عناصر الخطبة
1/ من فضل الله على الأمة توحيد مصدر التلقي 2/ حجب حقائق الغيب عن العباد 3/ من معالم الهدى في أجواء الفتناهداف الخطبة
اقتباس
والعبادةُ في أزمان الفتن فرارٌ من هذه الموجات، فرارٌ إيجابي وليس انهزامًا وسلبية؛ بل هو البناءُ والعمل، اشتغالٌ بالعمل الصالح والعبادة والإصلاح ونُصرة الدين وجمع الكلمة والتحذير من الفُرقة، في أبوابٍ من عمل الخير وأنواعٍ من العبادات الواسعة مفتوحة؛ من صلواتٍ، وصدقاتٍ، وصيامٍ، وحجٍّ، وعمرةٍ، وزيارةٍ، وإحسانٍ في المعاملات، وصدقٍ في العلاقات، وصفاءٍ في القلوب، وحبٍّ في الخير، والنُّصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
الحمد لله، الحمد لله المُتفرِّد بكمال القدرة، لا إله إلا هو الواحد القهَّار لا يقدُر أحدٌ قدرَه، أستغفره وأستهديه، كم صفَحَ وكم غفَر وكم أقالَ من عثْرَة!! وأُثني عليه بما هو أهلُه، وأشكرُه على سوابغِ نعمٍ لا تُحصَى عددًا، وآلاءٍ لا يُحاطُ بها كثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة أرجو بها النجاةَ، وأن محمدًا عبدُ الله ورسوله، عبدٌ لا يُعبَد، ورسولٌ لا يُكذَّب، بل يُطاع ويُتَّبَع، ويُسمَع له في العُسر واليُسر والمنشَط والمَكرَه، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى أصحابه الكرام وآله السادة العِترة، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ممن اجتنَبَ نهيَه واتبعَ أمره وسلَّم تسليمًا دائمًا عشيَّةً وبكرة.
أما بعد: فأُوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فأكرم الناس عند الله أتقاهم، وأكرم الخلق على الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- رسول الله ومُصطفاه وخليلُه ومُجتباه، وقد أمره بقوله -عز شأنه-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) [الأحزاب: 1].
فاتقوا الله -رحمكم الله-، واسمعوا وأطيعوا؛ فطُوبى لمن سمِع فوعَى، ثم طُوبَى لمن تذكَّر لحدَه يوم يُوضَع فيه وحده، يوم يُنفَخ في الصور، ووُضِع الكتاب، وتقطَّعَت الأسباب، فشخَصَت الأبصار؛ فإما إلى جنةٍ وإما إلى النار، (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية: 28، 29].
أيها المسلمون: إن من منَّة الله على أهل الإسلام: أن وحَّد لهم مصدرَ التلقِّي، فلا تذبذُب ولا اضطراب في تلقِّي حقائق العقائد والأحكام وسُبل الهدى، المصدر: هو الوحي المعصوم الثابت من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، وما صحَّ من سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، يُؤمنُ أهل الإسلام بكل ما ثبتَ به اللفظ وصحَّ به الخبر فيما هو شاهد وفيما هو غائب، ما عقَلناه وما جهِلناه، ما أحطنا بحقائقه وما لم نُحِط، ومن طلبَ الحق في أمور الدين من الأحكام والعقائد والهُدى من غير هذا المصدر فقد ضلَّ سواء السبيل.
ومن ظنَّ أنه يعتمِد على فهمه في هذه النصوص والأخبار دون النظر في فهمِ السلف الصالحين وأهل العلم الأثبات الراسخين، وأن فهمَه مُقدَّمٌ على فهومهم فقد سلكَ المسالكَ المُعوَجَّة.
