عناصر الخطبة
1/مكانة الأخلاق السامية في الإسلام 2/كمال أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم 3/الحث على التحلي بمكارم الأخلاق 4/الأمانة من مكارم الأخلاق 5/وجوب صيانة المال العام وأداء الحقوقاقتباس
مِنْ تقوى الله -تعالى- أنَّ النفس الشريفة تطلب الصيانة، وتراعي النزاهة؛ فالنزاهة خُلُق ثمين، ومعدن أصيل، تُثمِر الورعَ، وتَدفَع الطمعَ، وتُنمِّي التقوى، والنزاهة تقاس بالديانة والصدق والعدل، وحفظ الوقت والجد في العمل، مع الأخذ بالأمانة والاهتمام بالمصلحة العامَّة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله فاطر السبع الطباق، مانح الآداب والأخلاق، الهادي لأحسن الأخلاق، نحمده حمدًا يملأ الآفاق، ونشكره شكر من يرجو العتاق، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، العليم الخلاق، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوث بمكارم الأخلاق، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أهل الرضا والوفاق، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم التلاق.
أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله؛ فإنَّها خير ما تتزوَّدون، وأرجى ما تدَّخرون، وهي النجاة مما تحذرون، وبها ترزقون من حيث لا تحتسبون، فاتقوا الله لعلكم تفلحون.
أيها المسلمون: إن مكارم الأخلاق لباس تزيَّن به الأنبياء الأصفياء، ورداء تجمَّل به الأتقياء الحنفاء، هي أساس من أُسُس الإسلام، وركيزة من ركائز الإيمان، ومظهر من مظاهر الإحسان، بها تُنال الدرجات العلية، والمقامات السنيةُ، وجوار خير البرية.
ولقد حثت نصوص الوحيين، ورغَّبت في الفضائل، وحذَّرت ورهَّبت من الرذائل، فالشريعة اشتملت على أنفس الأعلاق في الآداب والأخلاق، ما بين تأديب وتربية، وتهذيب وترقية، وجماع ذلك كله قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" رواه البيهقي.
ولقد منَّ الله -تعالى- على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بكمال العقل، والرأي الجزل، والكلام الفصل، وزينه بالأعمال الصالحة، والأخلاق الكاملة، فأثنى الله عليه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 4]، تقول عائشة -رضي الله عنها- حينما سئلت: "كيف كان خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالت: كان خُلُقه القرآن"؛ فكان له من الأخلاق أكملها وأجلُّها، وحاز في كل خصلة منها المقام الأعلى، والمنزلة الأسمى، فبلغ قمةَ الكمال الإنسانيّ، وغايةَ النُّبل البشري.
ألَا وإنَّ ممَّا يُحفِّز المسلمَ على التحلي بالأخلاق الكريمة أن الله أمرنا بالاقتداء بصاحب الخلال العظيمة، فقال الله -جل وعلا-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 21].
وممَّا يدفع كلَّ ذي دين قويم، وعقل سليم إلى التخلق بها ما جاء من الأجر العظيم على لسان الرسول الكريم؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا" مُتفَق عليه.
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا"(رواه الترمذي).
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"(رواه أحمد).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "حُسْن الجوار وصلة الرحم وحُسْن الخُلُق يعمرنَ الديارَ، ويزدنَ في الأعمار"(رواه ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح).
أيها الناسُ: حُسْنُ الخُلُقِ يُمْنٌ، وسوؤُه شؤمٌ، وأحسنُ الأخلاقِ ما جمَّل صاحبَها وزانَ، وأرذلُها ما دنَّسَه وشانَ.
ولا يقتصر حسن الخلق على طلاقة الوجه وطيب الكلام، بل هو أوسع من ذلك في شريعة الإسلام، فيشمل بذل الندى، وكف الأذى، وفعل الأوامر والفضائل، واجتناب النواهي والرذائل.
واعلموا -يا عباد الله- أن من الأخلاق من يكون في الإنسان جبليا، ومنها ما يكون مكتسبًا، والناس في ذلك متفاوتون؛ فالأخلاق غرائز كامنة، تظهر بالاختيار، وتقهر بالاضطرار؛ فالعلم بالتعلم، والحِلْم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه، وما أعطي أحد عطاء خيرًا من خلق حسن، يدله على الصلاح والتقى، ويردعه عن الفساد والردى.
ومن طلب الأخلاق مخلصًا لربه الأعلى، متبِعًا لسنة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، سعد في الدارين ونال الجزاء الأولى.
