عناصر الخطبة
1/ تعريف العقل ومجاله وحدوده 2/العقل الصريح يوافق النقل الصحيح 3/خطورة تقديم العقل على النقل 4/العلاقة بين العقل والشرع 5/لماذا نقدم النقل على العقل؟ 6/شبهات وردود 7/أمثلة لإقحام العقل في النصوص الشرعية.اهداف الخطبة
اقتباس
ما فتئ علماء الأمة قديماً وحديثاً يحذرون من خطورة تقديم العقل على النقل لما يترتب على ذلك من هدم الشرائع والمساس بمقدسات الدِّين وهدم أدلته القطعية والظنية, وجعلها عرضة للعقل الضيق الضعيف يتكلم فيها ويعبر عن مراد الله العظيم الحكيم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخير خلقه، وخاتم رسله، وأشهد أنه قد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح لهذه الأمة، فكشف الله تعالى به الغمة، وأشهد أنه قد هاجر وصبر، وجاهد ونصر، وتحمّل الضرر، ولم يبالِ بالخطر، فعلا دينه وانتشر، ودخل كل بيت من وبر وحجر، فصلى الله عليه وعلى آله وصبحه وتابعيه بإحسان إلى اليوم المنتظر، وسلم تسليما كثيرا ما أشرقت الشمس و وطل القمر.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فهي وصية الله للأولين والآخرين، وبها أمر كل نبي قومه، وعلى دربها سار الصالحون والطالبون لنيل المرضات ودخول الجنات.
إن من أهم الأمور في حياة المسلم هي علاقته مع ربه -جل وعلا-، ومقدار ما وقر قلبه من إيمان ومعرفة بالله -عز وجل-، لذلك كان التوحيد والعقيدة النقية هي القاسم المشترك الأعظم بين دعوات كل الأنبياء والمرسلين، فهم قد اتفقوا على التوحيد والاستسلام لله تعالى، واختلفوا في شرائعهم وأحكامهم العملية، أما مبادئ وأصول الإيمان فهي واحدة وثابتة من لدن آدم إلى نبينا محمد صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
ومن أهم الأمور التي تقرر العقيدة السليمة في نفوس المسلمين، وتسهم في إزالة الخلاف بين أبناء الأمة، وتقرب القلوب إلى التمسك بالقرآن والسنة على فهم سلف الأمة، حقيقة العلاقة بين العقل والنقل، فالعلاقة بين العقل والنقل تعتبر عاملا حاسما في تحديد هوية المسلم واعتقاده، لاسيما في باب الغيبيات وما يتعلق بالأسماء والصفات؛ إذ العقل هو الغريزة التي وضعها الله في قلوب الممتحنين من عباده، تابعة للروح موضوعة في الجانب الغيببي من قلب الإنسان لا نعرف كيفيتها، ولكن نتعرف على وجودها ووجود أوصافها من أفعال الإنسان في ظاهر البدن، فيقال هذا عاقل إذا فعل أفعال العقلاء وهذا مجنون إذا لم يتصف بها.
قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) [الحج: 46]؛ فالآية تدل على أن العقل موجود في القلب، قال الثعالبي في الجواهر الحسان: "هذه الآية تقتضى أن العقل في القلب وذلك هو الحق، ولا ينكر أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ"، وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: "أضاف العقل إلى القلب لأنه محله, كما أن السمع محل الأذن، وقد قيل: إن العقل محله الدماغ".
العقل وإن كان أساس الإدراك عند الإنسان، إلا أنه حاسة من ضمن الحواس البشرية لها حدود تنتهي عندها، ولا تحسن أن تتجاوزها مثل باقي الحواس البشرية، والله -عز وجل- قد خلق البشر بحواس محدودة وقاصرة، تحقيقا لعلة معينة، تمثلت في الابتلاء كما قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان: 2].
وقد أجريت التجارب والدراسات الحديثة، لتقدير مدى إدراك الحواس البشرية، فكانت النتائج مذهلة، وتعكس مدى ضعف القدرة الإدراكية للبشر، مقارنة بباقي مخلوقات الله الأخرى، فإذا كان الجهاز الإدراكي في الإنسان بهذه الصورة في الدنيا فمن الصعب أن يرى ما وراء ذلك، كالذي يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو يرى الملائكة أو الجن أو عالم الغيب، أو يرى ذات الله وصفاته من باب أولى، ومعلوم أن عدم رؤيته لهذه الأشياء لا يعنى عدم وجودها.
