عناصر الخطبة
1/ حرمة الربا 2/ آثاره المدمرة 3/ مآل المرابين 4/ شيوع الربا 5/ التحايل لتسويقه 6/ التحذير منه 7/ صُورُه الشائعة 8/التحلُّل منهاهداف الخطبة
اقتباس
وإن مما تأسف له النفوس، ونذير حرب ضروس، ما يقع فيه كثير من المسلمين اليوم، من تهافت على البنوك الربوية، والمصارف المحرمة، لاقتراض المال الحرام، من أجل متعة دنيوية ما تلبث أن تزول وتذهب، ويكون وبالها على فاعلها، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) [آل عمران:130-131]...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الواحد المعبود، عم بحكمته الوجود، وشملت رحمته كل موجود، أحمده سبحانه وأشكره وهو بكل لسان محمود.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغفور الودود، وعد من أطاعه بالعزة والخلود، وتوعد من عصاه بالنار ذات الوقود.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، صاحب المقام المحمود، واللواء المعقود، والحوض المورود، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم من المؤمنين الشهود، وسلم تسليماً كثيراً إلى اليوم الموعود.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوه -رحمكم الله- تقوى من أناب إليه، واحذروه حذر من يؤمن بيوم العرض عليه، واعبدوه مخلصين له الدين، وراقبوه مراقبة أهل اليقين، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.
أمة الإسلام: في مثل هذه الأيام من كل عام، يحزم الناس أمتعتهم، ويجهزون حقائبهم، استعداداً للسفر، ولكل منهم مقصده، فمن كان قصده الترويح البريء كان مأجوراً، ومن كان قصده غير ذلك، فالأعمال بالنيات، وكلٌّ هجرته إلى ما هاجر إليه، ثم توفى إليهم أعمالهم يوم القيامة وهم لا يبخسون، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس:44].
أيها المسلمون: الناس في هذه الإجازة الصيفية، فرق شتى، منهم من يستعد للسفر، ومنهم من أخذ أهبته للزواج، ومنهم من عزم على شراء سيارته، ومنهم من يريد تشييد منزله، وغيرهم كثير، فكل يحتاج إلى النفقات، وتأمين الحاجيات، ولا يتأتى ذلك إلا بوجود المال.
وإن مما تأسف له النفوس، ونذير حرب ضروس، ما يقع فيه كثير من المسلمين اليوم، من تهافت على البنوك الربوية، والمصارف المحرمة، لاقتراض المال الحرام، من أجل متعة دنيوية ما تلبث أن تزول وتذهب، ويكون وبالها على فاعلها، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) [آل عمران:130-131]، فلربما كان البيت قبراً، والسيارة تابوتاً، والزوج وبالاً، فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا دخول الربا في تعاملاتكم وأموالكم، فذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
أمة الإسلام: الربا من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم، وأشد العظائم؛ الربا يهلك الأموال، ويمحق البركات، ويجلب الحسرات، ويورث النكسات، قال -تعالى-: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة:276].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " الربا، وإن كثر، فعاقبته تصير إلى قل " أخرجه أحمد والحاكم بسند صحيح.
آكل الربا ملعون على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-، خارج من رحمة الله، داخل في عذاب الله، ما لم يتب ويستغفر الله، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء" أخرجه مسلم. فأي ذنب أعظم من ذنب ملعون صاحبه؟ وأي مصيبة أكبر من مصيبة اللعن والطرد من رحمة الله -تعالى-؟ فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أنكم محاسبون، وعن أموالكم مسؤولون، ولن تنفعكم أموالكم ولا أولادكم من الله شيئاً.
أمة الإسلام: الربا حرام كله، قليله وكثيره، قال -تعالى-: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة:275]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: " اجتنبوا السبع الموبقات"، وذكر منها، "وأكل الربا" متفق عليه.
الربا حرب لله ولرسوله، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) [البقرة:278-279].
والعجيب -والعجائب جمة- أن من الناس من يأكل الربا عالماً بحرمته، عارفاً بعقوبته، متذرعاً برحمة الله ومغفرته، ونسي المسكين أن الله -جل جلاله- يقول في كتابه العزيز: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:98]، ويقول -سبحانه-: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) [الرعد:6].
