عناصر الخطبة
1/استمرارية الصراع بين الشيطان والإنسان 2/سبل الوقاية من الشيطان 3/من مواقف السلف مع الشيطاناقتباس
لهذا كانت حياة الإنسان في هذه الدنيا في حقيقتها معركة وحربًا ضارية بينه وبين الشيطان، لا تنتهي هذه الحرب إلا بموت الإنسان؛ فما دام في الإنسان عرق ينبض فهو هدف للشيطان وغاراته -وقانا الله منها-، ولا يمكن للإنسان أن ينتصر على هذا العدو إلا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها المؤمنون: : إن الشيطان لا ييأس ولا يفتر ولا يتعب من أجل غواية بني آدم وإخراجهم من الحق إلى الباطل ومن الخير إلى الشر فهذه وظيفته حتى يفارق الإنسان هذه الحياة, وقد جاء في الحديث الصحيح أن عرش ابليس على الماء وفي صباح كل يوم يجمع ذريته ويعطيهم التكاليف وينشرهم في الأرض ليفسدوا فيها ويكون أقربهم منه منزلة أكثرهم افساداً لبني آدم .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول : من أضل اليوم مسلما ألبسته التاج قال: فيخرج هذا فيقول: لم أزل به حتى طلق امرأته فيقول: أوشك أن يتزوج . ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى عق والديه فيقول: يوشك أن يبرهما . ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك فيقول: أنت أنت ! ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قتل فيقول: أنت أنت ويلبسه التاج" . ( صحيح ) [ السلسلة الصحيحة - الألباني ]
والمسلم في هذه المعركة مع الشيطان يحتاج إلى أسلحة وأدوات يستطيع بها أن يتغلب على الشيطان، وأن يقف ثابتاً وصامداً على الحق والصراط المستقيم، ويقي بها نفسه من وساوس الشيطان ومكره وجنوده.
ومع كل هذه الأساليب والمداخل الشيطانية المتنوعة والخطيرة والكيد بالليل والنهار دون توقف، إلا أن كيده ضعيف، قال تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)[النساء:76].
عباد الله: لقد أرشدنا الله في كتابه الكريم أرشدنا رسوله الكريم صل الله عليه وسلم في سنته إلى سبل الوقاية من الشيطان؛ فمن ذلك الإخلاص لله في سائر الأعمال وحسن العبودية لله: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[الحجر:39-40]. فأخبر الشيطان بنجاة المخلصين منه، وقال سبحانه: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)[البينة:5].
ومن هذه السبل: الاستعاذة بالله والاحتماء واللوذ بجنابه: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[فصلت:36].
وقد شرعت الاستعاذة منه في مواطن، وإن كانت مشروعة في كل وقت، من هذه المواطن:
عند الفزع؛ فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعلمهم من الفزع كلمات: "أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون" وكان عبد الله بن عمر يعلمهن من عقل من بنيه ومن لم يعقل كتبه فأعلقه عليه (أبو داود والترمذي).
وعند الخروج من البيت؛ فعن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا خرج الرجل من بيته فقال بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله قال يقال حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، فتتنحى له الشياطين فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي"(أبو داود والترمذي).
وعند دخول المسجد؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا دخل المسجد قال: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم قال أقط؟ قلت: نعم. قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم"(أبو داود).
وعند قراءة القرآن (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[النحل:98].
وعند دخول الخلاء؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث"(البخاري).
وعند الغضب؛ فعن سليمان بن صرد قال كنت جالسا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ورجلان يستبان، فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد" فقالوا له: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعوذ بالله من الشيطان" فقال: وهل بي جنون؟! (البخاري).
وعند سماع نهيق الحمار؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً"(مسلم).
وغيرها من الأذكار الكثيرة في الكتاب والسنة.
معاشر المسلمين: ومن سبل الوقاية من الشيطان وكبده ومكره: قراءة القرآن؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان"(مسلم).
ومنها: ذكر الله -عز وجل-؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك"(البخاري ومسلم)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلوهم وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا"(البخاري).
ومن ذلك: الوضوء؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان"(مسلم).
ومن سبل الوقاية من الشيطان: لزوم الجماعة؛ فعن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: قال لي أبو الدرداء: أين مسكنك؟ قلت: في قرية دوين حمص، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية"(النسائي)، وعن معاذ بن جبل أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد"(أحمد).
قال أبو ثعلبة الخشني كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان"؛ فلم ينزل بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال لو بسط عليهم ثوب لعمهم. (أبو داود وأحمد)، وعن ابن عمر قال خطبنا عمر بالجابية فقال: "يا أيها الناس: عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة"(الترمذي).
وانظروا إلى حال الأمة والشتات والضياع الذي أصابها، وإن من أعظم أسبابه التفرق والتناحر والخلاف، فكان الحال مرتعاٌ خصب للشيطان يبث سمومه وأفكاره.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: اعلموا -رحمكم الله- أن أعظم سبل الوقاية من الشيطان يكمن في تقوى الله ومخافته، قال طلق بن حبيب عن التقوى: "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله"، وقال بعض السلف -رحمه الله-: "التقوى: حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة وحذر دائم، وتوقٍ لأشواك الطريق". والله -تعالى- يقول: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)[الأعراف:201].
هذا فاروق الأمة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه-؛ كان ورعاً تقياً, يخاف الله ويرجو رحمته, بهذه المنزلة بلغ المراتب العالية حتى إن رسول الله قال لعمر -كما عند الشيخين من حديث سعد-: "إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك".
وهذا الإمام أحمد، كان عالماً تقياً ورعا، جاءه أبو حامد الخُلْقاني يوماً فقال: لأحمد بن حنبل: ما تقول في القصائد؟ فقال: في مثل ماذا؟ قلت: مثل ما تقول:
إذا مـا قال لي ربِّـي *** أما استحييت تعصيـني
وتُخفـي الذنب من غيري *** وبالعصيان تأتيـني؟
فمـا قـولي له لما *** يعـاتبـنى ويقصيــنى؟
فرد الباب، وجعل يقول:
قال إذا مـا قال لي ربِّـي *** أما استحييت تعصيـني
وتُخفـي الذنب من غيري *** وبالعصيان تأتيـني؟
فمـا قـولي له لما *** يعـاتبـنى ويقصيــنى؟
فخَرَجتُ وتركته.
يحدث عنه ابنه عبد الله قال: "حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي خرقة لأشد لحييه، فكان يغرق، ثم يفيق، ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، فعل هذا مراراً، فقلت له: يا أبت أي شيء يبدو منك؟ قال: إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله، يقول: يا أحمد فتني، وأنا أقول: لا بعد، لا بعد، حتى أموت".
حتى فراش الموت يأتيك الشيطان ليغويك عن الحق؛ فاتق الله (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[إبراهيم:27].
وصلوا وسلموا على خير البرية (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
التعليقات