عناصر الخطبة
1/وخلق الإنسان ضعيفا 2/من معينات التعبداقتباس
فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله -عز وجل-...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: إن الإنسان بأصل خلقته ضعيف، قال -تعالى-: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النساء:28]، وهو يحمل مضغة متقلبة لا تستقر على حال؛ لذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لقلب ابن آدم أشد انقلابًا من القدر إذا اجتمع غليانًا"(رواه الحاكم)، وفوق ذلك فقد ابتلاه الله -تعالى- بفتن وامتحانات يختبره بها؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"(رواه مسلم)، ثم سلط الله -عز وجل- عليه شيطانًا يغويه ليرديه!... ولهذه الأسباب فثباته على طاعة أو عبادة ليس بالشيء اليسير؛ بل إنه في حاجة إلى ما يعينه على الثبات والمداومة على التعبد، ومن تلك المعينات ما يلي:
الاستعانة بالله تعالى؛ إذ أن العبد الضعيف محتاج أن يلجأ إلى القوي المتين فيرفعه ويعينه ويقويه ويديمه على طاعته وعبادته، وهذا ما كان يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه؛ فقد كان يقول في دبر كل صلاة: "رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"(رواه النسائي).
وما أروع وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس إذ يقول له: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"(رواه الترمذي)؛ فبغير عون الله نحن العاجزون الفقراء القاعدون، لذا علَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة أن تقول إذا أصبحت وإذا أمست: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين"(رواه النسائي)؛ فإن وكلنا الله إلى أنفسنا وكَلَنا إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة!.
وفي قنوت الوتر كان -صلى الله عليه وسلم- يسأل الله -تعالى- قائلًا: "اللهم عافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، واهدني فيمن هديت"(رواه ابن ماجه)؛ فبدون معافاته -تعالى- وتوليه أمرنا وهدايته لنا فنحن الهلكى المنقطعون!
ويلخص ابن رجب الحنبلي الأمر كله قائلًا: "فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله -عز وجل-، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه، وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز"(رواه مسلم)، ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيره، وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولًا".
معاشر المؤمنين: ما أصدق قول من قال: "المرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه"، بل صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "الشيطان من الواحد قريب، ومن الاثنين أبعد"(رواه النسائي في الكبرى)؛ "فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية"(رواه أبو داود).
لكن أي إخوان وأي جماعة تلك التي نأمرك أن تكون وسطهم؟ إنهم العابدون الخاشعون المتقربون إلى ربهم، الذين لا يشقى بهم جليسهم، والذين لا بد أن يصيبك شيء من بركاتهم ما دمتم بينهم؛ ألم تسمع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة"(متفق عليه)، نعم، لا بد أن ينالك خير من جليسك الصالح، فإن كان جلساؤك من العابدين أعانوك على العبادة والقرب من الله -تعالى-.
بل لقد أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يكون "مع" العابدين الخاشعين وبينهم ووسطهم، فقال -عز من قائل-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الكهف: 28]، يحكي خباب فيقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم، قام وتركنا، فأنزل الله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...) (ابن ماجه).
فإن عشت -أخي المسلم- وسط قوم عُبَّاد كان لذلك أكبر الأثر عليك في عبادتك وطاعاتك؛ يذكرونك إذا نسيت، ويعينونك إذا ذكرت، ويأخذون بيدك إذا فترت...
أما المعين الثالث من معينات التعبد -أيها المؤمنون-: فهو مجاهدة النفس والهوى والشيطان، ومجاهدة ما يصرف عن العبادة ويقطع عنها، ومن لم يبن طاعاتها وعباداته وحياته كلها على المجاهدة كان لاعبًا لاهيًا عابثًا؛ فإن المشغلات والملهيات والأعداء يحيطون به من كل جانب، كلٌ يريد هلاكه ودماره!.
وأول ما يصد عن العبادة ويحتاج إلى مجاهدة هو نفسك التي بين جنبيك، تلك التي تدعوك إلى الدعة والخمول والتكاسل والقعود، فالخذلان في طاعتها، والنجاة في مخالفتها، قال -تعالى-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 40-41].
وأما الشيطان فقد حمل على عاتقه مهمة إغواء البشر وقطعهم عن الله، فقال -غير مستخف- مخاطبًا رب العزة -سبحانه-: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[الأعراف: 16-17]؛ فما من طاعة إلا والشيطان لها بالمرصاد؛ يصد عنها ويقطع الطريق إليها؛ فعن سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه: فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال، فعصاه فجاهد..."(رواه النسائي).