الربا دمار للأفراد والشعوب، وإشعال لفتيل الحروب، الربا هلاك للأمم والمجتمعات، صغار وذلة للمتعاملين به، ولا أدل على ذلك من هذه النكبات التي حطت رحالها بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، من حروب مدمرة، وفيضانات عارمة، وكسوف وخسوف، ورياح عاتية، وقتل وسرقات، وجرائم واغتيالات، ونهب للممتلكات، كوارث وحوادث، ليس لها من دون الله كاشفة، ولا منجي منها إلا بتوبة صادقة، ورجوع إلى الله الواحد القهار.
أيها المسلمون: في خضم معترك هذه الحياة، وفي بحرها المتلاطم الأمواج، هناك فئة من المسلمين، تجرؤوا على الحرمات، وارتكبوا المنهيات، دون ورع ولا خوف، فأكلوا الربا، ودعوا الناس إلى أكله، مجاهرين بالمعصية، وقد توعدهم الله بعقاب من عنده، على لسان نبيه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمتي يدخلون الجنة، إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "مَن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" أخرجه البخاري.
ومن تعامل بالربا فقد خالف أمر الله وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وعصى الأوامر، واقترف الزواجر، وقد قال الله -تعالى-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
وقد بين الله -تعالى- مآل العصاة والمذنبين، والمتعاملين بالربا، والآكلين له، فقال -تعالى-: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) [النساء:14].
إن أمراً هذه نهايته، وتلكم عاقبته لواجب على كل عاقل أن يجتنبه ويحذره، ويحذر الناس من خطره وشره، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" أخرجه الحاكم وحسنه الألباني.
أيها المسلمون: آكل الربا لا يستجاب لدعائه إذا دعا، ولا تفتح له أبواب السماء، فقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- "الرجل، يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟" أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم حرام، فإذ ذاك لا تجاب لهم دعوة " أخرجه البخاري.
فالربا شؤم على صاحبه، ظلم للمتعامل به، فيه ارتكاب لما حرم الله ورسوله، وربما سلط الله على صاحبه الآفات المهلكة، والكوارث المدمرة، من غرق أو حرق أو لصوص أو أنظمة جائرة تذهب به جميعه، وكم رأى الناس وعاينوا، وشاهدوا وباينوا، عاقبة الربا على أصحابه، فكم من الأثرياء المرابين، والأغنياء المحاربين، الذين محق الله ما بأيديهم، حيث علقتهم الديون، فأخذهم الله بعذاب الهون، فصاروا عالة على الناس يتكففون، وصدق الله العظيم القائل: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء:160-161].
وصدق عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، القائل في الحديث الصحيح: "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة" أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه الألباني.
أمة الإسلام: للربا آثار مخيفة، وعواقب عنيفة، منها ما تم بيانه، ومنها: أن الربا سبب لظهور الأمراض المستعصية، وكثرة الأدواء والأوبئة، وتسلط الحكام، وانتشار الفقر والبطالة، وكثرة الجريمة، وشيوع الفساد في البلاد بين العباد، وهذا ما تعانيه الأمة اليوم، فهل من مدكر ومتعظ؟ جاء في حديث أنه ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا ظهر فيهم الفقر، والأمراض المستعصية، وظلم السلطان.
ومن أعظم آثار الربا فتكاً، وأشدها ضرراً، أنه سبب لعذاب القبور، ففي الحديث الصحيح الطويل الذي أخرجه البخاري من حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه-، أن آكل الربا، يُعذب من حين موته إلى يوم القيامة، بالسباحة في بحر الدم، ويلقم حجارة من نار، وهذا عذابه في قبره، مع لعنة الله له.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وذروا ما بقي من الربا، واتركوا كل تعامل به، واهجروا كل من تعامل به، واحرصوا -رحمكم الله- على تحري المال الحلال، ففيه غنية عن الحرام.
