عناصر الخطبة
1/ وجوب حفظ اللسان 2/ أنواع الإسقام على الله وأحكامه 3/ بيان خطر اللسان 4/ محاسبة النفساهداف الخطبة
اقتباس
واللسان رحب الميدان ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى وحد، له في الخير مجال رحب، وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلقه عذبه اللسان أو أهمله مرخي العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، لا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة ..
الحمد لله الذي نصب طاعته والخضوع له على صدق محبته دليلاً، وفضَّل أهل محبته ومحبة كتابه ورسوله على سائر المحبين تفضيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مقر بربوبيته، شاهد بوحدانيته، منقاد إليه لمحبته، مذعن له بطاعته معترف بنعمته، فار إليه من ذنبه وخطيئته، لا يبتغي سواه ربًا، ولا يتخذ من دونه وليًا ولا وكيلاً.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، أحبهم إليه، وأكرمهم عليه، فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله، وجميع عباده المؤمنين عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فمن اتقى الله وقاه، ومن اعتمد عليه كفاه (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281]
عباد الله: من حفظ لسانه قل خطؤه، وكان أملك لزمام أمره، وأجدر ألا يقع في محذور، وقد ضمن له النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنة، في قوله: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه، أضمن له الجنة" رواه البخاري. وما بين اللَّحيين هو اللسان، وما بين الرِّجلين هو الفرج.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة؛ فالسنة الإِمساك عنه؛ لأنه قد ينجرُّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء".
فمن استقام لسانه استقامت جوارحه، ومن عصى لسانه وخاض في أعراض الناس عصت جوارحه وانتهكت حرمات الله، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تُكَّفر اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا" رواه الترمذي.
قال النووي -رحمه الله-: "معنى "تكفر اللسان" أي تذل وتخضع"، وقال الألباني: -رحمه الله-: "أو هو كناية عن تنزيل الأعضاء اللسان منزلة الكافر بالنعم".
عباد الله: إن اللسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير جرمه، عظيم طاعته وجُرمه، إذ لا يستبين الكفر والإِيمان إلا بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والعصيان.
واللسان رحب الميدان ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى وحد، له في الخير مجال رحب، وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلقه عذبه اللسان أو أهمله مرخي العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، لا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون: الله -عز وجل- له كمال التعظيم والجلال، وسعت رحمته كل شيء، لا مُكره له، فينبغي على العبد -وإن كان من أهل الصلاح- أن يتأدب مع الله، فلا يُقسم بأن الله لا يغفر لفلان، ولو كان باعثه الغيرة وحب الخير، لأن الإقسام على الله على وجه الحجر على فضله -سبحانه- من أعظم المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.
والإِقسام على الله ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يكون الباعث على القسم حسن الظن والثقة بالله، فهذا جائز لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" رواه البخاري.
الثاني: أن يكون الباعث على القسم: الإِعجاب بالنفس وتحجر فضل الله، وفي ذلك إساءة أدب مع الله -عز وجل- كقول: "والله لا يغفر الله لفلان"، فهذا من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.
أيها المسلمون: عن جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله -عز وجل-: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؛ إني قد غفرت له؛ وأحبطت عملك" رواه مسلم.
يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه التحذير من خطر اللسان: أن رجلاً حلف ألا يغفر الله لرجل مذنب؛ فكأنه حكم على الله وحجر عليه؛ لما اعتقد لنفسه عند الله من الكرامة والمكانة، ولذلك المذنب من الإهانة.
وهذا سوء أدب مع الله، أوجب لذلك الرجل الشقاء والخسران في الدنيا والآخرة، وفي الحديث دلالة على أن الجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، والنار مثل ذلك.
فالواجب على العبد ألا يقسم على الله على وجه الحجر، بل ينبغي أن يتأدب مع ربه، وألا يغتر بكثرة عمله، بل يسأل الله الثبات.
وفي حديث أبي هريرة، أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: "تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته"، يشير إلى ما رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يومًا على ذنب، فقال له أقصر، فقال خلني وربي، أبعثت عليَّ رقيبًا، فقال: والله لا يغفر الله لك، ولا يدخلك الجنة، فقبضت أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًا، أو كنت على ما في يدي قادرًا، فقال للمذنب: اذهب فأدخل الجنة، وقال الآخر: اذهبوا به إلى النار".
وفي هذا الحديث بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، وفي حديث معاذ الذي رواه الترمذي قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه-: "من العجب أنَّ الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنى، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، وكم نرى من رجل متورِّع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله دل على الحق ورفعه، ونهى عن الباطل ووضعه، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، حاز من الفضل والشرف أكمله وأجمعه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتبعه.
أما بعد: فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم، وقابلوا بين صالحها وسيئها قبل أن توزنوا، فإن الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
فمن حاسب نفسه واجتهد في إزالة ما فيه من الأخلاق الرذيلة، وجاهدها للتحلي بالأخلاق الجميلة، فقام بحقوق ربه جاهدًا مجتهدًا، وسلك سبيل الهدى وكان في سبيله مقتصدًا، تائبًا من ذنوبه معترفًا بعيوبه، راجيًا من ربه قبول توبته وإدراك مطلوبه، ساعيًا في برِّ والديه وصلة أرحامه والقيام بحق معلميه، قائمًا بحق جيرانه وإخوانه ومعامليه، متحريًا الصدق والبر والإِحسان، لا يزال لسانه رطبًا من ذكر الملك الديان، سليم القلب من الرياء والكبر والحسد والحقد والهوى، حافظًا لسانه من الغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والزور، والبذاء؛ مخلصًا في أعمله لا يريد بها سوى ثواب ربه ورضاه، محسنًا في اتباع نبيه، مقتديًا بسنته وهداه، فهذا هو الكيس الذي أدرك الفوز واغتنم الفلاح.
والعاجز من أخلد إلى الكسل والبطالة واتباع الشهوات؛ ففاتته المتاجر والأرباح، فهذا أحمق جاهل تمنى على الله الفوز بالجنات، وهو قد أعطى نفسه هواها وترك الأعمال الصالحات: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية: 21]
فذاك حياته حياة خير وسرور، وفي قبره قد افترش الديباج، والتحف بالنور، وفي حشره قد سبق وأخذ إلى الرب الغفور، وحين وصوله إلى تلك المساكن الطيبة الأنيقة والديار، تتلقاهم الملائكة من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، والآخرون حياتهم حياة هم وغم وكسلك وشقاء، وموتهم حزن وهلاك وردى، ومقامهم في أضيق مكان وعذاب سرمد؛ فما أبعد الفرق بين الفريقين، وما أشد التباين بين الطريقين: (لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر: 20]
هذا، وصلوا وسلموا.
التعليقات