عناصر الخطبة
1/من مفاتيح الرزق: صلة الرحم والأرحام الذين يجب صلتهم وفضل ذلك 2/من مفاتيح الرزق: الزكاة الواجبة والصدقة المستحبة 3/قصص مؤثرة عن دور الصدقة في حفظ المال وزيادتهاقتباس
إن صلةَ الرحمِ -يا عباد الله-: "مَثْراةٌ في المال" أي: سبب في كثرة المال والرِّزق، "محبَّةٌ في الأهل" أي: سببٌ للودِّ والتحابِّ بين الأقارب، "مَنْسأةٌ في الأَثَرِ" أي: تزيد العُمر، والزيادة في العمرِ قِيل فيها: إنَّ المراد البركة فيهِ، فالإنسان لا يزيد على أجلِه، ولكن يُبارك له فيه، فقد تعيش ستين سنة، ولكن...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله، نحمدُكَ ربَّنا على ما أنعمتَ به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضلَ رُسُلِكَ، وأنزلتَ علينا خيرَ كُتُبِكَ، وشَرَعْتَ لنا أفضلَ شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: سبق الحديث في الخُطبتينِ المَاضيتينِ عن مفاتيح الرزقِ، وتحدَّثنا عن: مِفتاحِ التوبةِ والاستغفارِ، ومِفْتاحِ تقوى الله -جل وعلا-، ومِفتاحِ التوكُّل على الله، ومِفتاحِ التفرُّغ لعبادة الله، ولا يزال الحديثُ عن مفاتيح جديدة للرزق في خُطْبتنا اليوم. المِفتاح الخامس: صِلَّة الرَّحِم، قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(رواه البخاري)، وفي رواية: "فَلْيتَّقِ اللَّهَ، وَلْيصِلْ ذا رَحِمِهِ"(ضعَّفه شعيب الأرناؤوط)، فمن أحبَّ أن يوسِّع اللهُ له في رزقهِ، ويزيدَ له في العُمر، فهذان شرطانِ لا بُدَّ لتحقُّقهما مِن جواب الشرط، فأين الجواب؟ الجوابُ هو أن تتقي الله أولًا، ثم تَصِل رحِمَك ثانيًا.
ما معنى الأرحام؟
الأرحَام: هم أقاربك، وللعُلماء في تحدِيدهم ثلاثة مذاهب: قيل: الأرحامُ هم المَحارِم المُشار إليهم في قولِه تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)[النساء: 23].
وقيل: هم الأقاربُ الذين يَرِثُونَ منك وتَرِثُ مِنهم، وعليه فالذي لا يرث منك ليس من الأرحام الذين تجبُ صِلتُهم.
وقيل بالعُموم؛ أي: إن الأرحامَ هم الأقاربُ عمومًا؛ سواء كانوا من المَحارمِ أو لم يكونوا، وسواء يَرِثُون منك أو لا يَرِثُونَ، وهذا هو الصَّحيح، والله أعلم.
وعليه فأيُّ قريبٍ لك من جهة الأب أو من جهة الأم، تجِبُ صِلتُه؛ عمك، خالك أبناء عمِّك، أبناء خالِك، عمَّتك، خالتك، أخيك، أختك، وهكذا..، فهؤلاء جَميعًا تجبُ صِلتُهم إذا أردتَ أن تحصلَ على الرِّزق الواسِع والوافِر، قال صلى الله عليه وسلم: "ما مِن ذنبٍ أجدرُ أن يُعجِّلَ اللهُ -تعالى- لِصاحبِه العُقوبةَ في الدنيا مع ما يَدِّخِرُه له في الآخرةِ، مِن قَطيعةِ الرَّحِمِ، والخيانةِ، والكذبِ، وإنَّ أَعجلَ الطاعةِ ثوابًا لصِلَةُ الرَّحِمِ، حتى إنَّ أهلَ البيتِ ليكونوا فجَرةً، فتنمُو أموالُهم، ويكثُرُ عددُهم، إذا تواصَلوا"(الجامع الصغير للسيوطي، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع)، فمن أسباب تَنمية الأموال -حتى لو كان أصحابها فَجرة-: صِلةُ الرَّحِم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "تعلَّموا مِن أنسابِكم ما تصِلونَ بهِ أرحامَكم؛ فإنَّ صلةَ الرَّحمِ محبَّةٌ في الأهلِ، مَثْراةٌ في المالِ، مَنْسأةٌ في الأثَرِ"(رواه الترمذي وصححه).