أيها المسلمون: لما كثرت البنوك الربوية، وانتشرت الدعايات الصحفية، تحت شعارات مضللة، وروايات باطلة، بأسماء منمقة، كالخدمات البنكية، والنظام المصرفي، والمداينات، والقرض والفائدة، وحساب التوفير، وودائع الائتمان، ونحو ذلك؛ لما تغير مسمى الربا بتلكم المسميات، انساق الناس وراء ترهات الأحلام، وسفهاء الأقلام، فوقعوا في الربا عياناً بياناً، فيا حسرةً على العباد! تاهوا في كل واد، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، ومن لم يأكله أصابه من غباره" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
والناظر في واقع المسلمين اليوم، يدرك مصداقية هذا الحديث، وأي موظف لا يمر راتبه بأحد البنوك الربوية؟ فسبحان الله! ما أحلمه على خلقه! وما أرأفه بعباده! وما أصبره على أذاهم! ينزل عليهم نعمه ومننه وخيراته، ويقابلون ذلك بالمعاصي والجحود والكفران، قال -تعالى-: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) [النحل:83].
أيها المسلمون: إن الله حرم الربا في كتابه العزيز، وحرمه رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأجمع العلماء على تحريمه، ولم يُحل في ملة قط، فمن اعتقد حله، وقد جاءته الآيات والأحاديث، فإنه مفارق للإسلام، وخارج منه، لكونه مكذباً لله ورسوله، راداً على الله ورسوله، قال -تعالى-: (قَـاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـاغِرُونَ) [التوبة:29].
فانظروا -عباد الله -كيف أذن الله -جل وعلا- بقتال من لم يُحرم ما حرمه الله ورسوله، بل وأذن في حربهم، وأخرجهم من دائرة الإيمان والعياذ بالله، فالربا حرام لما يحتويه من ظلم للبشرية، وأكل لحقوق الإنسانية.
في الربا تجتمع جميع الشرور، بفعل الربا تصبح الأمم طبقتين: طبقة غنية، وأخرى فقيرة، الربا من أسباب الكسل والخمول، الربا حرام كله، مهما كانت أسبابه ودوافعه، فليس هناك مسوغ يجيز لعبد من عباد الله أن ينتهك حرمات ربه وخالقه، الربا حرام في الأمور الاستهلاكية والإنتاجية، الربا حرام مع المسلمين وغير المسلمين، الربا حرام ولو حصل التراضي بين الطرفين، لأنه عدوان لله ولرسوله، ومعصية ظاهرة الحجة والبيان.
أمة الإسلام: احذروا سخط الله ومقته وغضبه، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، بفعل الطاعات، واجتناب المنهيات، ألا وإن أعظم المنهيات بعد الشرك بالله التعامل بالربا، ولا يغرنكم من هلك مع الهالكين، فتلكم سبيل الغافلين، وعاقبة المجرمين، وتعاملوا فيما بينكم بالمعاملات الطيبة النافعة، وكونوا -عباد الله- إخواناً، فرأس المال والخبرات، تورث المنافع والخيرات، فاحذروا الربا أيها الناس، لا يغرنك تسهيلاتهم، فهم -والله!- لم يسهلوها محبة لكم، وإنما يريدون اقتناصكم، فاليوم تكون الأمور سهلة، وغداً تجتمع الديون، ويكثر المطالبون، فلا تستطيعون وفاءها، فيعود الغني فقيراً، والمترف مفلساً، فاتقوا الله -تعالى- في أموالكم، واحذروا دخول الربا فيها، وابتعدوا عنها؛ طاعة لله، وخوفاً من عقوبته، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
أيها المسلمون: كل الناس يعلم حرمة الزنا، ولقد جعل الله الربا أشد من الزنا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية" أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط، وصححه الألباني. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الربا ثلاث وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه" أخرجه الحاكم وصححه الألباني. أعاذنا الله وإياكم من مضلات الفتن، وسوء المحن.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فأستغفر الله منه، واستغفروه؛ إنه كان للأوابين غفوراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر له شكراً شكراً، له الحمد كله، وله الشكر كله، وله الفضل كله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أهل هو أن يعبد، وأهل هو أن يشكر، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا له عبد.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع سنته، واهتدى بهداه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: لقد كثرت الدعايات للعمل بالربا، وتعددت مجالاته، وتنوعت أساليبه، فعلى المسلم أن يخشى الله ويتقيه، ويعلم أنه موقوف بين يديه يوم القيامة.