يُقال ذلك -أيها المسلمون- ويُقرَّر حين يكون الحديثُ عن الفتن وتبيُّنها وأخبار الملاحِم وأنباء الحوادث الكُبرى، أخبارٌ وأنباءٌ تتعلَّق النفوس بها وتبحث عن تأويلها وأوقات حُدوثها ومواعيد وقوعها، ومما يستدعِي الإيضاحَ والبيان: أن من قواعد البشر التعلُّق بالغيبيات والتشوُّف لاستشراف المستقبل والتتبُّع لمعرفة أنباء مخبوء الغيب؛ من تأويل النوازل، وتفسير الأحداث، وأعمار الدول، وفناء الأمم؛ بل تراهم يتعلَّقون بالرُّؤى والمنامات وأنباء الغيب، حتى إنهم ليلجؤون إلى الكهَّان والمُنجِّمين والمُشعوِذين والمُعبِّرين وأضرابِهم بُغيةَ استكشاف ما وراء الحُجُب؛ ذلك أن العلة بما سيكون والتطلُّع لحوادث المستقبل أمرٌ تنجذِب إليه النفوس؛ فهو حلوُ المذاق، عذبُ الطعم، وفي مقدمة ذلك: أحاديث الفتن والملاحِم وأخبار آخر الزمان، تتشوّق لها نفوسهم، وتتشوَّف لها رغباتُهم، وتمتدُّ إلى سماع أخبارها أعناقُهم.
غير أن الله سبحانه طوَى عن الخلق حقائق الغيب، وضربَ دونه الأسداد، وحجَبَه عن أكثر العباد، وفتحَ لهم بابًا يكون لهم فيه نفعُهم في أمور دينهم ودنياهم، لا يدخل عليهم ضرر، ولا يشغلهم عن مهماتهم ووظائفهم.
أيها المسلمون: وهذا بيانٌ لمعالم هُدى يتبيَّنها المسلم وهو ينظر في أحاديث الفتن ويستمِعُ إليها ويقرأُ عنها؛ فمن معالم الهُدى: أن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- يُخبِرنا عن حلول الفتن واضطراب الأحوال وأنباء الهَرْج والمَرج وحوادث آخر الزمان وأشراط الساعة، فليس من "أل" التخويف والإنذار وحده، ولا لمجرد الإخبار باقتراب الزمان وتغيُّر الناس وحُلول الهَرْج والمَرْج؛ بل لأجل الاشتغال بالعمل وبذل مزيدٍ من الصالحات.
ألم تروا إلى نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- حين سُئِل عن الساعة، فقال للسائل: "ماذا أعددتَ لها؟!"، وفي لفظٍ: "ويلكَ؛ ما أعددتَ لها؟!".
فتأمَّلوا هذا التوجيهَ النبوي من المعلِّم الهادي -صلى الله عليه وسلم-، فقد صرفَ السائلَ إلى ما يعنيه ويُفيده.
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "والحكمةُ من هذه الأحاديث والأنباء إيقاظُ الغافلين، والحثُّ على التوبة، والاستعداد؛ فهذه الأخبار مواعظُ تزجُر القلوب لتُقبِل على علاَّم الغيوب -جل وعلا-".
فالعبدُ الحازمُ المؤمنُ من إذا سمِع ما صحَّ من هذه الأخبار قادَه ذلك إلى العمل والحَزم والاستعداد، والخُسران والدَّمار لمن أعرضَ واشتغل بالتأويلات والتخييلات الصارفة، فهي أخبارٌ وأنباءٌ لزيادة الإيمان وإقامة الحُجَّة ومزيد العمل والعبادة.
وتأمَّلوا هذا التوجيهَ النبوي في قوله -عليه الصلاة والسلام- وهو يذكُر الفتن: "فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبرُ فيهن مثلُ قبضٍ على الجمر، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم". قالوا: يا رسول الله: أجر خمسين منهم؟! قال: "أجر خمسين منكم". أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والطبراني في الكبير والأوسط من حديث أبي ثعلبَة الخُشنيِّ -رضي الله عنه-.
وفي حديث معقِل بن يسار -رضي الله عنه- في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "العبادة في الهَرْج كهجرةٍ إليَّ".
