عناصر الخطبة
1/ تحريم الغيبة 2/ التنافس في الدنيا 3/ النميمة وخطرها 4/ التهاجر بين المسلمين 5/ السخرية والاستهزاء بالمؤمنين 6/ التنابز بالألقاب 7/ سوء الظناهداف الخطبة
اقتباس
ونحن في هذا اليوم مع الأمور التي تضعف الأخوة، التي تفكك روابط الأخوة، نذكرها على سبيل الحذر منها والابتعاد عنها. لما ذكر الله -سبحانه وتعالى- موضوع الأخوة في سورة الحجرات وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، ذكر بعدها أمورًا كثيرة تضعف الأخوة وكلها حرمها علينا؛ حتى لا يعيش المجتمع في تفكك وفي عداوة وبغضاء ..
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: قد سبق في خطبة مضت شيء من الكلام عن الأخوة في الله، وذكرنا هناك المقويات التي تقوي الأخوة في الله، ونحن في هذا اليوم مع الأمور التي تضعف الأخوة، التي تفكك روابط الأخوة، نذكرها على سبيل الحذر منها والابتعاد عنها.
لما ذكر الله -سبحانه وتعالى- موضوع الأخوة في سورة الحجرات وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، ذكر بعدها أمورًا كثيرة تضعف الأخوة وكلها حرمها علينا؛ حتى لا يعيش المجتمع في تفكك وفي عداوة وبغضاء، فحرم الله علينا الغيبة؛ لأنها من المضعفات للأخوة، ومن المفككات لروابط المجتمع، وحرم علينا السخرية والاستهزاء، وحرم التنابز بالألقاب، وحرم سوء الظنون؛ لأن هذه الأمور تفكك الأخوة وتضعفها؛ قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 10-12].
وقبل أن أبدأ بذكر هذه المضعفات والتحذير منها أبدأ بأحد المفككات التي فككت روابط الأخوة، ألا وهو التنافس في الدنيا؛ لقد كان الناس في زمان قريب مضى يعيشون في أمان وسلام، ويعيشون في كرم وسخاء ومحبة وإخاء، وإذا افترضنا أن أحدهم تخاصم هو وأخوه في الصباح تراه يمشي معه في المساء كأن شيئًا لم يكن، وكان الناس في السابق يحبون القريب والبعيد والغريب وابن السبيل، كل هذا كان موجودًا لا أحد يستطيع أن ينكره؛ لأن الناس في ذاك الزمان لا يفكرون في قطع الأراضي أو بناء عمارة عرضها كذا وطولها كذا وارتفاعها كذا، فلما تغيرت الأحوال وتنافس الناس في هذه الدنيا، وكل واحد يريد من بيته أن يكون أحسن من الآخر، ضعفت الأخوة، وضعفت صلة الرحم وإكرام الجار وغير ذلك، لكن ولله الحمد لدينا أصول نرجع إليها مهما تغير الزمان وتبدلت الأحوال.
فمن أخطر ما يهدد موضوع الأخوة مرض فتاك لم يسلم منه أحد، لا هذا ولا ذاك، إنه مرض الغيبة، الكلام في بعضنا البعض، بالسوء تارة، وبالنقص والعيب تارة أخرى، فلان فيه كذا، وفلان عليه ملاحظات كذا، فلان فيه كبر، وفلان عنيد، وعندما تسمعه يعدد عيوب الناس تظنه وتحسبه أن لا عيب عنده، مع أنه لو كان ناصحًا لذهب ونصح إخوانه.
ولم يسلم أحد من الغيبة حتى بعض العابدين وهم في مساجدهم ومعهم مصاحفهم يغتابون الناس ويأكلون لحومهم، إنها مأساة يحزن لها من يعرف ما هي الغيبة وما هي عقوبتها عند رب العالمين، عائشة -رضي الله عنها- لما قالت في صفية كلمة تشير أنها قصيرة قال لها الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"، يعني لغيرت طعمه ورائحته.
وفي سنن أبي داود وهو حديث صحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما كان مع جبريل في حادثة الإسراء مر على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم، فقال لجبريل: "من هؤلاء؟!"، قال: الذين يقعون في أعراض الناس.
لو كنت تعيش في مجتمع يكثر فيه هذا المرض لا شك أن المحبة قد تنقلب إلى بغضاء، والبشاشة قد تنقلب إلى تدابر وازدراء، والأخوة قد تنقلب إلى عداوة وبلاء.
فابتعدوا -أيها الناس- عن الغيبة، واتقوا الله ربكم؛ فإن الغيبة حرمها الله في كتابه فقال: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات: 12]، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه".