فمن معاملات الربا المحرمة، وأكثرها شيوعاً اليوم، القرض بفائدة، وصورة ذلك، أن يقترض شخص من آخر أو مؤسسة أو بنك مالاً على أن يرده وزيادة، فهذا هو عين الربا الذي أجمعت الأمة على تحريمه، وجاءت النصوص الشرعية بمنعه والتحذير منه، قال -تعالى-: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:275].
ومن صور الربا المحرمة، بيع العينة، وصورة ذلك أن يبيع سلعة بثمن مؤجل على شخص، ثم يشتريها منه بثمن حال أقل من الثمن المؤجل، فهذه معاملة ربوية محرمة، جُعلت السلعة فيها حيلة وستارة فقط، يتحايلون على الله -تعالى- كما يتحايلون على الأطفال، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لئن تركتم الجهاد، وأخذتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم، حتى تتوبوا إلى الله، وترجعوا على ما كنتم عليه" أخرجه أبو داود.
ومنها ربا الدين، وصورته أن يبيع الرجل على آخر بيعاً إلى أجل مسمى، فإذا جاء الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاد في الثمن وأخر عنه في الدفع إلى أجل مسمى آخر، وهذا هو الربا أضعافاً مضاعفة، وهو ربا الجاهلية الذي نهى الله عنه، بقوله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:130].
ومنها ربا النسيئة، وله صور متعددة، منها: أن يقرض شخصاً مبلغاً من المال على أن يرده وزيادة، ومنها: بيع النقود بالنقود، أو النقود بالذهب إلى أجل بزيادة، أو بيع ذلك من غير تقابض في المجلس، ولو لم يكن هناك زيادة، فهذا عين الربا الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء" أخرجه مسلم. وفي رواية: "مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد" أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض" متفق عليه. ولا تفضلوا بعضها على بعض، وقال -صلى الله عليه وسلم- في الأصناف الستة المذكورة: "ولا تبيعوا منها غائباً بناجز" متفق عليه. وهذه الأنواع من الربا واقعة اليوم بكثرة جارفة، وتكثر في المصارف، وعند باعة الذهب والحلي.
وإذا اختلفت الأصناف حال البيع، فيلزم أن تكون مقبوضة في الحال فقط، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم، يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم، يداً بيد" أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود.
ولفظ أبي داود: "ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرها، يداً بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرها، يداً بيد، وأما نسيئة فلا ".
ومن صور الربا اليوم، أن يُعجل الموظف استلام راتبه قبل نهاية الشهر مقابل فائدة مالية، يسمونها عمولة البطاقة، وفي حقيقتها زيادة مالية ربوية، يرى الناس ظاهرها، ويخفى عليهم باطنها، وهي معاملة ملعون صاحبها وآكلها والمتعامل بها.
فاحذروا -عباد الله- من تلك الألاعيب المكشوفة، التي يتحايلون بها على الناس، ليدخل الربا في أموالهم، فتمحق بركاتها، وتزول خيراتها.
ومن صور الربا، استبدال الذهب القديم بذهب جديد، ودفع الفرق بينهما، وهذا عين الربا، والصحيح في ذلك، أن يبيع القديم ويقبض ثمنه، ثم يشتري جديداً.
ومن صور الربا، أن يشتري ذهباً ديناً أو أقساطاً، وهذا رباً لا يجوز التعامل به، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء" أخرجه مسلم. فليحذر تجار العملات، وتجار السبائك الذهبية، ألا يبيعوا حاضراً بغائب، فلا بد من التقابض والاستلام والتسليم في مجلس العقد.
ومن صور الربا، الإيداع بفائدة، وصورته أن يضع ماله في أحد البنوك الربوية، ويعطيه البنك فائدة جراء الانتفاع بالمبلغ، وهذا حرام، وفيه تعاون على الإثم والعدوان، ومعصية الرحمن.
