عناصر الخطبة
1/منزلة محبة الله وفضلها 2/الأسباب الجالبة لمحبة اللهاقتباس
اعلموا -رعاكم الله- أن أجلّ مقامات العابدين، وأعظم منازل السائرين: محبةُ رب العالمين، وخالق الخلق أجمعين. محبة الله الذي لا إله إلا هو. محبة الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر. محبة الخالق، البارئ، المصور. محبة ذي الجلال والإكرام. محبة...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: معاشر المؤمنين: اتقوا الله؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
عباد الله: اعلموا -رعاكم الله- أن أجلّ مقامات العابدين، وأعظم منازل السائرين: محبةُ رب العالمين، وخالق الخلق أجمعين. محبة الله الذي لا إله إلا هو. محبة الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر. محبة الخالق البارئ المصور. محبة ذي الجلال والإكرام. محبة الرب العظيم -سبحانه- الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العليا؛ فإن هذه المحبة -عباد الله- روح الدين، وغذاء الأرواح، وأساس السعادة، وقوام الأعمال، وقوام الدين.
هذه المحبة -عبادَ الله- هي الحياة التي من حُرمها كان من جملة الأموات، والنورُ الذي من فقَده غرِق في بحار الظلمات، والشفاءُ الذي من عُدمه توالت على قلبه أنواع الأسقام، واللذةُ التي من حُرمها توالت عليه الهموم والآلام.
محبةُ الله -عباد الله- هي أساس السعادة، وسبيل الفلاح في الدنيا والآخرة. محبة الله -تبارك وتعالى- هي الجالبة للأعمال، المحقِّقةُ للكمال، البالغةُ بالعبد إلى خير المقامات، وعالي المنازل.
محبة الله -جل وعلا- شأنها عظيم وأمرها جليل، ومكانتها في دين الله رفيعة، وكان من دعاء نبينا -عليه الصلاة والسلام- كما في سنن الترمذي وغيره: "أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ"، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ"، وهذا هو معنى قول الله -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[مريم:٩٦].
وثمار المحبّة وآثارها وفوائدها وعوائدها على المحبِّين في الدنيا والآخرة لا حصر لها ولا عد، ويكفي المحبَّ أن الله -تبارك وتعالى- معه مؤيّداً وحافظا، ومسدِّداً وموفِّقا، كما سيأتي دليل ذلك في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-.
معاشر المؤمنين: وفي خضم توالي الفتن وكثرة الصوارف وتنوّع الملهيات والصوادّ التي بُليَ بها الناس -في خضم ذلك كلّه- تضعف محبة الله في القلوب ويضعف تبعاً لذلك آثارُها وثمارُها وموجباته.
وهذا مقامٌ -عبادَ الله- يتطلب من العبد عودةً صادقةً بنفسه إلى الله؛ باحثاً عن سبيل نيل محبة الله -تبارك وتعالى-، متطلباً الأمور الجالبة إلى قلبه محبةَ الله، ليعود إلى قلبه صفاؤُه ونقاؤه، وبهاؤه وضياؤه، وذلك بعمارته بمحبة الله -جل وعلا-.
عباد الله: وهذه وقفة أُذّكِر فيها بجملة من الأمور العظام التي تجلب إلى القلوب محبّة ذي الجلال والإكرام؛ فأول ذلك -عباد الله-: عنايةٌ صادقة بكتاب الله تدبراً وتأملا: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص:٢٩]، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء:٨٢]، وعندما تقرأ القرآن لا يكن همك ختم السورة وليكن همك عقلُ الخطاب وفهمُ المراد، فهذا -أيها المؤمن- من أعظم الأمور الجالبة لمحبّة -الله -جل وعلا--؛ أن تتأمل في كلامه العظيم وذكره الحكيم الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)[فصلت:٤٢].
ومن الأمور الجالبة للمحبة -عباد الله-: العناية بالنوافل بعد الفرائض؛ فهذا أمرٌ عظيم يجلب للقلوب المحبة ويغذي القلوب بها، وتأمّلوا شاهد ذلك ودليله فيما جاء في صحيح البخاري وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه أنه قال: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ"، والمعنى أن الله -سبحانه- يؤيده ويسدده في سمعه وبصره وفي قدمه ويده وفي جميع أحواله.