فالجن مثلا جهازه الإدراكي يختلف عن الإنسان من حيث القوة، قال تعالى في وصفه: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف: 27]، وموسى -عليه السلام- لما طلب رؤية الله لم يكن الجواب باستحالة الرؤية أو نفيها، بل استحالة حدوثها في الدنيا، لضعف الحواس البشرية لموسي -عليه السلام-، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي، فَلَمَّا تَجَلى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً) [الأعراف:143 ].
فمن الخطأ طلب البحث عن كيفية الأمور الغيبية أو الذات الإلهية أو صفاتها في الدنيا؛ لأن النواميس التي أوجدها الله في الكون لا تسمح بذلك, اللهم إلا إذا حدث خرق للعادة كأن يرى بعضُ الرسل الملائكةَ أو الجنةَ أو النارَ أو بعضَ أمور الغيب, أو ما يعجز الإنسان العادي عن إدراكه، كما في حديث كسوف الشمس من حديث عَائِشَة أن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: "لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُهُ حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنْ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ" [البخاري(1212)].
أما في الآخرة -عباد الله- فالأمر مختلف تماما، إذ أن مدركات الإنسان في الآخرة تختلف عن مدركاته في الدنيا كما صح الخبر عن رسول الله بذلك في الحديث الصحيح: "خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا, .. فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الْآنَ" [البخاري(6227)]. فالإنسان يوم القيامة على صورة آدم طوله ستون ذراعا, ومن أجل ذلك فإن مداركه وحواسه تتغير بالكيفية التي تناسب أمور الآخرة.
أيها المسلمون: حينما نسمع قول النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ" كما في المتفق عليه, علمنا أن إدراك العين المبصرة في الدنيا وقدرتها تختلف عن إدراك العين المبصرة في الآخرة وقدرتها على الرؤية.
من أجل ذلك وجب الإيمان بالرؤية في الآخرة والتسليم بذلك لموافقته للعقل الصريح والنقل الصحيح، وكذلك الحال في بقية الصفات فنؤمن بها ونثبتها لله دون طلب للكيفية، أما العقل فأقصى حدوده أن يتعرف على الله ووجوده من خلال الأسباب، فهناك عدة أمور يدرك بها العقل حقائق الأشياء.
عباد الله: هذا عن تعريف العقل ومجاله وحدوده ودوره، أما النقل فهو الوحي المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويسمى أيضا بالشرع أو السمع أو الخبر. فالنقل أو الوحي أو الشرع أو السمع أو الخبر كلها عند علماء العقائد معان مترادفة تدل على كتاب الله وسنة رسوله، فالنقل هو ما جاءنا من الله يعرفنا فيه عن نفسه وما في عالم الغيب، والعاقل لا بد أن يقر به ويقدمه ويسلم له، فلا يوجد من هو أعلم بالله من الله ولا أعلم من رسول الله بالله، فما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات وجب علينا الإيمان به كما أخبر، وما أمرنا الله به كان صلاحنا في أتباعه.
عباد الله: ومن المحال أن يتعارض العقل الصريح الواضح مع النقل الصحيح الثابت، بل العقل الصريح يشهد للنقل الصحيح ويؤيده، والسبب في ذلك سبب منطقي، وهو وحدة المصدر فالذي خلق العقل هو الله، والذي أرسل إليه النقل هو الله، وهو -سبحانه- أعلم بصناعته لعقل الإنسان, وأعلم بما يصلحه في كل زمان ومكان، فإذا وضع نظاما ببالغ علمه وحكمته لصلاح صنعته وألزم الإنسان بمنهجه وشرعته، كان من المحال أن يضل الإنسان أو يشقى أو يعيش معيشة ضنكا إذا اتبع هداية الله تعالى كما قال -سبحانه-: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقى) [ طه: 124]، ومعلوم عند سائر العقلاء أن أولى من يضع نظام التشغيل للمصنوعات صانعها.
