عناصر الخطبة
1/منزلة العلم ومكانة العلماء 2/تأثير العلماء على عامة الناس وعلى القادة والولاة 3/خطر السكوت على المنكرات 4/متاجرة بعض المحسوبين على العلماء والقضاة بالدين 5/نصيحة للعلماء والقضاة 6/قصة شكوى امرأة الأمير موسى بن عيسى إلى القاضي شريك وبعض فوائدهااهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: إن مشكلة هذه الأمة من ضمن مشاكلها هم أولئك العلماء المحسوبين على العلماء، أو القضاة المحسوبين على القضاة، الذين يبيعون دينهم ومكانتهم وجاههم بعرض من الدنيا، الذين ينافقون في مواقف أحوج ما تكون الأمة إليهم، الذين يحاولون إرضاء فلان وفلان، ولو...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل له به طريقاً إلى الجنة".
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المُنَزَّل عليه قوله جل وعلا: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114].
استعاذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يستجاب، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، الذين ورثوا علمه وخلفوه في تبليغ دينه، وتوجيه أمته، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الله جلت قدرته، وتعالت أسماؤه، أمرنا بتعلم العلم، والرجوع لأهله عند الحاجة، والأمر أمر إيجاب فيما لا يسع المسلم جهله، قال سبحانه: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد: 19].
فبدأ بالعلم قبل القول والعمل.
وقال: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43].
ومدح حملته، وأثنى عليهم، بما يحمل القلوب الواعية، والعقول المفكرة، بسلوك منهاج العلماء، وتأهيل نفوسها تأهيلاً يكسبها شرف العلماء، ويحلها مكانتهم، يقول سبحانه وتعالى: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الرعد: 19].
ويقول سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9].
ويقول جل وعلا: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18].
ويقول تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11].
إلى غير ذلك من الآيات المشيدة بشرفهم، وعلو مكانتهم، وبيان أثرهم في الأمة: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام: 122].
وقال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) [فاطر: 19 - 22].
وقال جل وعلا: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك: 22].
فلا شك -أيها الإخوة- بأن العلماء هم أعرف الناس بالله، وبشرعه، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].
وقال عز وجل: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) [المائدة: 83].
أيها المسلمون: هذه هي منزلة العلماء في هذا الدين، وهذا هو مكانة أهل العلم عند العامة والخاصة.
وأياً كان مستوى الإنسان الفكري والتربوي، فإنه ولا شك ينظر إلى العلماء والمشايخ نظرة تختلف عن نظرته لبقية الناس، نظرة تختلف عن عامة الناس، نظرة فيها شيء من التقدير والاحترام، للعلم الرباني الذي يحمله.
كذلك -أيها الإخوة- فإن بصلاح العلماء وإخلاصهم في دعوتهم، وبذل الجهد منهم في توعية وترشيد الناس، يصلح أحوال المجتمع، ويعم الخير النافع.
والعكس كذلك صحيح، فبفساد العلماء -والعياذ بالله-، وعدم إخلاصهم في نصح الناس، وجريهم وراء الدنيا، وبحثهم عن مصالحهم الشخصية، فلاشك أن بسلوكهم هذا يفسد المجتمع، ويعم الفوضى، ويقل الخير، بل والأسوأ منه، تأثر الناس بهم، فإذا عرف الناس أو اطلع الناس على شيء من انحراف بعض العلماء عن الجادة، كان هذا مسوغاً له في الوقوع في منكرات وأمور وقضايا، أكبر مما وقع فيه العالم؛ لأنه يقول: لو وقع العالم الفلاني في كذا، أو لو فعل الشيخ الفلاني كذا، فنحن من باب أولى.
أيها المسلمون: هذا جانب من جوانب تأثير العلماء، في أوساط العامة، كذلك هم لهم مكانتهم ودورهم في التأثير على ولاة الأمور، بل هذا واجب عليهم تقديم النصح، والتنبيه على الأخطاء، وتقويم الاعوجاج: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة" قلنا: لمن يا رسول الله، قال: "لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم".
