عناصر الخطبة
1/أثر يقين المسلم باطلاع الله عليه 2/مراقبة الله توجب على العبد محاسبة نفسه 3/ثمرة مراقبة الله على الفرد والمجتمع 4/الوصية بصيام يوم عاشوراءاقتباس
فمراقبة الله -جل وعلا- تُنشئ مجتمعا نقيًّا من الرذائل، خاليًا من الجرائم، يتحلَّى أبناؤه بكل فضيلة ويعيشون عيشةً رضيةً متعاونينَ على البر والتقوى، معتصمينَ بحبل الله -جل وعلا-، مجتمعينَ على كلمة الله، نابذينَ كلَّ تفرُّق وتحزُّب، مناوئينَ كلَّ منهج غالٍ وفكر متطرِّف...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك في الآخرة والأولى، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله النبي المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الوفا والتقوى.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-؛ فإن تقوى الله -جل وعلا- فيها سلامة الشرور من مصائب الدنيا والأخرى.
عباد الله: من أسماء الله -جل وعلا- "الرقيب" يقول تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، ويقول جل وعلا: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا)[الْأَحْزَابِ: 52]، فهو -سبحانه- الرقيب المُطَّلِع على ما أكنَّته الصدورُ، القائمُ على كل نفس بما كسبت، الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، المطلع على الخلائق، يرى أحوالهم ويُحصي أعمالهم، قال ابن القيم: "وهو الرقيب على الخواطر واللواحظ؛ كيف بالأفعال بالأركان".
وإن استقرار هذا المعنى العظيم في قلب العبد يجعله متيقِّنًا بدوام علم الله واطلاعه على ظاهره وباطنه، فيظهر له ذلك علما جازما، بأن الله رقيب عليه ناظر إليه، سامع لقوله، بصير بفعله، مطلع على عمله في كل وقت ولحظة وفي كل طرفة عين.
المراقبة -يا عباد الله- من العبد تَعَبُّدٌ باسمه -سبحانه-، الرقيب الحفيظ العليم المحيط، الخبير اللطيف، المهيمن باطلاعه على خفايا الأمور وخفايا الصدور؛ فهو -عز شأنه- الشهيد المطلع على جميع الأشياء، السميع لجميع الأصوات، جَلِيِّها وخفيها، البصير بجميع الموجودات دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، القريب من كل أحد بعلمه وخبرته ومراقبته، ومشاهدته وإحاطته، فمن عقل هذه الأسماء الحسنى وتعبَّد لله بمقتضاها حصلت له المراقبة الحقَّة التي تجعل قلبه مراعيًا لملاحظة الحق -سبحانه-، مع كل خطرة وخطوة.
عباد الله: إن واجب العبد في هذه الحياة الدنيا أن يكون قلبه في مراعاة دائمة للرقيب -عز شأنه-، فلا يلتفت إلا إليه، ولا يخاف إلا منه، فهو دائم الحفظ لأوامره -جل وعلا-، دائم الحفظ لنواهيه، منصرف الهمة إلى ما يرضيه ويقرِّبه منه -سبحانه-، فمتى راقب العبد ربه أوجب له ذلك الحياءَ من خالقه، والإجلالَ والتعظيمَ لبارئه، والخشية والمحبة والإنابة، والخضوع والتذلل لمن خلقه وأوجده، فصلاحُ الدارينِ -يا عباد الله- وفلاحهما في مراقبة العبد لربه وتحريه مرضاته، وملازمة عبوديته على السُّنَّة النبوية، مع لزوم الإخلاص له -سبحانه-، إخلاصَ مَن يعلم أن الناس إن راقبوا ظاهره؛ فإن الله -جل وعلا- يراقب ظاهره وباطنه، كما قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)[آلِ عِمْرَانَ: 5]، وقال عز شأنه: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)[الْبَقَرَةِ: 235].
معاشر المسلمين: مراقبة الله -جل وعلا- توجب على العبد محاسبة النفس؛ استجابة لقوله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فينظر العبد ما قدَّم لليوم الآخِر؛ أَمِنَ الصالحات التي تنجيه، أم من السيئات التي توبقه؟ -إلى أن قال-: والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس وفساده بإهمالها، والاسترسال معها" انتهى كلامه.
معاشر المؤمنين: إن مراقبة الله حقًّا تحمل العبد على الاجتهاد في الطاعات والتجرد عن كل ما يعارض أمر رب الأرض والسموات كما قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 90]، فالمؤمن -يا أيها الناس- يُجب أن يكون في مراقبة دائمة لربه، في الطاعة بالإخلاص والامتثال على الكمال، وفي باب النواهي بالانزجار والمداوَمَة والمثوبة والإنابة إلى ربنا -جل وعلا-، فما حُفِظَتْ حدودُ اللهِ ومحارمه ووصل الواصلون إليه -سبحانه- بمثل خوفه ومراقبته، ورجائه ومحبته، جعلنا الله وإياكم من أهل الخوف والرجا.