عبادَ اللهِ: بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لكم ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي أسبغ نعمه على العباد، وهداهم سبل الخير والرشاد، وحذرهم من طرق الغي والفساد، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، المنزه عن المثل والأنداد، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيه من العباد، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه الأمجاد، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المعاد.
أمَّا بعدُ، معاشرَ المسلمينَ: إن نظريَّة الأخلاق في الإسلام تقوم على أساس عقائدي، وهي منهج متكامل، يضطرد باستقامة واتزان، وجَمال وثبات لا يتغير بتغيُّر الزمان والمكان، ويشمل أحوال المسلم كلها، صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، وكل أمر بالتقوى فالأخلاق بريدها، فهمًا متلازمان لا ينفكان، والوصية بهما صنوان؛ ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يجمع بينهما في وصاياه، وذلك من سنته وهداه؛ فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتق الله، وخالق الناس بخلق حسن"(رواه أحمد).
واعلموا -رحمكم الله- أن مِنْ تقوى الله -تعالى- أنَّ النفس الشريفة تطلب الصيانة، وتراعي النزاهة؛ فالنزاهة خُلُق ثمين، ومعدن أصيل، تُثمِر الورعَ، وتَدفَع الطمعَ، وتُنمِّي التقوى، والنزاهة تقاس بالديانة والصدق والعدل، وحفظ الوقت والجد في العمل، مع الأخذ بالأمانة والاهتمام بالمصلحة العامَّة.
وحين تضعف الديانة تضمحل الأمانة، ويدب الفساد، وتشيع الخيانة، فتصدأ الضمائر، ويكثر العقوق، وتباع الذمم، وتستباح الحقوق، وقد حذرت الشريعة من الفساد، بكل صوره وأشكاله، فكل انحراف عمَّا وضعت له الوظيفة فهو فساد وخيانة وجريمة، وهو مخالفة للأحكام الشرعيَّة، والقِيَم الأخلاقيَّة، والأنظمة المرعية، فعن عدي بن عميرة -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من استعملناه منكم على عمل، فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى"(رواه مسلم).
وقد جاء الوعيد الشديد فيمن امتدت يده إلى ما حرم الله من أجل إشباع شهواته ونزواته، أو زيادة مكاسبه وأمواله، فعن خولة الأنصارية -رضي الله عنها- قالت: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن رجالًا يتخوَّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة"(رواه البخاري).
أيها المؤمنون: وإن من تضييع الأمانة الاعتداء على المال العامّ؛ بالإهمال والتقصير والإسراف والتبذير، وقبض الرشوة والاختلاس، وتعطيل مصالح الناس، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الْأَنْفَالِ: 27]، والخيانة في كل مال وعمل يتولاه الإنسان، هو من الكبائر المحرمة إجماعًا، وهو من أعظم الذنوب، وأشر العيوب؛ فالخيانة عمل دنيء، تعافه النفوس الكريمة، وتستقبحه العقول السليمة، وتردُّه الفِطَرُ القويمةُ.
واعلموا -يا عباد الله- أن محاربة الفساد ومكافحته واجب شرعي ووطني، لا يقتصر على جهة معينة، بل هو مسؤوليَّة الجميع ديانة وأمانة وخلقا؛ مما يوجب التعاون بين أفراد المجتمع، والجهات والهيئات المعنِيَّة؛ إرشادا وتبصرة، ونصيحة وتذكرة.
فاتقوا الله -رحمكم الله- (وَلَا تُفْسِدُوا في الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الْأَعْرَافِ: 56].
عبادَ اللهِ: ألَا وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد بن عبد الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله، قال -جل في علاه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، فاللهم صل وسلم وزد وبارك، على الرسول الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ،، واحم حوزة الدين، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا رخاء، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ وفق ولي أمرنا وإمامنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لكل ما تحب وترضى، ووفقهما وأعوانهم لكل ما فيه صلاح للبلاد والعباد، وعز وتمكين للإسلام والمسلمين.
اللهمَّ احفظ وانصر رجال أمننا، وجنودنا على ثغورنا، وكن لهم عونًا ونصيرًا، ومؤيدا وظهيرًا، اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم اللهمَّ موتانا وموتى المسلمين، وانصر المستضعَفين من المسلمين في كل مكان، وفي فلسطين، واجعل لهم من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية، ونسأل لهم فرجًا قريبًا، ونصرًا عاجلًا.
اللهمَّ ما سألناكَ من خير فأَعْطِنا، وما لم نسألك فابتَدِئْنا، وما قصر عنه علمنا ومسألتنا من خيرَيِ الدنيا والآخرة فبَلِّغْنا إيَّاه.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم؛ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
التعليقات