وللأسف قد تجِد الأب يذهب لزيارة أقاربِه، ولا يُرافق أبناءَه، أو تمتنع الزوجة من استقبال أقارِب زوجها، أو يمتنع الزوج عن استقبال أقاربِ زوجته، متى سيعرف الأبناءُ أقاربَهم إذا كنَّا على هذه الحَال؟
والنتيجة أنه يتم التواصل بين الكِبارِ فقط، فإذا ماتوا انقطَعَ حبلُ الصِّلة بين الصِّغار؛ لأنهم أصلًا لا يتعارفون، وإن تعارفوا فالصِّلةُ بينهم ضعيفةٌ، والمسؤول عن هذا الوضع هم الآباء.
والقصدُ من الحديث أن صلةَ الرحمِ: "مَثْراةٌ في المال" أي: سبب في كثرة المال والرِّزق، "محبَّةٌ في الأهل" أي: سببٌ للودِّ والتحابِّ بين الأقارب، "مَنْسأةٌ في الأَثَرِ" أي: تزيد العُمر، والزيادة في العمرِ قِيل فيها: إنَّ المراد البركة فيهِ، فالإنسان لا يزيد على أجلِه، ولكن يُبارك له فيه، فقد تعيش ستين سنة، ولكن الأعمال التي قدَّمتها تُقَدَّر كما لو أنَّك عِشْتَ زمنًا طويلًا، وهذا تفسير للزيادة في العُمر بالكَيفِ، وليس بالكمِّ.
وقيل: الحديث على ظاهرِه، والزيادة حقيقية، ولكن هذا الرأي يعترضه قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34]، وأجابوا أن ما كُتِب في اللوح المحفوظ يجوز عليه المَحْوُ والتثبيت؛ لقوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)[الرعد: 39].
فإذَنْ: مُمكن أن يُزاد منه إذا توفر سَببُ ذلك، فهي زيادة معلَّقة -والله أعلم-، فمُمكن أنه قدِّر له من رزقه مئة، لكن إذا كان واصلًا لِرَحِمِه يصل رزقُه إلى مائتين، وهكذا...
المِفتاح السادس: الصدقة، لا تكن شحيحًا بخيلًا -أيها الأخ الكريم-، واعتبروا بأصحاب الجنَّة، فهؤلاء من اليَمن كان أبوهم صالِحًا يقسِّم ماله أثلاثًا: ثُلثًا يردُّه في الأرض، وثلثًا يدَّخره لِعياله، وثلثًا يتصدَّق به على الفقراء والمَساكين، فمات هذا الرجل الصَّالح، جاء أبناؤه البُخلاء، فابتلاهم الله بكثرة إنتاج بستانهم ذلك العام على غير العادة، واستمروا في غيِّهم وعِنادهم، وذهبوا لجَني الثمار في الصَّباح الباكر قبل استفاقةِ الفقراء، وبيَّتوا نِيةً سيئةً، فعوقبوا بنقيض قصدهم، وصوَّر الله لنا قصتهم بقوله: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[القلم: 17-33]، فأُصِيبوا بالعذاب بِسبب منع الصَّدقة، فذهب الرِّزق، فهل مِن مُعتبر، فهؤلاء أُصِيبوا بهذا النوع من العَذاب، وقد يكون العذاب هو البَرد، أو الحريق، أو الغرق أو الرِّيح، إلى غير ذلك من أنواع الجَوائح التي تذهبُ بالمال.
فاللهم اجعلنا من الواصلين لأرحامِهم، ومِن أهل الصَّدَقة، وآخِرُ دعوانا الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وكفى، وصلى الله وسلَّم على عبده المصطفى، وآله وصَحْبه ومن اقتفى.
