عناصر الخطبة
1/اقتراب موسم الحج وكثرة الاستعدادات له 2/محبة القلوب للبيت العتيق 3/الحكمة في كون الحج يخالف سائر العبادات 4/مقاصد الحج وحِكمه.اقتباس
وقد نوَّع لهم الأنساكَ والمشاعرَ لينوِّعَ لهم الإحسانَ، ونقلَهم من مائدةٍ إلى مائدةٍ من موائدِ كرمهِ؛ فتارةً يطوفُ على بيتِ ربهِ، وتارةً يسعَى بين الصفا والمروةِ، اللَّذَينِ كم سعىَ بينَهما من وليٍّ للهِ وصفيٍّ....
الخطبةُ الأولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
أَمَّا بَعْدُ: حافلاتٌ تُجهَّزُ، وطائراتٌ تُحْجَزُ، وقطاراتٌ تُنْشَأٌ، وقطاعاتٌ أمنيةٌ تترقَّب، وإجراءاتٌ نظاميةٌ تُضْبَطُ، ومئاتُ الملياراتِ تُرصدُ، والدولةُ -وفقَها اللهُ- تَحشدُ إمكانيتِها.. كلُ هذا لأجلِ الركنِ الخامسِ: حجّ بيتِ اللهِ الحرامِ.
ففي هذهِ الأيامِ المباركةِ تهوِي الأفئدةُ المسلمةُ إلى بقعةٍ شريفةٍ اختارَها ربُنا لتكونَ عرصاتُها محلاً للمناسكِ؛ تحقيقاً لدعوةِ أبِينا إبراهيمَ حينَما قالَ: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم37].
أيُّها المؤمنونَ: لو سألَ سائلٌ عن الحكمةِ في كونِ الحجِّ يخالفُ سائرَ العباداتِ؟ فإن العباداتِ فِعلٌ واحدٌ في زمانٍ واحدٍ، أو مكانٍ واحدٍ، لكنَّ الحجَ أفعالٌ متعددةٌ في أمكنةٍ متعددةٍ على كيفياتٍ وهيئاتٍ متنوعةٍ.
فالجوابُ اسمعوهُ من عالمٍ جليلٍ، والعلماءُ يفطِنونَ للمقاصدِ، والعوامُ ينشغلونَ بالظواهرِ، فقد قالَ الشيخُ الفقيهُ المفسرُ عبدُ الرحمنِ السَعديُ -رحمهُ اللهُ تعالى-: "في ذلكَ حِكَمٌ عظيمةٌ، فلو لم يكن فيها من الحِكَمِ إلا أن حقيقةَ الحجِّ هوَ استزارةُ الربِ لأحبابهِ ووفودِ بيتهِ، وأنه أوفدَهم إلى كرامتهِ ودعاهُم إلى فضلهِ وإحسانهِ.
وقد نوَّع لهم الأنساكَ والمشاعرَ لينوِّعَ لهم الإحسانَ، ونقلَهم من مائدةٍ إلى مائدةٍ من موائدِ كرمهِ؛ فتارةً يطوفُ على بيتِ ربهِ، وتارةً يسعَى بين الصفا والمروةِ، اللَّذَينِ كم سعىَ بينَهما من وليٍّ للهِ وصفيٍّ.
وتارةً يقفُ بالمشعَرِ الحلالِ، وهو عرفةُ، وتارةً بالمشعرِ الحرامِ، وهو مزدلفةُ، يقفُ فيهن موقفَ السائلِ المسكينِ الذليلِ. وتارةً يرمي الجمراتِ إشارةً إلى رميِ الخطايا ومراغمةِ العدوِ المبينِ. وتارةً يذبحُ قربانَه تقربًا إلى اللهِ؛ (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)[الكوثر: 2].
فكما أنه لا يستغنِي عن الصلاةِ؛ فليسَ له غِنىً عن شقيقِها وقرينِها النحرِ. ثم شَرعَ له التحللَ من محظوراتِ الإحرامِ بالحلقِ بعدَ الرميِ؛ فكانَ ذلك جاريًا مجرَى السلامِ من الصلاةِ. كما يتفاءلُ بفضلِ اللهِ بانحلالِه عن الذنوبِ، وأنه قد أدركَ من ربهِ غايةَ المطلوبِ.
ومن الحِكَمِ في ذلك: أن هذهِ عباداتٍ في محلٍّ واحدٍ ينتابُهُ المسلمونَ من أقطارِ الأرضِ بعدَ المشقاتِ وبذلِ نفائسِ النفقاتِ. فكان من المناسبِ غايةَ المناسبةِ أن يرجِعُوا وقد ظفِروا بعِدةِ عباداتٍ، فيا لَهَا من عبادةٍ جَمعت من العملِ فنونًا، ومن الخيرِ أنواعًا!