وقد بيّن هذا الأمرَ وأجلاه شيخُ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع, حيث قال: "كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح, ولكن كثيرا من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفا بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول"، وقال أيضا: "من قال بموجب نصوص القرآن والسنة أمكنه أن يناظر الفلاسفة مناظرة عقلية يقطعهم بها ويتبين له أن العقل الصريح مطابق للسمع الصحيح". وقال أيضا: "العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح كما أن المنقول عن الأنبياء -عليهم السلام- لا يخالف بعضه بعضا ولكن كثير من الناس يظن تناقض ذلك وهؤلاء من الذين اختلفوا في الكتاب (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) " [ مجموع الفتاوى 7/665].
بل إن الناظر في كتاب الله -عز وجل- بعين البصيرة يرى أن كثيرا من آيات القرآن تدلّ على قيادة النقل للعقل وتوجيهها له، مثل قوله -عز وجل-: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَليْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) [آل عمران:101 ], وقوله: (وَإِذَا قِيل لهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَل اللهُ قَالُوا بَل نَتَّبِعُ مَا أَلفَيْنَا عَليْهِ آبَاءَنَا أَوَلوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [ البقرة 170]، وقوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) [ الأعراف 3] وقوله: (وَمَنْ أَظْلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلى الهُدَى فَلنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) [ الكهف 57 ] وفي كتاب الله زهاء خمسين موضعا عن هداية النقل للعقل وقيادته له.
والذين يقدمون العقل على النقل سببه إما لعدم ثبوت النقل كما هو معروف في الأحاديث الضعيفة والموضوعة, أو لعدم فهم العقل للنقل، ومن أمثلة ذلك حديث أبي هريرة عن غمس الذباب في الشراب إذا وقع فيه: "إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَليَغْمِسْهُ كُلهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الآخَرِ دَاءً" [ البخاري (5782)]، فقد رفضه قوم ممن قصرت عقولهم في فهم النقل لفترة طويلة حتى أثبتت الدراسات الحديثة أنه من المعجزات الطبية للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المسلمون: إن آفةَ تقديم العقل على النقل من أخطر الآفات التي جلبت للأمة الإسلامية الكثير من الشقاق والخلاف، إذ كانت سببا رئيسيا وراء ظهور العديد من الطوائف المنحرفة والفرق الضالة، والانحراف عما كان عليه القرون الفاضلة من هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن سار على دربهم وانتهج سبيلهم.
وإن الحق الذي لا مراء فيه -عباد الله- أن النقل لابد أن يقدم على العقل وذلك لعدة أسباب منها:
أولاً: أنَّ النقل كلام الله, وكلام رسوله، والعقل عقلٌ بشريّ فبأيّ عقلٍ يمكن أن يوزن الكتاب والسنة؟.
ثانياً: أنَّ العقول تتفاوت، فهذا عقله قوي وهذا عقله ناقص، وهذا عقله راجح وهذا عقله مرجوح, ولو وُكِل الناس إلى عقولهم لاختلفوا اختلافاً كثيراً، هم اختلفوا مع وجود النصوص فكيف لو أحيلوا إلى عقولهم؟ (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء :82].
ثالثاً: أنَّ العقل الصحيح لا يعارض النقل الصحيح بل هو يتفق معه جملة وتفصيلا، كما سبق وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-.
رابعاً: أنَّ الدين لم يأتِ بما تُحيلُه العقول وإنما قد يأتِي بما تحارُ فيه العقول، وفرقٌ بين ما تحارُ فيه وبين ما تُحيله، فالدين لم يأتِ بأمرٍ تُحيله العقول ويكون أمراً مستحيلاً لأن الله على كلّ شيء قدير، وإنَّما قد يأتِي بأمرٍ تَحار فيه العقول وفي هذه الحال يقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7].
والأمر الخامس: أنه لمّا اعتمد بعض الناس على عقولهم وقدّموها على النصوص الشرعية انتهى بهم الأمر إمّا إلى الكفر والزندقة، وإما إلى الحَيْرة والإلحاد، وإما إلى الابتداع, وإما إلى أن يتركوا كل شيء ويموتوا -كما يقولون- على عقيدة العجائز. يقول أحدهم:
لَعَمري لقد طُفت المعاهد كلها *** وصيَّرت طرفي بين تلك المعالمِ
فلم أرى إلاّ واضعاً كفّ حائرٍ *** على ذقَنٍ أو قارعاً سِنَّ نادمِ
ويقول الآخر:
نهاية إقـدام العقـولِ عِقـالُ *** وأكثرُ سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا *** وأكثر دنيانا أذىً ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمَعنا فيه قيل وقالوا
ثم قال: وإن لم يرحمني ربي فالويلُ لفلان.