أيها المسلمون: من الأمور التي تضعف الأخوة: النميمة، هذا مرض آخر فتاك -هذا غالبًا يأتي بعد الغيبة- يأتي شخص إلى قوم يتكلمون على شخص غائب فيقوم وينقل الكلام إلى هذا الشخص يقول له: إن فلانًا تعرفه؟! يقول: نعم. يقول: فلان هذا الذي تعرفه قال فيك كذا وكذا، أتدرون ماذا ستكون النتيجة؟! النتيجة أحقاد، بغض، هجر، تدابر، تقاطع، غيبة، عداوة، تقطع لروابط الأخوة.
لهذا حرم ربنا النميمة فقال: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة: 1]، وفي الصحيحين من حديث حذيفة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة نمام"، وفي رواية: "لا يدخل الجنة قتات"، بل يعذب الإنسان في قبره بسبب النميمة كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مر بقبرين يعذبان -أي يعذب من في القبرين- ثم قال: "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة بين الناس".
فالنميمة فتنة بين الناس، وتفريق بين الأخ وأخيه، وقطع للأخوة بين المؤمنين، وسبب للويل في النار، وسبب من أسباب العذاب في القبر.
من الأمور الخطيرة التي تضعف الأخوة، بل قعرتها قعرًا وهزتها هزًا: التهاجر بين المسلمين، رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول لنا جميعًا: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا -عباد الله- إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث". متفق عليه.
نلاحظ اليوم بعض الناس يتهاجرون ويتقاطعون على أسباب تافهة، إما أسباب دنيوية بسيطة يمكن للإنسان أن يتغاضى عنها، أو مشاكل بين الأولاد يمكن حلها، وإما لأسباب ضيقة حزبية لم يتسع الصدر لتحمل الخلاف، وحتى الفساق لا ينفع معهم اليوم الهجر، والقرب منهم في حال عدم تلبسهم بالمعصية فيه منفعة ومصلحة مع الإنكار عليهم ونصحهم بالتي هي أحسن.
فاحذروا -أيها الإخوة- من الهجر؛ فإنه خطير، ولهذا حرمه الشرع؛ ففي الصحيحين أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويُعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". وسأكمل هذا في الخطبة الثانية.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: وفي الزجر من الهجر قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار". وفي رواية عند أبي داود بإسناد صحيح قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه"، أي كأنه قتله عدوانًا. فالهجر من المضعفات التي أثرت على الأخوة بين المسلمين.
كذلك السخرية والاستهزاء بالناس محرمة بين المؤمنين، قال تعالى: (لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) [الحجرات: 11]، فلا تسخر لا من كبير ولا من صغير، ولو كان الإنسان أعجميًا، ولو كان في لسانه تعتعة، ولو كان في رجله حنف، ولو كان ضعيفًا أو نحيفًا أو سمينًا.
وكذلك مما يضعف الأخوة بين المسلمين: التنابز بالألقاب، لا تنادِ أحدًا من المسلمين بلقب يكرهه؛ لأنك إذا ناديته بلقب يكرهه غضب، وإذا غضب ربما يسب، وقد تتولد أمور أخرى فيؤدي إلى التخاصم والتقاطع.
واعلموا أن التنابز بالألقاب مما حرمه الله؛ قال تعالى: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ) [الحجرات: 11]، ويشمل ما ذكره بعض العلماء في تفسير الآية أن تنادي على الشخص بالفسق بعد أن تاب، فلا تقل لليهودي إذا تاب: يا يهودي، ولا تقل للمسلم الذي تاب من شرب الخمر: يا خمار، ولا تقل للسارق الذي تاب من السرقة: يا لص، ولا تقل للتاجر الذي تاب من الغش: يا غشاش، (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ).
أيها المسلمون عباد الله: ومن الأمور التي تضعف الأخوة وتفككها: سوء الظن، وقد حرمه الله فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث".
وسوء الظن موجود بكثرة عند بعض الناس؛ لأنه إذا رأى شيئًا لا يعجبه أو سمع كلامًا يحتمل الخير ويحتمل الشر حمله على الشر، ولو أنه رجع إلى الشخص المتكلم لربما تبين له الأمر، كثير من الناس إذا مروا على شخص وسلموا عليه ولم يرد السلام أساؤوا به الظن، ويأتيه الشيطان ويقول له: انظر لم يرد عليك السلام لأنه يكرهك ويبغضك ولا يرتاح لك... إلخ من هذه السلسلة الطويلة العريضة، مع أن الأمر أن هذا الرجل ربما ما سمع السلام، إلى غير ذلك من الاحتمالات، ثم لو رجع إليه وقال له: سلمت عليك فلم ترد، ستسمع منه الجواب الذي يرضيك، لكن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب فاتجه نحو التحريش بينهم، يعني يفسد قلوبهم ويغيرها.
نسأله تعالى أن يجعلنا إخوة متحابين متآخين غير متدابرين، وأن يمن علينا بالمحبة والرحمة.
التعليقات