبة
اقتباس
من قصص السنة النبوية؛ ما روها البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: "ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ" قَالَ: "فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ" قَالَ: "كَفَى بِالله كَفِيلًا" قَالَ: "صَدَقْتَ" فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فإن أحسن القصص وأنفعها، ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها كلها حق لا كذب فيها، وموعظة وذكرى لا لغو فيها.
ومن عجائب قصص السنة النبوية التي قصها على أمته لتتعظ وتعتبر، ما رواه الإمام أحمد عن طارق بن شهاب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب" قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ليس عندي شئ أقرب، قالوا له: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا، فخلوا سبيله فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله -عز وجل-، فضربوا عنقه، فدخل الجنة" [رواه أحمد].
في هذه القصة -أيها الإخوة- يتبين خطر الشرك، وهو صرف العبادة لغير الله، فهذا الرجل قرب ذبابة لصنم، فدخل بها النار على حقارة الذبابة، وهوانها، ولكن العبرة ليس بالشيء المقرب صغرا وكبرا، ولا غلاءً ورخصا، وإنما العبرة أنه صرف شيئا من العبادة لا يستحقها إلا الله، صرفها لغير الله، فخرج بذلك من التوحيد والإسلام، ووقع في الوثنية والإشراك -والعياذ بالله-.
إن من الذبح لغير الله، من يذبح تلبية لطلب الكهان والمشعوذين لشفاء مريض، أو العثور على مفقود، أو تحقيق مطلوب، أو النجاة من مرهوب، فيذبحون ما يأمرهم به لشياطينهم وأبالستهم، تقربا إليها، وإرضاءً لها.
ومن الذبح لغير الله: الذبح على عتبة الباب عند سكنى البيت الجديد تلافيا لأذى الجن والشياطين والعين والحسد والسحر، ونحو ذلك من صنوف الأذى والشرور.
ومثل الذبح كل أنواع العبادة من دعاء واستغاثة ونذر، وغير ذلك، فمن صرفها لغير الله كان بذلك قد وقع في الشرك الأكبر الذي لا يغفر لصاحبه إذا مات عليه، كما قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: 48].
وفي هذه القصة ما عليه بعض أهل الإيمان العظيم من الثبات عند الفتن، فلا تعصف بإيمانهم، ولا توهن من عزائمهم، حتى إنهم ليقدمون الموت قتلا وذبحا على أن يشركوا بالله، ولو بتقريب ذبابة لصنم.
ومن قصص السنة النبوية؛ ما رواه أحمد في الزهد وابن أبي شيبة في المصنف، وصححه الألباني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل حَتَّى أتَوْا مَقْبَرةً لهُم مِن مَقابِرِهِمْ، فَقَالُوا: "لَوْ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْن، ودَعَوْنَا اللهَ أنْ يُخْرِجَ لَنَا رَجُلًا مِمَّنْ قَدْ مَاتَ نَسْأَلُه عَن الْمَوْت، ففعلوا، فبَيْنَمَا هُمْ كذلك إذْ أَطْلَع رجُلٌ رأْسَه مِن قَبرٍ مِن تِلْكَ المقَابِر، خِلَاسِيّ -والخلاسي هو الرجل الذي يكون أحد أبويه أبيض والآخر أسود- بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُود، فَقَال: "يَا هَؤُلاء مَا أَرَدتُّم إليَّ؟ فقَد مِتُّ مُنْذُ مائَة سَنَةٍ، فما سَكَنَتْ عَنِّي حَرَارَةُ الموْتِ، حتَّى كَانَ الآنَ؛ فادْعُوا اللهَ لِي يُعِيدُني كَمَا كُنْتُ".
نعم -أيها الإخوة- لقد كان في بني إسرائيل عجائب وغرائب وهذه منها.
وفي هذه القصة: إثبات البعث بعد الموت، فليس الموت هو المحطة الأخيرة للإنسان، بل الموت مرحلة من مراحل الإنسان، ثم يبعث بعده بروحه وجسده، ويجازى ويحاسب، ثم يستقر أهل الإيمان في الجنة، ويستقر أهل النار في النار.
فمن قدر على إعادة نفس واحدة بعد الموت قادر على إعادة الأنفس كلها، والله -تعالى- قد قص في القرآن أخبارا لأناس أحياهم بعدما أماتهم قبل يوم القيامة، كصاحب البقرة، والملأ من بني إسرائيل الذين خرجوا وهم ألوف، هربا من الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم، إلى غير ذلك.