فإذا قصر العلماء في هذا الواجب الملقى على عاتقهم، فمن الذي يقوم به؟ إذا ترك علماء الأمة مناصحة حكامها، فمن الذي سيقوم بهذا الدور ؟
وما هذه البلايا التي نشاهدها في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، إلا لتقاعس وتخاذل كثير من العلماء من نصح الحكام، وتهاونهم وتركهم لهذا الواجب والمطلب الشرعي العظيم.
ففي ذاك البلد تستباح الفروج، وتباع فيها الخمور، وتقام بيوت وأماكن تخصص لذلك، فلا تتكلم العلماء.
وفي ذاك البلد تصادر فيه الحريات، وتكمم الأفواه عن قول كلمة الحق، وتكون الكلمة المرفوعة والمسموعة للعلمانيين وأذنابهم، فلا تتكلم العلماء، وفي تلك البلاد يزج بالدعاة والمصلحين في غياهب السجون، ويضيق فيه على الخطباء والمحاضرين، ولا تتكلم العلماء، وفي بلد آخر يعلن فيه الكفر البواح، ويعلن فيه نبذ شريعة الله وإحلال القوانين الطاغوتية مكانها، على مرأى ومسمع من العلماء، ولا يتكلم أحد، إلى غير ذلك من الطامات والبلايا التي تقع هنا وهناك.
ونستثني من كل هذا، فنقول: إلا من رحم الله منهم، فلا شك أن هناك من العلماء والمشايخ من هم مخلصون قدموا ويقدمون الكثير الذي بوسعهم في مناصحة ولاة أمورهم.
لكنهم قياساً لسعة رقعة العالم الإسلامي، لازالوا قلة، ولذا فتأثيرهم ضعيف.
نسأل الله - عز وجل - أن يوفقهم، وأن يسدد خطاهم، وأن يعزهم بالحق، ويعز الحق بهم، إنه على كل شيء قدير.
أيها المسلمون: تخيلوا لو أن منكراً وقع، وهذا على سبيل المثال، حصل منكر بأي شكل وبأية صورة، ثم أنكر هذا المنكر بأية طريقة اجتهادية، ثم خلص من هذا الأمر، أن حصل ظلم وإجحاف في حق بعض من له صلة بهذا الموضوع، فمن الذي بيده أن يقدم شيء إلى هؤلاء المظلومين ؟ من الذي لو تحرك أو تكلم أو كتب يكون لتحركه أو كلامه أو كتابته صدى يسمع؟
لا شك أن علماء ومشايخ وقضاة ذاك البلد، هم أقدر الناس في محاولة رفع أو تخفيف الظلم عن المظلومين؛ لأن كلامهم مسموع عند ولاة أمر ذاك البلد أكثر من غيرهم.
ثم تخيلوا -أيها الإخوة- وهذا على سبيل المثال أيضاً؛ أنه حاول واجتمع عدد من المشايخ الأفاضل في إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وكانوا مخلصين جادين في ذلك، إما كتابة أو مشافهة، ثم برز من بينهم من هم تبع لأصحاب الظلم، يحاولون التقرب إليهم، فكم يكون هذا سيئاً -أيها الإخوة- ؟.
أيها المسلمون: إن مشكلة هذه الأمة من ضمن مشاكلها هم أولئك العلماء المحسوبين على العلماء، أو القضاة المحسوبين على القضاة، الذين يبيعون دينهم ومكانتهم وجاههم بعرض من الدنيا، الذين ينافقون في مواقف أحوج ما تكون الأمة إليهم، الذين يحاولون إرضاء فلان وفلان، ولو كان يغضب الله -عز وجل-، ويجدون لأنفسهم تأويلاً أو مخرجاً.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- اتقوا الله -تعالى-، يا من أكرمكم الله بالعلم، الذي يُشّرف ويُعزْ من يحمله حق حمله، وجعلكم به واجهة لدينه، وهداة إليه، أذكركم بأن هذا المطلب الرفيع كالشرف العظيم الذي أنتم أعلم الناس بما يترتب على إكرامه وإعزازه وصيانته من خير، وما يترتب على مخالفته من شر، وإنه أعطى ليكون هادياً لصاحبه ليعبد الله به على بصيرة، وهدى من الله، لا ليحمله فكراً وكلاماً وجدلاً، لا أثر له في واقع الحياة، كمثل الحمار يحمل أسفارا، يقول الله -تعالى-، محذراً ومنذراً، أولئك العلماء وأولئك القضاة، من خطورة الاعوجاج، فيقول جل وعلا: (وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 41 - 42].