إذاً تقديم النقل على العقل يعني جعل العقل مع النقل كالمقلِّد مع المتبوع وكالفَرع مع الأصل، ويعني خضوع العقل للنقل لا أنَّ النقل يُخضَع للعقول، نعم يُتتبَّع بالعقول النيِّرة في الاستنباط لكن تحت مِظلة النصوص وأن لا نَخرج عنها قيد أُنملة.
وهنا تثور بعض الشبهات التي يلقيها من يأبون إلا أن يقدموا عقولهم القاصرة وأفهامهم العاجزة على نصوص الكتاب والسنة، فيقولوا مثلا: نحن نُقدِّم العقل على النقل لأن العقل أصلٌ في ثبوت النقل، فلولا العقل ما ثبت النقل، فلو تعارضت الأدلة السمعية مع الأدلة العقلية والقواطع العقلية، فإننا نُقدِّم القواطع العقلية على الأدلة السمعية، ويقولون: العقل هو الذي عرفنا على الوحي، وبالعقل عرفنا بأن محمداً رسول الله، فكيف نقدم كلام الرسول على العقل؟.
وقد رد عليهم ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بقوله: "العقل أصل في العلم بالنقل، وليس أصلاً في ثبوته، لأن النقل ثابت قبل وجود العقل, والشرائع قد وجدت وكتبت قبل خلق العقل فكيف يتحكم العقل فيه".
أيها المسلمون: بالرغم مما توصل إليه الإنسان من اكتشافات واختراعات غيرت الحياة على وجه الأرض , وتغيرت معها نظرته إلى الكون إلا إن العقل البشري يبقى محدوداً بحدود مجهولة، والسبب في قصور العقل البشري عن الإلمام بكل شيء هو عجزه عن إدراك الغيب الذي هو في علم الله الذي أحاط بكل شيء علما قال تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) [البقرة : 255].
والشك بوجود الله تعالى الذي أوجد هذا الكون هو هاجس يدور في نفوس الكثيرين, فهؤلاء بغالبيتهم لن يتقبلوا مسألة الإيمان سوى بعد حدوث معجزات تتخطى حدود العقل البشري, والغيب والعقل طرفان قديما العهد في العلاقة، لطالما تجادلا وتحاورا، واتفقا واختلفا، عقل يستمد سيادته من الأرض، وغيب يستمد سلطته من السماء، علاقة اكتنفها اتجاهان؛ أحدهما من الأرض إلى السماء، والآخر من السماء إلى الأرض.
فلهذا كان تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام وكان معرفة ما أمر الله به رسوله واجباً على جميع الأنام، و طريق لثبوت ذلك ومعرفته إلا عن طريق الوحي أو النقل، ولا حجة ولا سلطان قبل إرسال الرسل قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]، وأخر عنهم العذاب حتى يأتيهم الرسل والبلاغ السماوي: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء:15].
ولهذا فإن العلاقة بين العقل والشرع لها حالان لا ثالث لهما: فإما أن يؤيد العقل الشرع ويصدقه ويدل عليه، وإما أن يسلم له، ويجوز ما جاء به، ولا يمكن أن يكون الثالث: وهو أن يعارضه ويخالفه. فعن ابن عباس أن قوماً تفكروا في الله -عز وجل- فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره" [ أبو نعيم (4320)]، والتفكر في الله -سبحانه- الذي لا تحيطه العقول ولا تدركه الأبصار ولا تصوره العقول منهي عنه.
اللهم أرشدنا إلي الصواب، وأنر قلوبنا وأبصارنا وعقولنا لما تحبه وترضاه، واهدنا واهدي بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، إمام المتقين العاملين، وعلى آله وصبحه وتابعيه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: ما فتئ علماء الأمة قديماً وحديثاً يحذرون من خطورة تقديم العقل على النقل لما يترتب على ذلك من هدم الشرائع والمساس بمقدسات الدِّين وهدم أدلته القطعية والظنية, وجعلها عرضة للعقل الضيق الضعيف يتكلم فيها ويعبر عن مراد الله العظيم الحكيم, بل كما سنرى، هدم أركان الإسلام برمتها.