قال أهل العلم: "أي: العبادة في وقت اختلاف الناس واشتغالهم"، قالوا: "وعظُم الفضل لأن الناس يغفلونَ عنها ويشتغِلون بها، ولا يتفرَّغ إلا من رحِم الله وعصَم".
وتأمَّل ما تفعلهُ وسائلُ الإعلام في صرفِ الناس وانشغالهم بمُتابعتها ليلاً ونهارًا، يشغلُ بها المُبتَلى نفسَه وفِكرَه وأصحابه في تحليلات وتعليلات وتخييلات وهو ليس فيها من قبيلٍ ولا دبيرٍ؛ هل هذا خير أم انصراف المرء إلى الإحسان في عمله ومسؤولياته المُؤتَمن عليها والمسؤولٍ عنها والمُحاسَب عليها.
شغلَ نفسَه بقراءة الصحف وسماع المِذياع ومُشاهَدة القنوات ومُتابعة المواقع، ومن انشغلَ بما لا يعنيه انصرف عما يعنيه.
ولعلَّ المُتأمِّل يُدركُ لماذا شبَّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- العبادَة بالهجرة؟!
قال أهل العلم: "لأن الهجرة فرارٌ بالدين من المكان المَخوف المُضطرب إلى المكان الآمِن الذي يُقيم فيه المسلمُ دينَه".
والعبادةُ في أزمان الفتن فرارٌ من هذه الموجات، فرارٌ إيجابي وليس انهزامًا وسلبية؛ بل هو البناءُ والعمل، اشتغالٌ بالعمل الصالح والعبادة والإصلاح ونُصرة الدين وجمع الكلمة والتحذير من الفُرقة، في أبوابٍ من عمل الخير وأنواعٍ من العبادات الواسعة مفتوحة؛ من صلواتٍ، وصدقاتٍ، وصيامٍ، وحجٍّ، وعمرةٍ، وزيارةٍ، وإحسانٍ في المعاملات، وصدقٍ في العلاقات، وصفاءٍ في القلوب، وحبٍّ في الخير، والنُّصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من كل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، من أعمالٍ مالية وبدنية وقولية وقلبية، وما فتحَ الله من أنواع الأعمال والطاعات، ولكل عملٍ بابٌ من أبواب الجنة.
فشمَّر الصالحون المُوفَّقون عن ساعد الجدِّ، وتلمَّسوا أبوابَ الخير والنجاة والثبات، واتقَوا الفتن، واجتنَبوا أبوابَ الشر، "وإذا قامَت القيامة وفي يد أحدكم فَسيلة فليغرِسها".
أيها المسلمون: ومن معالم الهُدى في أوقات الفتن وسماع أخبار الملاحِم: التأنِّي في الفهم والتأويل، والتأنِّي في تنزيل الأخبار على الوقائع والأحداث، يقول عبد الله: "إنها ستكون هنَّاتٌ وأمورٌ مُشتبِهات؛ فعليك بالتُّؤدة، فلأَن تكون تابعًا في الخير خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر".
فالعاقل الزاكي من يُدرِك الأمور بعقله وبصيرته، والجاهلُ يندفِعُ بعاطفته وغفلته، العاقل المُتثبِّت يلزمُ الهدوء والسكينة والاعتدال، ويجتنبُ العجلَة والخفَّة، لا يقنَط عند المُصيبة، ولا يضطرِبُ عند النازِلة، ولا يتعدَّى حدود الشر ولا سيما ذوو الرأي والريادة ومن هم في مقام الرئاسات والتوجيه وذوي الشأن.
ولقد قال الحبيبُ المُصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- لأصحابه -وقد سمِعوا اضطرابًا في المدينة-: "لن تُراعوا".