أما بعد: من مفاتيح الرزق كما ذكرنا: صلة الرحم، والصدقة، وإخراج زكاة المال، ولنا تتمَّة لهذا المِفتاح الأخير.
أيها الإخوة الأفاضل: علينا أن نحصِّن أموالنا بالصدقة والزكاة، وذلك بإخراج حقِّ الله وحقِّ الفقراء والمساكين والضعفاء، وإيَّاك وتلبيس إبليس عليك بما يسوِّله لك من خشية الفقر، واستمع لنداء ربِّك، قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 268]، فالمُصيبة في الامتناعِ عن الإنفاق، قال صلى الله عليه وسلم: "ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"(رواه البخاري)، فدعوةُ المَلك الأول دعوةٌ بالرِّزق والبركة، لكن لمن حَصل منه الإنفاق، والإمساكُ طريقٌ لهلاك المال وإتلافِه، ولا شكَّ أن دعوة المَلكين مُستجابةٌ.
وقال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39]، فاختر أيها الأخ الكريم بين طَريقين: طريق الرحمن الذي فيه التعويض عن الإنفاق، وإيعاد بالخير، وطريق الشيطان الذي فيه إيعاد بالفقر.
أختم بقصة لأهل منزلٍ كانت لهم شجرةُ ليمونٍ بفِناء المنزل، وكانت لهم جَدَّة لا تمنَع أحدًا مِن قَطْف ليمونة اشتهاها، أو يُريدها لأحد أبنائه، فكانت تُثمر ثمرًا لا نظير له في الكثرة، وأهلُ القرية يعلمون هذا فيأتون لأخذِ اللَّيمون، فتُوفِّيَت الجَدَّة وكانت زوجةُ ابنها تمنع كُلَّ مَنْ يأتي إلى اللَّيمونة، فيَبِسَتِ اللَّيمونةُ، وهذا هو التَّلَف، وما أشبه هذه القصَّة بقصة أصحاب الجنة.
ومن القصص التي نعتبر بها: أنَّ جرادًا استولى في بعض البلاد على الحقولِ إلا حقلًا واحدًا، وهذا أمر عجيبٌ يدل على قدرة الله كيف يأكل الجَراد من النواحي الأربع ويترك هذا الحقل؟ لا شكَّ أنه مأمور بأمْرِ ربِّه، بحثوا عن صاحب الحقلِ، فقالوا له: ما القصة؟ قال لهم: كنت أداوي حقلي، قالوا: لماذا لم ترشدنا إلى هذا الدواء؟ فقال لهم: كنت أداويه بالزكاة، فحصَّن بستانه بالصدقة، أما من طغى عليهم التفكير المادي فلا يُفكِّرون إلا في الأدوية المادية.
ولذلك في الغرب الذي طغى فيه هذا النوع من التفكير، وغاب التفكير الرُّوحِي تجد منهم من يُتْلِف السِّلَع؛ لأجل الحفاظ على ثمنها في السُّوق، في أمريكا فلَّاح يريد إتلاف حديقتِه من البرتقال؛ لأجل الحِفاظ على سِعر السُّوق، سمع الفقراء بِمُراده فدخلوا تحتَ الأسلاكِ الشائكة للحصول على البرتقال قبل إتلافِه، في العام التالي سمَّم الفلاحُ البُرتقال حتى لا يستفيد منه الفقراء! أي أخلاقٍ هذه؟ فما أسعدَنا بهذا الدِّين! وما أشقى غيرَنا بالابتعاد عن هذا الدِّين وتعاليمه! وفي استراليا قبل أعوام قتلوا ملايين من الحيوانات للحِفاظ على سِعْر السوق.
فأكثروا -إخواني- من الصَّدَقة تَنْمُ أموالُكم، وتجنَّبوا التشبُّه بمن همُّهم الحَياةُ الدنيا، ولا خَلاق لهم في الآخرة.
فاللهم لا تجعل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلغَ علمِنا، ولا غايةَ رغبتنا، ولا إلى النار مَصيرنا، ولا تسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يَخافَكَ ولا يرحمنا.
التعليقات