وما نقل من أن بعض الحنفية والإمام مالك يقدمون العقل على النقل، وأن الطوفي يقدم المصلحة على النص، كل ذلك حرف عن مظانه وسياقه التشريعي الصحيح، وأنه بعد التحقيق الأصولي نجد أن كل هؤلاء يستخدمون العقل في حدود ما يخدم النقل على حد تعبير الإمام الشاطبي -رحمه الله-.
وشرع الله البين المنزل من حكيم حميد أرفع منزلة وأعلى شأنا من أن نعرضه لعقل إنسان ليقول فيه على الله بغير علم فإن لم يكن هذا عين الاعتراض فما هو الاعتراض إذن؟ وإذا لم يكن عين الاستخفاف والجهالة فمه هو إذن؟.
والسبب في ظهور البدعة هو حدوث خلل في مسألة تقديم العقل على النقل. فإذا قُدِّم العقل على النقل في موطن تقديم النقل على العقل تظهر البدعة، ففي باب الشرع المتمثل في الواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات القيادة فيه للنقل، وفي باب الشرع أمرنا الله أن نُصدِّق خبره، فطالما أن هناك أمر إلزامي بتصديق خبر الله فلا يجوز تقديم العقل على خبر الله، لأن الله -سبحانه- وتعالى أعلم بنفسه منا، فلو قدَّم إنسان عقله على تصديقه لخبر الله فقد خالف أمر الله في تصديق خبره, لذا لا ينبغي لعبد أن يعترض أو لا بد وأن يعرف الحكمة إذا لم تكن بينة. فإذا قُدِّم العقل على النقل في باب الواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات تظهر بدع العبادات، وهذا كثيرٌ جداً، فهناك بدع في الصلاة وبدع في الزكاة وبدع في الصيام وهكذا.
عباد الله: إن ممارسة كثير من المسلمين للبدع المضلّة في العبادات اليوم, مردّها تقديم ما استحسنته عقولهم على ما أمر به الشرع, فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بأوامر، فترك هؤلاء منهج الرسول ومارسوا أمورا -بحسن نية- ظنوا أنها أفضل من كلام الرسول، وقد يكون مردّ ذلك الاعتماد على الأحاديث الضعيفة المردودة، والموضوعات المتروكة, ومن أمثلة ذلك:
قراءة سورة الفاتحة على أجساد الأموات قبل دفنهم, وعلى القبور بعد دفنهم، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذهب لزيارة الأموات قال: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ .." [مسلم (1618)]، فهذا الذي قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- ،ولم يقرأ الفاتحة, ولو كان ما يقوله هؤلاء خيرا وحسنا لسبقنا إليه أحرص الناس -صلى الله عليه وسلم-, ولنقله إلينا أصحابه وحفظة وحيه، ولذلك يقال لمن يفعل ذلك: إن كانت قراءة الفاتحة أفضل من كلام الرسول، فأنتم تتهمون الرسول بالتقصير، وحاشاه، وإن كان كلام الرسول أفضل، فقد تركت الأفضل وذهبت خلف عقلك.
والأخطر من ذلك تقديم العقل على النقل في الاعتقادات، وحينها تظهر البدع الغليظة والأفكار الضالة التي تصل إلى حد الكفر بالله تعالى، فحين يقدَّم العقل على النقل في باب الأخبار ظهرت بدع الاعتقادات، فالله -سبحانه- وتعالى مما عرفنا على وجوده العقل من خلال الأسباب والمخلوقات والمشاهدات كما قال الأعرابي: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير"، فهذه الآثار دلَّت على خالقها، ولكن إذا أردنا أن نتعرف على أسماء الله وأوصافه يجب علينا أن نرجع للنقل، فلو أن الله لم يُرسل نقلاً ليعرفنا به ما عرفناه بعقولنا أبداً، ولضلَّ الناس في تقديراتهم , ولأننا لم نطلع على الله أو نره فكيف نسميه أو نصفه.