قال سبحانه: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[الرَّحْمَنِ: 46]، وقال عز شأنه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النَّازِعَاتِ: 40-41]، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "الحق -عز وجل- أقرب إلى عبده من حبل الوريد، -إلى أن قال-: فقلوب الجُهَّال تستشعر البُعْدَ؛ ولذلك تقع منهم المعاصي؛ إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر -سبحانه- لكَفُّوا الأكُفَّ عن الخطايا، قيل لبعض السلف: "بما أستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الناظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه"، وفي مثل هذا المعنى يُذَكِّرُنا نَبِيُّنا -صلى الله عليه وسلم- بهذا المعنى فيقول: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
رقابة الله -جل وعلا- تُنَزِّه الأفرادَ عن مُقارَفة الآثام والمحرمات، وتنزه القلوب عن كل ما يُدَنِّسُها ويُفْسِدُها، وبذا يتحقق المجتمع الصالح الذي أراده الله -جل وعلا- بقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 71]، فمراقبة الله -جل وعلا- تُنشئ مجتمعا نقيا من الرذائل، خاليا من الجرائم، يتحلى أبناؤه بكل فضيلة ويعيشون عيشة رضية متعاونين على البر والتقوى، معتصمين بحبل الله -جل وعلا-، مجتمعين على كلمة الله، نابذين كل تفرُّق وتحزُّب، مناوئين كل منهج غال وفكر متطرف، يعيشون على ضوء مبادئ دينهم وما يحمله من العدل والسماحة واليسر والوسطية والرفق واللين والمحبة، قال تعالى في وصف المؤمنين: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)[الْمَائِدَةِ: 54]، يعيشون تحت رقابة ربهم في استقامة وإصلاح آمِنينَ مستقرينَ، يعبدون ربهم، يشكرون خالقهم، يوحدون صفَّهم في محبة إيمانية ومودة إسلامية، شعارهم قوله -جل وعلا-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الْحُجُرَاتِ: 10]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره..." الحديثَ.
فمراقبة الله -جل وعلا- في أداء حقوقه -سبحانه-، فراقبوا الله -جل وعلا- في أداء حقوقه -سبحانه-، وراقِبوه في أداء حقوق عباده، تُفلِحوا وتفوزوا وتسعدوا.
معاشر المسلمين: ونحن نتكلم عن مراقبة الله -جل وعلا- فلا بد أن ننوه إلى أمرٍ التنبيهُ عليه ضروريٌّ؛ وهو أن الواجب والمتحتم على الدعاة والعلماء أن يراقبوا الله -جل وعلا- فيما يُصَدِّرُونه للناس، ويعلموا أن الفتوى خطيرة ويجب الإخلاص فيها لله -جل وعلا-، والصدق معه -سبحانه- ومراقبته في السر والعلن؛ فإن الله -جل وعلا- استأمن العلماء على ذلك، فعلى الجميع الحذر من الفتاوى الأحادية في قضايا الأمة ومستجداتها العامة، والتي لا يجوز فيها التعجل والتسرع بل لا بد من التروي والانقطاع مع لجوء صادق إلى الله -جل وعلا-؛ أن يلهم الصواب، ولا بد من مراعاة لمآلات الأمور ومراعاة لقواعد الشريعة ومقاصدها العامة، والنظر الدقيق لقاعدة جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها مع الحرص التام على لُحْمَة الأُمَّة واجتماع الكلمة ووحدة الصف والبُعْد عن كل ما يؤثر على ذلك، ولو مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ، ولابد في مثل هذه الفتاوى من الرجوع للعلماء الراسخين مع ما هم عليه من التجاوب الطويل والخبرة العميقة؛ فحري بمثل هذه الفتاوى أن تصل إلى الرأي الأصلح الذي تصلح به الأحوال وتستقيم معه الأمور، وإلا فبدون مراعاة لتلك المبادئ تقع الأمة في فوضى فكرية تؤدي إلى عواقب وخيمة حذَّرَ منها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".
نسأل الله -جل وعلا- السلامة من ذلك، نسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -جل وعلا- فهي وصية الله للأولين والآخرين.
عباد الله: أنتم في شهر عظيم؛ شهر الله المحرم، فأَرُوا اللهَ من أنفسكم خيرا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم" (رواه مسلم).
ويُستحب ويسن صيام عاشوراء وهو اليوم العاشر من هذا الشهر؛ فعن أبي قتادة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضيةَ" وفي رواية: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" (رواه مسلم).
ثم إنه يُسَنُّ للمسلم أن يجمع معه صيام يوم التاسع؛ كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "لئن بقيت إلى قابل لأصُومَنَّ التاسعَ" (رواه مسلم).
وأما سائر ما يُذكَر من المستحبَّات في هذا اليوم فذلك لم يَرِدْ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قَرَّرَ ذلك الْمُحَقِّقُونَ من أهل العلم.
ثم إن الله -جل وعلا- أمرنا بأمر عظيم؛ ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبينا ورسولنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن سائر الصحابة والآل أجمعين، وعن التابعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم فرِّج هموهم، واكشف غمومهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم وفِّقِ الحُجَّاجَ والمعتمرين، اللهم أوصلهم إلى ديارهم سالمين غانمين.
اللهم احفظ ووفِّق ولِيَّ أمرِنا خادم الحرمين الشرفين وولي عهده، اللهم وأعنهما على أمور الدين والدنيا أجمعين، يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله: اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا، وآخِر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التعليقات