وتأمَّلوا ثبات أبي بكر -رضي الله عنه- عند موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهل هناك مُصابٌ جلَلٌ أعظمُ منه؟! لقد جمع الله لأبي بكر -رضي الله عنه- الصبرَ والثباتَ واليقينَ، يقول أنس -رضي الله عنه-: "خطَبَنا أبو بكر -رضي الله عنه- وكنا كالثعالب، فما زال يُشجِّعُنا حتى صِرنا كالأسود"، ثم كان من أبي بكر ما كان؛ من بعثِ جيش أسامة، وحروب الرِّدَّة ومانِعي الزكاة، فثبَّتَ الله به الدين والأصحابَ، وقوَّى العزائم، وحفِظَ الإسلام.
ومن التثبُّت: التروِّي وعدم التعجُّل في إعطاء الرأي أو إبداء الحكم أو التفسير؛ بل قد لا يلزمُ إبداء الرأي ولا التكلُّم في كل نازلة، فما كل رأيٍ يُجهَر به، ولا كل ما يُعلَم يُقال، ولا كل ما يصلُح للقول يُقال عند كل أحد.
وقد قال بعض الحكماء: "إن لابتداء الكلام فتنةً تروق، وجِدَّةً تُعجِب، ومن سكت لا يكاد يندَم، ومن تكلَّم لا يكاد يسلَم، والعجِل يقول قبل أن يعلَم، ويُجيبُ قبل أن يفهَم، ويعزِم قبل أن يُفكِّر، ويمضِي قبل أن يعزِم، وخَميرُ الرأي خيرٌ من فَطيره، والخطأُ زادُ العَجول، ورُبَّ رجلٍ واسعِ العلمِ بحرٍ لا يُزاحَم، لكنه قصير النظر، يُؤتَى من جُرأته وتسرُّعه وقلَّة أناتِه وتدبُّره".
ومن معالم الهدى -يا عبد الله-: إن كنتَ ممن لم يتبيَّن له موقفٌ واضحٌ من تلقاء نفسه، أو من توجيه علماء خُبراء ثقات؛ فلتعتزِل الخوضَ في ذلك والاشتغال به، ولتلتفِت إلى خاصَّة نفسك، وفي مثل ذلك جاء الحديث الصحيح في سنن أبي داود عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين أيديكم فتنًا كقطع الليل المُظلِم، يُصبِح الرجلُ فيها مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِح كافرًا، القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي". قالوا: فما تأمرنا؟! قال: "كونوا أحلاسَ بيوتكم".
وفي خبرٍ آخر في سنن الترمذي: "أمسِك عليك لسانَك، وليسَعْك بيتُك، وابكِ على خطيئتك".
وعند أبي داود أيضًا: "إن السعيدَ لمن جُنِّب الفتن، إن السعيدَ لمن جُنِّب الفتن، إن السعيدَ لمن جُنِّب الفتن، ولمن ابتُلِي فصبَر".
ومن أظهر مظاهر الاعتزال: كفُّ اللسان؛ فقد أخرج ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تكون فتنة تستنظِفُ العرب -أي: تقتلهم-، قتلاها في النار، اللسانُ فيها أشدُّ من وَقع السيف".
وكم للإعلام في ذلك بوسائله من ضحايا وهَلْكى وقتلَى؟!
وفي هذه الأجواء والظروف جاء توجيه الشرع الحكيم بأن يأخذ الإنسان ما يعرف ويترك ما يُنكِر؛ ففي صحيح البخاري -رحمه الله- عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: شبَّك النبي -صلى الله عليه وسلم- أصابعَه وقال: "يا عبد الله بن عمرو: كيف بك إذا بقيتَ في حُثالةَ الناس؟!". قلتُ: يا رسول الله: كيف ذلك؟! قال: "إذا مرَجَت عهودهم وأماناتُهم، وكانوا هكذا"، وشبَّك يونس أصابعَه. قلتُ: ما أصنع عند ذلك يا رسول الله؟! قال: "اتق الله -عز وجل-، وخذ ما تعرف ودع ما تُنكِر، وعليك بخاصَّتك، وإياك وعوامَّهم".