فلنستعد -عباد الله- لملاقاة الله، بالإيمان الصادق، والعمل الصالح، والتوبة من المعاصي والسيئات، صغيرها وكبيرها.
ومن قصص السنة النبوية؛ ما روها البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: "ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ" قَالَ: "فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ" قَالَ: "كَفَى بِالله كَفِيلًا" قَالَ: "صَدَقْتَ" فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا. ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: "اللهمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلَا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا" فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ. ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: "وَالله مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ" قَالَ: "هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟" قَالَ: "أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ" قَالَ: "فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا".
الله أكبر! فما أعظم أمانة الرجلين المقترض الذي حرص على السداد في الموعد، فلما لم يجد سفينة توصله إلى بلد صاحب المال، وضع المال في داخل خشبة، وكتب رسالة، ورماها في البحر، واستودعها الله؛ لأنه كان قد جعل الله على العقد شهيدا وكفيلا فوصل المال لصحابه، وهو يظنه أنه لم يصل، ولما تهيئت الفرصة، وتيسرت الاسباب أخذ ألفا أخرى وانطلق بها إلى الرجل، وكان صاحب المال بإمكانه أن يأخذ الألف ولا يخبره أنه وجد الألف ولكن أمانته وكرمه وشهامته ومراقبته لله أبت عليه أن يكتم الحقيقة، أو يأخذ منه شيئا.
وهذه القصة تذكرنا بقصة أخرى من قصص السنة النبوية لا تقل عن هذه غرابة ومتعة، وهي ما رواه البخاري أيضا في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عن النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا".
فرحم الله تلك النفوس الزكية الطاهرة التي كانت تختصم من أجل أن دفع المال وبذله وتسليمه للطرف الآخر، كل منهم يقول للآخر: الذهب لك، حتى وصل بهم إلى حكم يتخاصمان إليه.
فأين من هذين من يقتل لأجل أن يسرق وينهب؟ وأين منهم من يكذب ويحلف بالله كاذبا ليأخذ حق أخيه بغير حق؟ وأين منهم من ينهب أموال المسلمين بالرشاوى والكذب والحيل مع أن الله قد أغناه ووسع عليه؟
وما أحسن فراسة ذلك الحاكم، فكأنه توقع أن يخرج الله من صلب هذين الرجلين التقيين ذرية طيبة مباركة، فحكم بتزويج ابنة هذا على ولد ذاك، ويكون هذا المال مهرا للزوجة، ثم نفقة عليهما.
نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص لوجهه، وأن يجعلنا ممن رزق كفافا وقنع برزقه، إنه سميع مجيب.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
ومن قصص السنة النبوية؛ ما رواه الإمام أحمد في مسنده وصححه الألباني مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رجلا كان يبيع الخمر في سفينة له، ومعه قرد في السفينة، وكان يشوب الخمر بالماء فأخذ القرد الكيس، فصعد الذروة، وفتح الكيس، فجعل يأخذ دينارا، فيلقيه في السفينة، ودينارا في البحر، حتى جعله نصفين.
وفي هذه القصة: أن الله -تعالى- قد يعاجل العبد بالعقوبة في الدنيا، فهذا التاجر لما غش نصف البضاعة -وكأن الخمر كانت حلالا في دينه- سلط الله عليه القرد، فصعد بكيس النقود إلى الصاري، وهي الخشبة التي يمد عليها الشراع، فرمى نصف المال في البحر، ونصفه في السفينه، ليأخذه البائع جزاء وفاقا، وتنبيها له أنه لا يستحق من هذا المال إلا نصفه فقط.
فهل نتعظ ونعتبر ونصدق في تجارتنا وفي وظائفنا، ونحرص أن لا نكسب إلا حلالاً؟
وفي هذا الحديث: دلالة واضحة على أن الله قادر أن يعاجل عبده بعقوبة تذهب بكل أرباحه التي حصل عليها بغير وجه حق بتحريقها أو سرقتها أو ضياعها أو التسليط عليها أو بمحق بركتها، فترى الرجل يدخل عليه المال الكثير لكنه يتفلت من يديه هنا وهناك، حتى ينفد وهو لم ينتفع به، بل لا يزال يعيش فقيرا مدينا مهموما مغموما.
كما أن الله قد يدخر العقوبة في الآخرة، فيجازي عبده جزاءً أليما على كل مال اكتسبه من غير وجه حق.
فلنتق الله، ولنحسن مكاسبنا، ولنحرص غاية الحرص أن لا تنبت أجسادنا إلا من حلال طيب، فإن أكل الحرام وبال في الدنيا والآخرة.
معاشر المؤمنين: ...
التعليقات