فإن لم يستطع الصد عنها حاول أن يفسدها أو يحبط أجرها، وهذا نموذج ينقله إلينا أبو هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب، أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول له: اذكر كذا واذكر كذا لما لم يكن يذكر من قبل حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى"(متفق عليه).
وأما لذائذ الدنيا وشهواتها وأموالها... فهذه من أشهر القواطع عن العبادة، ومن أخطر ما يحتاج إلى مجاهدة؛ فلكي نصلي الفجر لا بد أن نجاهد دفء الفراش، ولكي نواظب على الصيام لا بد أن نقاوم حب النساء ونصبر على الجوع والعطش، ولكي ندوم على ذكر الله لا بد أن نحذر الانشغال بالأموال والأولاد، ولقد قال الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) إلى أن قال -عز من قائل-: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)[التغابن: 14-15].
وإن قال الشاعر شاكيًا:
إني بـلـيـت بـأربـع ما سلطوا *** إلا لـشـدة شقـوتــي وعـنـائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى *** كيف الخلاص وكلهم أعدائي
قلنا له: إن الخلاص والنجاة والفوز والسعادة في مجاهدة هذه القواطع وعصيانها، وقد أحسن من قال:
وخالف النفس والشيطان واعصهما *** وإن هــمــا مـحضــاك الـنـصـح فـاتـهم
ولقد وعد الجليل الكبير المتعال -سبحانه وتعالى- من جاهد فيه أن يهديه ويكفيه ويعينه ويحميه، فقال -عز من قائل-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت: 69].
معاشر المسلمين: يتفانى الطالب في مذاكرته إذا بدت له لوائح النجاح والتفوق، ويكد العامل في عمله إذا منَّى نفسه بكبير راتب يتقاضاه، وكذلك أنت -أيها العابد لله- يصبرك على التعبد عظم الأجر الذي ستلقاه، فانصب أمام عيني قلبك راية مكتوب عليها: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آلعمران:133]، واعلم أن مهر هذه الجنة هو العبادة والعمل الصالح بعد الإيمان.
واعلموا -عباد الله- أن جنة الله وإن لم يكن ثمنها العبادة والعمل، فإنهما سبب في تفضل الله بها على من تفانى في عبادته، يقول -جل وعلا-: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف: 43]، ومرة أخرى يقول -تعالى-: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[النحل: 32].
فيا أيها العابد الزاهد: لكم منَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها أصحابه، فمنِّي نفسك بها... وكلما كان سيرك إلى الله أوثق كلما كان نصيبك في الجنة أعظم وأرحب:
فاعـــمـــل لـدار يــكـــن رضـــــوان خازنها *** والـجـــار أحـمـد والرحمن عاليها
أرض لـهـا ذهـب والـمسك طــيـــنـــتـــها *** والزعفران حــشـــــيش نابت فيها
أنـهارهـا لــبن مـــحـــض ومـــن عـســـل *** والخمر يجري رحيقًا في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكـــفــة *** تسبح الله جـــهــــرًا فـي مــغــانيها
من يشتري الدار في الفردوس يغمرها *** بركعة في ظـــلام الليل يـحـــييــها
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: إنما هي سنوات معدودات نحياها فوق هذه الأرض، ثم إننا -لا محالة- راحلون عنها ومفارقونها إلى حيث يحاسبنا الله -عز وجل- على أعمالنا، ولقد أنذرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- قصر العمر حينما قال: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك"(رواه ابن ماجه)، وطلب الله -تعالى- منا أن نعبده طوال هذه السنون حتى يأتينا الموت، فقال -سبحانه-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].
وإذا ذكر العبد موته وقصَّر أمله فليس فقط يداوم على العبادة، بل أيضًا يحسنها ويؤديها على خير وجه؛ فعن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اذكر الموت في صلاتك فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته، وصل صلاة رجل لا يظن أن يصلي صلاة غيرها"(رواه الديلمي في مسند الفردوس)، وعن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: عظني وأوجز، فقال: "إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع"(رواه أحمد).
فاستحضر -أخي المسلم- دائمًا قرب أجلك وأن الموت يأتي فجاءة، وليكن أمام عينك دومًا قول الجليل -سبحانه وتعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آلعمران: 185]؛ فإن فعلت كان ذلك عونًا لك على مواصلة العبادة إلى يوم تلقاه -عز وجل-.
فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأدمنا على طاعتك، وسخر لنا من يعيننا عليها.
وصل اللهم وسلم على محمد وعلى آل محمد...
التعليقات