ومن الأمور الجالبة للمحبة - عباد الله-: إيثار محابِّ الله على محابِّ نفسك، وتقديمها على ما تحب مهما كانت رغبة النفس ومهما كان طلبها، وقد جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ".
ومن الأمور الجالبة للمحبة -عباد الله-: معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العليا؛ فإن العبد كلما كان أعظم معرفة بالله كان لله أحب ولعبادته أطلب وعن معصيته أبعد، وشاهِدُ ذلك في قول الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: ٢٨].
ومن الأمور الجالبة للمحبة -عباد الله-: تذكُر نعم الله وآلائه وإحسانه وبِرّه (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النحل:٥٣] فإذا تذكرتَ نعم الله عليك ومننه المتوالية وعطاياه المتتابعة تحركت في قلبك المحبة وزاد شأنها وارتفع مقامها.
تأمل مَن الذي خلق لك هذا الجسم الجميل! ومَن الذي شقّ لك سمعك وبصرك! ومَن الذي منّ عليك بيديك وقدميك! ومَن الذي منّ عليك بمطعمك ومشربك وصحتك وعافيتك! مَن الذي منَّ عليك بالمسكن والأولاد! والأمن والأمان! إلى غير ذلك من النعم والعطايا.
وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام - كما ثبت في الصحيح – إذا أوى إلى فراشه كل ليلة تذكر نعم الله -جل وعلا- وقال مثنياً وحامدا: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ".
ومن الأمور الجالبة للمحبة -عباد الله-: مجالسة أهل الصلاح والتقى والإيمان والاستقامة، والاستفادة من أطايب أقوالهم، ومحاسن أعمالهم، وجميل أخلاقهم وآدابهم، و "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ"، كما ثبت ذلك عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- في سنن أبي داود وغيره.
ومن الأمور الجالبة للمحبة -عباد الله-: أن يبتعد المرء عن الأمور التي تحُول بين القلب وبين ربه ومولاه، وما أكثرها في هذا الزمان؛ كم هي الأمور الصارفة والأمور الصادة والأمور المبعدة للقلوب عن محبة الله!
ولنتأمل ذلك في تلك القنوات التي بُلي بها الناس في هذا الزمان، والشبكات العنكبوتية التي عمَّت وطمَّت، والمجلات الهابطة، وغير ذلك من الوسائل والملهيات التي شغَلت القلوب، وأمرَضت النفوس، وأضعَفت الإيمان، وحالت بين القلوب وبين محبة الرحمن، فمن كان يريد لقلبه محبّةً صافية ومحبةً صادقة فليقطع كل طريق يحول بينه وبين المحبّة، ولا يكون حاله كحال من قال:
ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له *** إياكَ إياك أن تبتل بالماءِ
فهذا أمرٌ لا سبيل إلى نيله والحالة هذه إلا من عاد صادقاً إلى ربه، طالبا رضاه، وطالباً محبته سبحانه، فبذلك تُنال وهذا هو سبيلها.
ونسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا حبه.
اللهم إنا نسألك حبك وحب كل من يحبك وكل عملٍ يقربنا إلى حبك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل حبك في قلوبنا أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وملذاتنا، وأحب إلينا من الماء البارد في شدة الظمأ والعطش، إنك سميع الدعاء، وأنت أهل الرجاء، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله: روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟" فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا" تأملوا جوابه -رعاكم الله- فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ"، وفي رواية: "حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ".
فانظر -أيها المؤمن- قراءة القرآن ومعرفة أسماء الرحمن وصفاته العليا والعناية بها تأملاً وتدبرا من أعظم الأمور الجالبة لمحبة للرحمن، والموجبة لدخول الجنان، والنجاة من النيران.
رزقنا الله جميعا ذلك إنه تبارك وتعالى سميع مجيب.
وصلوا وسلموا رعاكم الله على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦]، وليس في عباد الله عبدٌ أعظم في تحقيق محبة الله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو إمام المحبين، وقدوة الموحدين، وسيد ولد آدم أجمعين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وأبي الحسنين علي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمنّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. اللهم ولِّ علينا خيارنا يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمة ورأفة على عبادك المؤمنين.
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.
اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا، واجعلنا مباركين أينما كنا.
اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحبَّ كل عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم إنا نسألك رضوانك والجنة، اللهم إنا نسألك رضوانك والجنة.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، وشكر نعمتك، وحسن عبادتك، وقلبا سليما، ولسانا صادقا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
التعليقات