فإذا أراد أحد أن يتبع عقله مثلا في التعرف على أسماء الله وصفاته، فسيقول مثلاً: هل الله له اسم أم لا؟ هل يُسمَّى الله عاقلاً؟، فيقول: لا يصلح، لأن العقل مشتق من العِقال، والعِقال معناه الربط، والربط في حق الله محال، إذاً هل يُسمَّى حكيماً؟ فالله يجب أن يكون حكيماً، ولكن الحكيم مشتق من حكمة اللجام، وحكمة اللجام هي الحديدة التي توضع في فم الدابة لتمنعها من الحركة، فلا يُسمَّى الله حكيماً وذلك إن نحن حكمنا عقولنا فيما يسعنا فيها أن نسلك مسلك سلفنا الصالح ويسعنا ما وسعهم من القبول والسكوت والوقوف عند النص, وهل ربنا يُسمَّى سميعاً؟ لا، لأنه لو كان سميعاً لكان بأذن, وهذا لا يلزم منه, لكن حين يدخل العقل ليتحدث في هذه الأمور فإنها تحصل المزالق الكبيرة والتخبط العظيم.
ومثال آخر؛ فإن قال قائل: ما هو شكل العرش؟ نقول: لا نعلم، وسنعلم ذلك بإذن الله تعالى في الآخرة، قال تعالى: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) [الحاقة:17 ]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ....." [البخاري (620)]، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ " [البخاري (6877)].
ولما سئل الإمام مالك عن كيفية استواء الله تعالى على عرشه أطرق الإمام مالك -رحمه الله تعالى- وعلاه الرحضاء (أي: العرق) وقال له: "الاستواء معلوم" أي: معلومٌ معناه أنه علا وارتفع فوق عرشه كما أخبر عن نفسه "والكيف مجهول" أي مجهول لنا، فهناك كيفية معلومة لله، فلو نفى أحد الكيفية فقد نفى الصفة "والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة"، وما أراك إلا مبتدعاً، ثم أُمر به فأُخرج.
فهذا لأنه أراد أن يُقدِّم عقله على كتاب ربه في باب الخبر، والمفروض أن يُقدَّم النقل على العقل, ولو أن هذا الرجل وأمثاله حط برحاله على ظواهر هذه النصوص لسلم من هذه الحيرة وسلم من التقول على الله وردد قوله تعالى: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7] إذاً تقديم العقل على النقل في باب الأخبار يؤدي إلى بدع في الاعتقادات.
ومن أعظم ما احتج به أئمتنا على بطلان هذا المذهب وفساده ما أخرجه البيهقي بسنده عن شعيب بن أبي فضالة المكي: "أن عمران بن حصين -رضي الله عنه- ذكر الشفاعة، فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد إنكم تحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران -رضي الله عنه- وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً، ووجدت المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً قال: لا. قال: فعن من أخذتم ذلك؟ أخذتموه وأخذناه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم ذكر أشياء...وختم بقوله: أما سمعتم الله قال في كتابه: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أِشياء ليس لكم بها علم".
عباد الله: إن تقديم العقل على النقل كان أحد معاول هدم هذا الدين، وتحطيم عقيدة هذه الأمة، فيوم أن أخذت الأفكار الهدامة والعقائد الفلسفية تدخل الحياة الثقافية للمسلمين، وهم يتأخرون يوما بعد يوم، يتجهون تارة بعقولهم الضعيفة ناحية اليسار والأفكار الشيوعية والاشتراكية بزعم أن فيها السعادة والعدالة للبشرية، وتارة يتجهون ناحية الغرب والرأسمالية والنفعية بدعوى أنها تحقق الرفاهية، وهم في كل واد يهيمون، ويرددون مثل الببغاء ما لا يعقلون، فأنّا لهؤلاء أن ينتصرون أو يتقدمون.
والحق الذي لا يقبل مراء الفلاسفة، وحذلقة المتفيهقة، أن الأمة يوم أن كانت تتبع نور الكتاب والسنة، وتعمل بشريعتها، وتقدم الوحي والنصوص بفهم السلف الصالح، على ما سواهما تقدمت وعلت وسادت الأرض، وأقامت حضارة هي الأقوى والأكبر في تاريخ البشرية، وإننا لن نعود لتلك الأيام الخوالي، والأمجاد الكبيرة إلا بالعودة إلى درب السابقين، وتقديم نصوص رب العالمين، وسنة نبيه خير المرسلين.
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
التعليقات