ويقول سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران: 187].
ويقول تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44].
ويقول تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب: 39].
فاتقوا الله يا مشايخنا، واتقوا الله يا قضاتنا، اتقوا الله -تعالى-: واصدقوا من يعلم ما يقوم بقلوبكم، ونصحكم لكتابه ولسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولأئمة المسلمين وعامتهم، وابتعدوا عن التأويل لصالحكم، أو لصالح غيركم، أميراً أو مأموراً، غنياً أو فقيراً، وإلا فالويل كل الويل، والذل كل الذل، والهوان كل الهوان لمن انحرف عن شرع الله، ولمن اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً، يقول سبحانه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23].
ويقول تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل: 116 - 117].
نسألك اللهم أن تتقبل دعانا الجاري على ألسنتنا في كل صلاة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 5 - 7].
نستغفرك اللهم، ونتوب إليك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
فإن علماء هذه الأمة كانت كلمتهم مسموعة عند الولاة والسلاطين، وكم من مظلمة رفعها عالم، أو قاضي عن آحاد الناس، ولو كان المعتدي والظالم هو الوالي نفسه.
فلو صدق العلماء والقضاة في مواقفهم، ولم يخشوا في الله لومة لائم، لفعلوا الشيء الكثير.
وإليكم -أيها الإخوة- هذه القضية لموقف من مواقف أحد القضاة، لمناسبتها للحال والواقع، ففيها الكثير من العبر.
وسأسوق لكم القضية بطولها، وقد ذكرها صاحب العقد الفريد في كتابه.
شريك بن عبد الله، والأمير موسى بن عيسى: ذكر أن امرأة أتت يوماً القاضي شريك بن عبد الله قاضي الكوفة، وهو في مجلس الحكم، فقالت: أنا بالله ثم بالقاضي، قال: من ظلمك ؟ قالت: الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، كان لي بستان على شاطئ الفرات، فيه نخل ورثته عن أبي وقاسمت إخوتي، وبنيت بيني وبينهم حائطاً وجعلت فيه رجلاً فارسياً، يحفظ النخل ويقوم به، فاشترى الأمير موسى بن عيسى من جميع إخوتي، وساومني ورغبني، فلم أبعه، فلما كان هذه الليلة بعث بخمسمائة غلام وفاعل، فاقتلعوا الحائط وأصبحت لا أعرف من نخلي شيئاً، اختلط بنخل إخوتي.
فقال القاضي شريك: يا غلام احضر الطينة -أي لوضع الخاتم- فأحضرها فختمها، وقال للمرأة: امض إلى بابه بالختم حتى يحضر معك، فجاءت المرأة بالطينة المختومة، فأخذها الحاجب، ودخل على موسى بن عيسى، فقال: قد أعدى القاضي عليك، وهذا ختمه.
فقال الأمير: ادع لي صاحب الشرطة، فدعا به، فقال له: امض إلى شريك، وقال له: يا سبحان الله ما رأيت أعجب من أمرك، امرأة ادعت دعوى لم تصح، أعديتها علي ؟ قال صاحب الشرطة: إن رأى الأمير أن يعفيني من ذلك ؟ فقال: امض ويلك، فخرج صاحب الشرطة، وقال لغلمانه: اذهبوا وادخلوا لي إلى حبس القاضي بساطاً بساطاً وفراشاً، وما تدعو الحاجة إليه.