ومن الحِكَمِ في ذلك: أن تعدُّد المشاعرِ والمناسكِ وتنقلاتِ الحجاجِ فيها موضعًا بعدَ موضعٍ فيه راحةٌ وإجمامٌ. ولو كانت أفعالُ الحجِ عملاً واحدًا في موضعٍ واحدٍ؛ فهل سيوجدُ فيها استقبالُ كلِ مشعرٍ برغبةٍ تامةٍ وعزيمةٍ صادقةٍ؟
ومن الحِكمِ العظيمةِ في ذلك: أن اجتماعَ المسلمينَ في هذه المشاعرِ يوجبُ تعارفَهم وتعاطفَهم؛ فكم كسَبَ الإنسانُ بسببِ هذا النسكِ من ملاقاةِ أجلاءَ فضلاءَ، ومعرفةِ إخوةٍ صارُوا أحبَّاءَ!
ومن أسرارِ الحجِّ أن مبناهُ على الحبِّ والإخلاصِ والتوحيدِ، والثناءِ والذكرِ للحميدِ المجيدِ؛ فإنما شُرعت المناسكُ لإقامةِ ذِكْرِ اللهِ. ولذلك قالَ ربُّنا: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الحج: 28]؛ فَذَكَر للحجِ مقصودَينِ عظيمَينِ: ذِكْرَ اسمهِ، وشهودَ المنافعِ التي لا تتمُ إلا بتعددِ المواضعِ والعباداتِ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي مَنَّ علينا فهدَانا، والصلاةُ والسلامُ على مَن للهُدَى دعانَا.
أما بعدُ: فلا يزالُ الحديثُ موصولاً للشيخِ ابنِ سَعدي عن مقاصدِ الحجِ الجليلةِ؛ حيثُ يقولُ -رحمهُ اللهُ-:
ومن الحِكَمِ والمقاصدِ أنه قد جرتْ عاداتُ الأممِ بقيامِ التذكارِ لعظمائهِم؛ إحياءً لذكراهُم، وإشادةً بمآثرِهِم، وتنشيطًا للاقتداءِ بأعمالهِم، وأعظمُ الخلقِ على الإطلاقِ أنبياءُ اللهِ ورسلُه؛ فهمُ الرجالُ العظماءُ في الحقيقة، وأعظمُهم مطلقًا الخليلانِ إبراهيمُ ومحمدُ -صلى اللهُ عليهِما وسلمَ-.
والحجُ من أولهِ إلى آخرهِ تذكرةٌ لأحوالِ هذَينِ الرسولَينِ خاصةً. وقد أشارَ الباري إلى ذلكَ في قولهِ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)[البقرة: 125]، وليس المرادُ المقامَ الذي تحتَ الكعبةِ فقط، بل المرادُ جميعُ مقاماتهِ في الحجِ، وكما رمَلَ هو -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وأصحابُه في طوافِ القدومِ؛ فكان سُنةً إلى يومِ القيامةِ.
فالمسلمونَ إذا وصلوا كلَ مشعَرٍ من هذهِ المشاعرِ جعلُوا نصبَ أعينِهم أنه لا تتمُ أمورُهم كلُها إلا بتمامِ الأسوةِ والقدوةِ بنبيِهم وأحوالِه؛ لينالُوا زيادةَ الإيمانِ بنبيِّهم، وقوةَ المحبةِ والشوقِ إليه. فصلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى إخوانهِ من الأنبياءِ والمرسلينَ، وعلى أتباعِهم إلى يومِ الدينِ. (بتصرف واختصار من مجموع الفوائد واقتناص الأوابد للشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: ص263 –268).
فاللهم احفظِ الحجاجَ في بَرِّهم وبحرِهم وجوِّهم واقبَلْ منا ومنهم.
اللهم اجزِ مليكَنا ونائبَه على الخدماتِ الضخمةِ لتسهيلِ حجِ بيتِ اللهِ الحرامِ. اللهم أيدهُ تأييدًا يَصلحُ له وللمسلمينَ أمرُ الدنيا والآخرةِ.
اللهم احفظْ مجاهدِينا ومرابطِينا، ومُنظِّمِي الحجِ من كافةِ القطاعاتِ، واكفِنا وإياهُم وبلادَنا شرَّ الأشرارِ وكيدَ الفجارِ، والحاسدِينَ والمتربِصينَ.
اللهم أنجِ إخوانَنا المستضعفينَ في فلسطينَ، واحفظهُم يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
اللهم عَذِّبِ اليهودَ، وأنزِلْ عليهم رجزَك وعذابَك.
اللهمَ بارِكْ في أوقاتِنا وأقواتِنا، وأصلِح وِلدانَنا، وارحم والدِينا.
اللهم أعنا على استثمارِ موسمِ عشرِ ذي الحِجةِ، وأقبِل بقلوبِنا على طاعتِك.
اللَّهُمَّ صَلِّ وسلمْ عَلَى مُحَمَّدٍ.
التعليقات