عناصر الخطبة
1/الأنبياء والرسل مفاتيح لكل خير 2/معرفة المفاتيح من العلم الضروري 3/من أبواب مفاتيح الخير 4/من مجالات إغلاق أبواب الشراقتباس
أجر عظيم أن تأتيَ يوم القيامة وتجد عند الله -تعالى- أعمالًا كثيرة، وجبالًا من الحسنات لم تعملها، ولكنها أُضيفت لك ممن اتبعك، فأسَّستَ مؤسسة خيرية واستمرت عشرات السنين، فلك أجر مَن عمل بها ومَن استفاد منها، أو شرحت آية أو حديثًا...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الْـحَمْد لِلَّـهِ نَحْمَدُه، وَنَسْتَعِينُه، وَنَسْتَغْفِرُه، ونعوذُ بِاَللَّـهِ مَن شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنّ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَن يَهْدِه اللَّـهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنّ يُضْلِل فَلا هَادِي لَه، وَأَشْهَدُ أن لا إلَه إلَّا اللَّـهُ وَحَدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وَأَشْهَدُ أن محمداً عبدُهُ ورسوُلُه.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70 - 71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْـحَدِيثِ كِتَابُ اللـهِ، وَخَيْرَ الْـهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ.
أما بعد: فإن الأنبياء -عليهم السلام- كانوا مفاتيحَ للخير مغاليق للشر، بل ما كانت رسالاتهم إلا فتحًا للخير، غلقًا للشر، فنوحٌ -عليه السلام- فتح للمسلمين والبشرية بعده أعظم بابٍ للخير، حين بنى السفينة بأمر الله -تعالى-، التي حفظت المؤمنين من الطوفان، فكان من هؤلاء المؤمنين الأنبياءُ -عليهم السلام-، قال -تعالى-: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ)[الأنعام: 84]، وإبراهيم -عليه السلام- بنى الكعبة -شرفها الله- وفتح للناس باب الحج والعمرة والدعاء، وهدم الأصنام فأغلق أبوابًا للشر والشرك، وموسى -عليه السلام- أنقذ بني إسرائيل من بطش فرعون؛ ففتح لبني إسرائيل أبواب خيرٍ، وأغلق عليهم أبواب شرور فرعون، ويوسف -عليه السلام- حكم بالعدل ففتح للناس أبوابًا للخير.
ونبينا -صلى الله عليه وسلم- فتح لنا كل أبواب الخير، وأغلق علينا كل أبواب الشرور، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الجنادِبُ والفَراشُ يقعْنَ فيها، وهو يَذُبُّهُنَّ عنها، وأنا آخذٌ بِحُجَزِكم عن النار، وأنتم تفلَّتون من يدي"(رواه مسلم)، فما من خير إلا دلَّنا عليه، وما من شر إلا دفعه عنا، صلى الله عليه وعلى إخوانه الأنبياء وسلم تسليمًا.
ومن أتباع الأنبياء -عليهم السلام- أقوامٌ كُثُر من الصحابة والتابعين، والأئمة والعلماء، والزهاد والمصلحين، والدعاة وعامة المسلمين يفتحون الخير ويغلقون الشر، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن من الناس مفاتيحًا للخير مغاليقًا للشر، ومن الناس مفاتيحًا للشر مغاليقًا للخير، فطوبى لمن جعل الله مفتاح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل مفتاح الشر على يديه"(رواه ابن أبي عاصم عن أنس -رضي الله عنه- بسند حسن)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله -تبارك وتعالى- خزائنَ من الخير مفاتيحها الرجال"(رواه ابن أبي عاصم عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- بسند حسن لغيره).
ومعرفة المفاتيح من العلم الضروري ليس النافلة، قال ابن القيم -رحمه الله-: "جعل الله -سبحانه- لكل مطلوب مفتاحًا يُفتَح به، فجعل مفتاح الصلاة الطهور، ومفتاح الحج الإحرام، ومفتاح البر الصدق، ومفتاح الجنة التوحيد، ومفتاح العلم حسن السؤال، ومفتاح النصر والظفر الصبر، ومفتاح المزيد الشكر، ومفتاح الولاية المحبة، ومفتاح الفلاح التقوى، ومفتاح الإجابة الدعاء، ومفتاح الرغبة في الآخرة الزهد في الدنيا، ومفتاح الإيمان التفكر فيما دعا الله عباده إلى التفكر فيه، ومفتاح حياة القلب تدبر القرآن، والتضرع بالأسحار، وترك الذنوب، ومفتاح الرزق السعي مع الاستغفار والتقوى، ومفتاح العز طاعة الله ورسوله، ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل، وهذا باب عظيم من أنفع أبواب العلم، وهو معرفة مفاتيح الخير والشر، لا يُوفَّق لمعرفته ومراعاته إلا من عَظُم حظه وتوفيقه، فإن الله -سبحانه وتعالى- جعل لكل خير وشر مفتاحًا وبابًا يُدخَل منه إليه، كما جعل الخمر مفتاح كل إثم، وجعل الغناء مفتاح الزنا، وجعل إطلاق النظر في الصور مفتاح الطلب والعشق، وجعل المعاصي مفتاح الكفر، وجعل الكذب مفتاح النفاق، وجعل الشح والحرص مفتاح البخل، وجعل الإعراض عما جاء به الرسول مفتاح كل بدعة وضلالة، وهذه الأمور لا يصدق بها إلا كل من له بصيرة صحيحة، وعقل يعرف به ما في نفسه، وما في الوجود من الخير والشر" ا.هـ.