معاشر المسلمين: ومن معالم الهُدى: أن لا تُربَط كل حادثةٍ كبرى أو نازلةٍ عامة أو واقعةٍ غريبة بنصٍّ شرعي أو خبرٍ سمعيٍّ، فقد تحصُل الواقعة وتنزلُ النازلة ولا يُقابلُها نص، وقد يرِد النصُّ ولم يقع تأويله بعدُ، وقد حدثَت في تاريخ الأمة الطويل أحداثٌ جِسام وواقِعاتٌ عِظام لم يتكلَّف السلف مُقابلَتها بالنصوص؛ فقد ضربَ الحَجَّاجُ الكعبةَ بالمنجنيق، وأخذ القرامِطةُ الحجرَ الأسود، وجرَت حروبُ التتار، والحروب الصليبية، واحترقَ المسجدُ الأقصى، فلا ينبغي تكلُّف البحث والتعسُّف في التأويل والانشغال بالتفسير، وإنما المطلوب العمل، والأخذ بالأسباب، ومُدافعةُ الأقدار بالأقدار، وحفظُ الدين وحمايةُ أهل الإسلام، وأخذُ الحيطَة والحَذَر: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) [النساء: 104].
ومن معالم الهُدى -يا عباد الله- الثقةُ بأهل العلم وتقديرُهم، والعلمُ بأن براءة الذمَّة وسلامة الدين تحصُل بالرجوع إليهم وسؤالهم؛ فيجبُ توقيرُهم وحفظُ حقوقهم وتجنُّب الانتقاص من أقدارهم، أو الحطّ من منازلهم ومقاماتهم وإن كانوا غيرَ معصومين.
وحينما حذَّر معاذٌ -رضي الله عنه- من زيغَة الحكيم قال: "ولا يَثنِينَّك ذلك عنه؛ فلعله أن يرجع، وتلقَّ الحقَّ إذا سمعتَه؛ فإن على الحق نورًا".
ومما يحفظُ حقَّهم: البُعد عن مجالس الجِدال ومجالس الوقيعة، وبخاصةٍ في أوقات الفتن التي يكثُر فيها القيلُ والقال.
وأيُّ فتنةٍ أشد حين ينتقصُ الناسُ من علمائهم والراسخين منهم والربانيين ليُعجَب كل ذي رأيٍ برأيه، فيُشمِّر عن ساعده، ويحسُر عن ساقه ليقول: ها أنذا، لا يلتفتُ بعضُهم إلى بعض، ولا يرى بعضُهم لبعضٍ حقًّا ولا منزلةً ولا علمًا ولا رأيًا، يتقدَّمُ الأصاغرُ على الأكابر، كلهم يزعُم أنه المُتكلِّم في مصالح الأمة، وأنه الذي يفهمُ واقعَها، وكلهم يرى أنه الأحقَّ ليقود السفينة.
ناهيكُم بالمُتعجِّلين المُتكلِّفين ممن لا يُراعِي ما يرعاه القوم من الأصول وضبط القواعد وشدِّ المعاقِد؛ فهذا الغافلُ في شأنٍ وأهلُ العلم الأثبات في شأنٍ، وقد جعل الله لكل قومٍ قدرًا، فالحَذَر الحَذَر من مُناكفَة أهل العلم والحِكمة، فأيُّ خُذلانٍ أن لا يعرفَ المرءُ مقدارَ أهل العلم وعُمق علومهم وقلةَ تكلُّفهم ونورَ بصائرهم، وكل ذلك يحتاجُ إلى مُراوضةٍ وإلى تمسُّكٍ بأدب الإنصاف؛ لتكون الرحمةُ والإصلاح وحُسن التقويم وتزكيةُ النفوس واحترامُ العقول.