ثم مضى إلى شريك، فلما وقف بين يديه أدى الرسالة، فقال القاضي لغلام المجلس: خذ بيده فضعه في الحبس، فقال صاحب الشرطة: والله لقد علمت أنك تحبسني، فقدمت ما أحتاج إليه إلى الحبس، وبلغ الأمير موسى الخبر، فوجه الحاجب إليه، وقال له: رسول أدى الرسالة، أي شيء عليه ؟ فقال شريك: اذهبوا به إلى رفيقه، إلى الحبس فحبس الحاجب مع صاحب الشرطة، فلما صلى الأمير موسى العصر بعث إلى إسحاق ابن الصباح الأشعثي وإلى جماعة من وجوه الكوفة من أصدقاء القاضي شريك، وقال لهم: امضوا إلى القاضي، وأبلغوه السلام، وأعلموه أنه استخف بي، وأني لست كالعامة، فمضوا إليه، وهو جالس في مسجده بعد صلاة العصر، فأبلغوه الرسالة، فلما انقضى كلامهم، قال لهم القاضي: مالي أراكم جئتموني في غثرة من الناس فكلمتوني ؟ من ههنا من فتيان الحي ؟
فأجابه جماعة من فتيان الحي، فقال: ليأخذ كل واحد منكم بيد رجل فيذهب به إلى الحبس، ما أنتم إلا فتنة، وجزاؤكم الحبس، قالوا: أجادّ أنت ؟ قال: حقاً حتى لا تعودوا برسالة ظلم، فحبسهم.
فركب موسى بن عيسى في الليل إلى باب السجن، وفتح الباب، وأخرجهم كلهم.
فلما كان الغد وجلس شريك للقضاء جاءه السَجّان، فأخبره.
فدعا بالقمطر فختمه ووجه به إلى منزله، قال لغلامه الحق بثقلي إلى بغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر منهم، ولكنهم أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا فيه الإعزاز إذ تقلدناه لهم.
ومضى نحو قنطرة الكوفة إلى بغداد، وبلغ الخبر إلى موسى بن عيسى، فركب في موكبه ولحقه، وجعل يناشده الله، ويقول: يا أبا عبد الله تثبت، انظر إخوانك تحبسهم، دع أعواني، قال: نعم؛ لأنهم مشوا لك في أمر لم يجز لهم المشي فيه، ولست ببارح أو يردوا جميعاً إلى الحبس، وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين المهدي، فأستعفيه مما قلدني.
فأمر موسى بردهم جميعاً إلى الحبس، وهو واقف -والله- مكانه، حتى جاء السجان، فقال: قد رجعوا جميعاً إلى الحبس، فقال: لأعوانه خذوا بلجام دابته بين يدي إلى مجلس الحكم، فمروا بين يديه حتى أدخل المسجد، وجلس في مجلس القضاء، فجاءت المرأة المتظلمة، فقال: هذا خصمك وقد حضر.
فقال موسى وهو مع المرأة بين يديه: قبل كل أمر، أنا قد حضرت، أولئك يخرجون من الحبس.
فقال شريك: أما الآن فنعم، أخرجوهم من الحبس.
فقال: ما تقول فيما تدعيه هذه المرأة ؟
قال: صدقت، قال: ترد ما أخذت منها وتبني حائطاً سريعاً كما كان.
قال موسى: أفعل ذلك كله ؟
قال القاضي للمرأة: أبقى لك عليه شيء ؟ قالت: بيت الرجل الفارسي ومتاعه، قال موسى: ويرد ذلك كله، قال القاضي: أبقى لك عليه دعوى؟ قالت: لا، وبارك الله عليك، وجزاك خيراً.
قال: قومي، فقامت من مجلسه.
فلما فرغ قام وأخذ بيد موسى بن عيسى، وأجلسه في مجلسه، وقال: السلام عليك أيها الأمير أتأمر بشيء ؟ قال: أي شيء آخر ؟ وضحك.
فقال له شريك: أيها الأمير: ذاك الفعل حق الشرع، وهذا القول الآن حق الأدب، فقام الأمير وانصرف إلى منزله، وهو يقول: من عظم أمر الله أذل الله له عظماء خلقه.
هكذا كان موقف قضاة الأمة على مر التاريخ، لقد كان في كل عصر يوجد منهم رجال أفذاذ شأنهم، كما يقول الشاعر:
يقولون لي فيك انقباض وإنما *** رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم *** ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وما كل برق لاح لي يستفزني *** ولا كل من لاقيت أرضاه منعما
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت *** أقلب كفي إثره متندما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما *** بدا طمع صيرته لي سلما
إذا قيل : هذا منهل قلت قد أرى *** ولكن نفس الحر تحتمل الظما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي *** لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة *** إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أذلوه فهان ودنسوا *** محياه بالأطماع حتى تجهما
التعليقات