فلنكن -أيها الإخوة- من مفاتيح الخير مغاليق الشر، وأهم الخير التوحيد؛ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[النساء: 48]، فمن دعا وثنيًّا أو كتابيًّا للإسلام فأسلم، فقد فتح له أعظم باب للخير، وفتحُ أبواب الخير مأمورٌ به، قال -سبحانه-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)[المائدة: 2]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من الناس مفاتيح لذكر الله؛ إذا رُؤوا ذُكِرَ الله"(رواه الطبراني عن ابن مسعود -رضي الله عنه-).
فمن مجالات فتح أبواب الخير: العلم تعليمًا وتأليفًا ونشرًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقيَّة قبِلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقَوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قِيعانٌ لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل مَن فقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به"(رواه البخاري عن أبي موسى -رضي الله عنه-)، فالذي يعلِّم الناس الخير، فقد قبِل الوحي ونشره بين الناس، وانتفع به المسلمون، فهو أرض نقية، والذي أمسك العلم ولم ينشره بين الناس، ولكن حفظه لهم، فهو أجادب يستفيد منه مَن يبحث عنه، وأما القيعان فلا خير فيها.
فعلِّمِ الناسَ الخيرَ تَنَلْ مثل أجرهم؛ لذا حثَّنا -سبحانه- على تعليم أنفسنا: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه: 114]، وتعليم الآخرين: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة: 122]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بُعِثْتُ معلمًا"، فإذا علَّمت شخصًا الصلاة، فتحت له أعظم باب في الإسلام، وإذا علمته سُنَّةً، فتحت له باب خير، وإذا علَّمت أبناءك وبناتك السنن والآداب، فتحت لهم أبواب الخير.
ومن أبواب مفاتيح الخير: السنة الحسنة، كالصحابة -رضي الله عنهم- الذين جمعوا القرآن، ففتحوا للمسلمين باب خير عظيم، فكانوا قدوةً لكل من جمع القرآن وطبعه بعدهم، ومن يكون له السبق فيدل الناس على الخير، فهو من مفاتيح الخير، وقد قال الله -تعالى-: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان: 74]، ويتفاوت الناس في ذلك، فتجد بعضهم مِقدامًا في الخير، فتكثر أوَّلياته، كعمر -رضي الله عنه- الذي كان إمامًا في أمور خيرٍ كثيرة.
وقد جاء قومٌ من الفقراء إلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتأثر لحاجتهم، فدعا الناس إلى الصدقة، فقام رجل بصدقة قليلة، فتتابع الناس بعده، فاستبشر النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة، فله أجرها، وأجر من عمِل بها من بعده إلى يوم القيامة"(رواه مسلم).
أجر عظيم أن تأتيَ يوم القيامة وتجد عند الله -تعالى- أعمالًا كثيرة، وجبالًا من الحسنات لم تعملها، ولكنها أُضيفت لك ممن اتبعك، فأسَّستَ مؤسسة خيرية واستمرت عشرات السنين، فلك أجر مَن عمل بها ومَن استفاد منها، أو شرحت آية أو حديثًا بفقه سديد ونقل صحيح لم ينتبه له مَن قبلك، فلك أجر من استفاد منه، أو اكتشفت دواءً لمرض فاستفاد منه الناس، فكل من تداوى به وشُفِيَ فلك أجره، مهما كثر عددهم، والله يضاعف لمن يشاء.
الخطبة الثانية:
الحمد لله؛ (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غافر: 3]، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص: 88]، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليّ"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أولى الناسِ بي يومَ القيامةِ أكثرُهم عليّ صلاةً".
أما بعـــد: فكما أن المسلم مأمور بفتح أبواب الخير، فإنه مأمور بغلق أبواب الشر، وأعلى الشرِّ الشركُ، قال -سبحانه-: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)[المائدة: 72]، والله -تعالى- أمر بغلق أبواب الشر: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة: 2].
والرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بغلق أبواب الشر، قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور لحذيفة -رضي الله عنه- لما سأله: وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"، قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "تعتزل تلك الفرق"(رواه البخاري)، فأمره بالاعتزال عن جماعات الشر والفتنة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنها ستكون فتنٌ، ثم تكون فتنٌ، المضطجع فيها خير من الجالس، والجالس فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، أَلَا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كانت له إبلٌ فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"(رواه أحمد عن أبي بكرة نفيع بن الحارث -رضي الله عنه-).
ومن مجالات إغلاق أبواب الشر: الحسبة، بمراقبة الأبناء والبنات، والزوجات والأصدقاء، والحسبة الرسمية بالرقابة على الكتب ووسائل الإعلام والمجلات، ففيها سدٌّ عظيم لأبواب الفتنة والبدعة والشر، فمن يقُمْ عليها بنية وإخلاص، يأجُرْهُ الله -تعالى- أجرًا عظيمًا.
ومن غلق أبواب الشر: العلم بأبواب الشر ليحذَّر منها، وقد قال عمر -رضي الله عنه-: "تُنقَض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام مَن لا يعرف الجاهلية"، وقال الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقِّيه *** ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فِيهِ
ومن غلق أبواب الشر: سدُّ ذرائع الفتنة والشر، كعدم نشر زلات العلماء، قال عمر -رضي الله عنه-: "ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون"(رواه ابن عبدالبر بسند صحيح)، ويفسِّره قول معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "إياك وزيغة الحكيم؛ فإن الشيطان يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة"، قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: "هي الكلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟ فاحذروا زيغته ولا يصدنكم عنه؛ فإنه يوشك أن يفيءَ وأن يراجع الحق"(رواه أبو داود بسند صحيح).
التعليقات