أيها المسلمون: لا ريب أن المسلمين إخوة، يساعد بعضهم بعضاً، ويعين أحدهم أخاه، بشفاعة حسنة، أو واسطة لا ظلم فيها، أو غير ذلك من أوجه المنفعة، فمن شفع لأخيه أو قضى له منفعة، فلا يجوز له أن يأخذ مقابل ذلك أجراً، ومن فعل فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا" أخرجه أبو داود، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "مَن شفع لرجل شفاعة فأهدى إليه هدية فهي سحت"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كل قرض جر نفعاً فهر ربا".
أمة الإسلام: ربما وقع المسلم في الربا وهو لا يعلم، فمن كان كذلك، وجب عليه رد الحقوق إلى أهلها، وترك الربا فوراً، لأنه من أسباب سخط الله، ومن وقع في الربا مع بنك أو مصرف أو غيرها فإنه يرفع أمره للمحاكم الشرعية، ليتبين الحق من الباطل.
ألا فاعلموا -أيها الناس- أن من وقع في الربا عارفاً أو جاهلاً، فالعقد باطل، لحديث بلال -رضي الله عنه- أنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بتمر جيد، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أين هذا؟"، فقال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هذا ربا فردوه، ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا" متفق عليه واللفظ لمسلم. وهذا دليل واضح على بطلان العقد ولو تم التوقيع عليه، والموافقة من قبل المتعاقدين، فكل تلك الأمور لا تجيز العمل بالربا.
أمة الإسلام: لقد كان سلفنا الصالح، رحمهم الله -تعالى- ورضي عنهم أجمعين، أبعد الناس عن الحرام، بل وتركوا المباح، خوفاً من الوقوع في الحرام، عرفوا قدر الأموال، وأمعنوا النظر في سبيلها، وطرق الحصول عليها، فكانوا لا يحصلونها إلا من طريق مباح، ولا يصرفونها إلا في وجه له منفعة، سلكوا في تحصيلها سبيل الورع، وفي تصريفها سبيل الكرم والبذل المحمود.
كان لأبي بكر -رضي الله عنه- غلام، فجاء يوماً بشيء، فأكل منه أبو بكر -رضي الله عنه-، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ لقد كان ثمناً للكهانة، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه.
وشرب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء.
هكذا -أيها المسلمون- كان سلفنا الصالح يخرجون الحرام من بطونهم، بعد أكله وهم جاهلون به، وما ضرهم ذلك الفعل، بل ملكوا زمام الدنيا، ومفاتيح الآخرة، وكانت حياتهم طيبة، وعاقبتهم حميدة.
الله أكبر يا عباد الله! ما أعظم الفرق بين قوم أخرجوا الحرام من بطونهم، وقوم عرفوا الحرام، وقرؤوا كتاب الله، وتدبروا سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ثم أقدموا على أكل الحرام! شتان بين الفريقين! فريق ملكوا الأرض وخيراتها، وفريق ضاع ملكهم اليوم، فأصبحوا عبيداً للأهواء والشهوات والشبهات، قال الله -تعالى-: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد:11]
وإذا كان أخف الناس عذاباً يوم القيامة، رجل توضع تحت قدميه جمرتان من النار، يغلي منهما دماغه، فكيف بمن يأكل الربا وقد توعده الله بالخلود في النار؟.
فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أن الله -عز وجل- ختم آيات النهي عن الربا، والأمر بتركه في سورة البقرة بقوله -تعالى-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]، فهل بعد هذا البيان من النصوص الشرعية بيان؟ لهي أعظم دليل وبرهان، ولكن صدق الله العظيم إذ يقول: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37]، وقوله -سبحانه-: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان:44].
وفي الموضوع أدلة كثيرة، وأخبار غزيرة، وفيما ذكرت كفاية، لمن أدركته العناية.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المختار، صادق الأخبار، سيد الأبرار، حيث أمركم بذلك العزيز الغفار، فقال الواحد القهار: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
التعليقات