وبعدُ -حفظكم الله ورحمكم-: فإن حقيقة الفتنة: كل ما يكشِفُه الابتلاء والامتحان، ويتبيَّن به حالُ المسلم؛ من خيرٍ أو شرٍّ أو خوفٍ أو أمنٍ أو ثباتٍ أو اضطراب، وهذه الفتنُ تنشأُ من فهمٍ فاسدٍ أو نقلٍ كاذبٍ أو غرضٍ مُنحرف أو هوًى مُتَّبع، والفتنُ يقعُ فيها ضعيفُ البصيرة قليل العلم، لا سيما إذا اقترنَ بذلك سوءُ القصد وغلبةُ الهوى، فهنا الفتنةُ العظمى والمُصيبةُ الكبرى، والأمةُ تخرج -بإذن الله- بعد الإيمان به والاعتصام بحبله، تخرج بالتفكير المُستنير، والنظر الثاقب، وفقهِ الأسباب والمُسببات، والعواقِب والمُقدِّمات، وإتيان البيوت من أبوابها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 83].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله جعل الدنيا دار ممرٍّ واعتبار، والآخرةَ دار جزاءٍ وقرار، أحمده سبحانه وأشكره على ثواب نعمِه وفضله المِدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفَّار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُصطفى المُختار، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البرَرة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وعلى طريق الحق والهُدى سار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن من معالم الهُدى في أجواء الفتن: السمعَ والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، ولزومَ جماعة المسلمين، والاجتماع على الدين، والحذرَ من الفُرقة وشقِّ صفِّ الأمة المُجتمِع؛ فالجماعةُ رحمة والفُرقة عذاب، وأكثرُ ما تتجلَّى عواملُ الفُرقة في أجواء الفتن والاضطراب في مسلكَيْن: البغي وسوء التأويل.
أما البغي: فبمُجاوزة الشرع، وأما التأويل: فبتفسيرٍ من غير مُستنَد شرعيٍّ صحيح.
أيها المسلمون: هذه معالمُ هُدى يدخلُ بعضُها في بعض، ويدلُّ بعضُها على بعض، ويُفسِّرُ بعضُها بعضًا، ويُنبِّهُ ما ذُكِر منها على ما لم يُذكَر، مع ما يجمعُ هذه المعالم مما يجبُ من محبة المسلمين والشفقة عليهم والنُصرة لهم؛ ففي الحديث عند مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمتَه على خير ما يعلمُه لهم، ويُنذِرهم شرَّ ما يعلمُه لهم، وإن أمتكم هذه جُعِل عافيتُها في أولها، وسيُصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمور، وتجيءُ فتنةٌ فيُرقِّقُ بعضُها بعضًا، وتجيءُ الفتنة فيقول المؤمنُ: هذه هذه، فمن أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويدخل الجنة فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأتِ الناسَ الذي يحبُّ أن يُؤتَى له".
والوصيةَ الوصيةَ -عباد الله-، الوصيةَ الوصيةَ في الإخلاص، والإحسان، والنُّصح، والصدق، وترك ما يَريب، والتثبُّت فيما يُسمع ويُنقَل، وعدم الاغترار بالكثرة في الموافقة والمخالفة، والحذَرَ الحَذَر من الاندفاع والحماس غير المُنضبِط، مع لزوم الرفق والأناة والصبر وحفظ اللسان وصدق اللجوء إلى الله، والتوبة، والإنابة، والدعاء، والاستغفار، وحُسن التوكُّل، والاعتصام بالكتاب والسنة.
وليُعلَم أن الصبر في الأزمات، والحلمَ في النكبَات، والتثبُّت إذا ترادَفَت الضوائق، والأناة إذا تكاثَرت العوائق، كل أولئك فرسانٌ -بإذن الله- لا تكبو، وصوارم لا تنبُو، وجنودٌ لا تُهزَم، وحصونٌ لا تُهدَم، واستجماعُ ذلك كله -بعون الله- لا تزيغُ معه الأبصار، ولا تطيشُ به الأحلام، ولا تضِلُّ فيه الأفهام؛ بل تتبيَّن الأمور بحقائقها، والأحداثُ بدوافعها.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فمن علِمَ الله من قلبه الصدقَ والنصحَ والإخلاصَ وإرادة الصلاح والإصلاح وفَّقه وسدَّده وثبَّته وأنارَ بصيرتَه: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90].
ألا صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال -وهو الصادق في قيله- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
التعليقات