اقتباس
وعزاؤنا مع كر الأزمان والأيام ومع كل رمضان: أنه يمر وقد حمل معه زادنا إلى الآخرة، زخرًا لنا عند ربنا، ومهرًا للجنة دار المقامة والخلد التي لا تفنى... ولكن الخوف كل الخوف من عدم قبول الطاعات والقربات! الخوف كل الخوف أن يكون كل رمضان مضى شاهدًا علينا لا لنا!...
أحلم يقظة كان، أم هو طيف منام؟!... لقد ظللنا شهورًا طوالًا نتمنى أن يَقْدم علينا رمضان، ونشتاق إلى عباداته وروحانياته وازدحام المساجد فيه وإقبال الناس على فعل الخيرات والقربات... ولكَم دعونا الله قائلين: "اللهم بلغنا رمضان"... ثم استجاب الله -تعالى- لنا وأهل علينا هلال شهر رمضان، فامتلأت القلوب فرحة وبهجة وسعادة، ورفرفت الأرواح وسمت حتى كادت تعانق النجوم وتلامس السماء...
وما هي إلا دورة سريعة من دورات الحياة وكَرة صغيرة من كرَّات الزمان، فإذا بالقريب قد صار بعيدًا وإذا بالحاضر أصبح غائبًا وإذا برمضان يلملم أغراضه وقد أزمع الرحيل! فيا لها من غصة في الصدر قد تعدل مقدار الفرحة التي فرحناها عند قدومه، أيرحل عنا وما قضينا منه نهمتنا؟ أيتركنا وقد اعتدنا على طاعاته وروحانياته؟ أيغادرنا وما بلغنا بعد ما كنا نخطط أن نصنع فيه؟! أهكذا يتخلى ويرتحل الحبيب عن أحبائه؟!
وها هو أول رمضان يأتي علينا ويرحل سريعًا سريعًا، بل منا من مَرَّ عليه عشرون رمضان أو ثلاثون رمضان أو أربعون أو ستون أو ثمانون... كلها جاءت ثم رحلت فـ (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا)[مريم: 98]؟!
لكنها عبرة الزمان وموعظته، التي تصرخ فينا لتزلزلنا قائلة: "لا دوام لشيء من الدنيا ولا بقاء ولا خلود"، بل (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26-27]، إنها عبرة الزمان التي تقول: لن أترك شيئًا من الدنيا على حاله؛ أما القوي فسوف يضعف، وأما الشاب فسوف يهرم، وأما الجميل فسيصير دميمًا، وأما الصغير فسيكبر، وأما الكبير فسيموت.
وعزاؤنا مع كر الأزمان والأيام ومع كل رمضان: أنه يمر وقد حمل معه زادنا إلى الآخرة، زخرًا لنا عند ربنا، ومهرًا للجنة دار المقامة والخلد التي لا تفنى... ولكن الخوف كل الخوف من عدم قبول الطاعات والقربات! الخوف كل الخوف أن يكون كل رمضان مضى شاهدًا علينا لا لنا!... فيا تُرى مَن منا المقبول عند الله -تعالى- فنهنيه، ومَن منا المردود فنعزيه؟!
فهذا مالك ابن دينار -رحمه الله- يقول: "الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل"، بل هذا علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- يقول: "كونوا بقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل؛ فإنه لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل عمل يتقبل؟"(قوت القلوب، لأبي طالب المكي).
وقرأت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون: 60]؛ فسألت زوجها -صلى الله عليه وسلم-: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 61]"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
فهل هناك علامات نعرف بها من المقبول السعيد ومن المردود المخذول؟ ونجيب: نعم، لقد عدَّ العلماء علامات كثيرة لقبول الأعمال الصالحة، منها ما يلي:
العلامة الأولى: المداومة على العمل الصالح وعدم الانقطاع عنه: فهي علامة الإخلاص لله فيه، وقد قالوا: "ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل"، ولقد أمر الله -عز وجل- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأمرنا من بعده قائلًا: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99]؛ أي: ودُم على طاعة ربك حتى يأتيك الموت.
وقد اعتدنا في رمضان على الصيام، ولم ينقطع الصيام برحيل رمضان، بل بقي صيام الست من شوال، فـ "من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال، كان كصيام الدهر"(رواه مسلم)، وبقي صوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، فعن أم المؤمنين عائشة: أن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتحرى صيام الاثنين والخميس"(رواه النسائي في الكبرى، وصححه الألباني).
وبقي صيام الثلاثة البيض من كل شهر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر..."(متفق عليه).
وأما القيام والتراويح فهو أيضًا طوال العام، فعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: "أفلا أكون عبدا شكورًا"(متفق عليه)، وذلك طوال العام وليس في رمضان وحده.
وقل مثل هذا في كل الأعمال الصالحة التي اعتدناها في رمضان، فالمداومة عليها من علامات القبول.
وأما العلامة الثانية: أن نُلهم الاستغفار والدعاء: فبعد رحيل رمضان لا يبقى لنا إلا الدعاء بالقبول، والاستغفار مما وقع فيه من تقصير، ولقد علَّمنا القرآن الكريم أن نستغفر الله -تعالى- بعد كل طاعة نفعلها؛ فقد حكى لنا القرآن الكريم عن أناس يصلون أغلب الليل فإذا جاء آخره ألهمهم الله -تعالى- أن يستغفروه: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات: 17-18]، وكذا من قصد بيت الله وقضى حجه فعليه أن يختتمه باستغفار الله -عز وجل- وكثرة ذكره: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[البقرة: 199-200]، وهكذا فإذا أتم الله النعمة والمهمة ودنا الأجل فعلينا أن نستغفر؛ كما علَّم الله -تعالى- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ذلك: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)[النصر: 1-3]، فإذا أتم الله -عز وجل- علينا صيام رمضان بقي أن نسأله -تعالى- القبول، ثم نختتمه أيضًا بالاستغفار من الزلل والتقصير.
ثم علامات القبول كثيرة كثيرة، وما ذكرنا منها إلا القليل، لكننا قد جئناك بمجموعة مختارة منتقاة من خطب النابهين والعالِمين لتستقي منها عددًا آخر من علامات القبول فهاك هي:
التعليقات