عناصر الخطبة
1/ الحث على المنافسة في العشر الأواخر من رمضان 2/ من دروس الشهر وعبره 3/ دعوة المملكة لمؤتمر إسلامي لبحث قضايا المسلمين 4/ بحث قضايا المظلومين في الدول الإسلامية 5/ مظاهر الوحدة في شهر رمضان 6/ ضرورة التفاعل مع الفقراء والمساكين في وداع الشهراهداف الخطبة
اقتباس
والأمة الإسلامية على مُفترق طُرقٍ، تخفقُ قلوبُها شغفًا بما يُداوي جراحَها، ويرفعُ مآسِيَها، ويسرُّ صديقَها، ويدحَرُ عدوَّها. إنها أمام ظروفٍ ومُتغيِّراتٍ ومُستجداتٍ فيها الفرص الحقيقية لبناء سياساتٍ عربيةٍ إسلاميةٍ تملأُ الفراغَ الذي تعيشُه هذه الأمة بسبب استقطاباتٍ مُهلِكة، واصطفافاتٍ مُدمِّرة، وتشرذُماتٍ قاتلة. في هذه الظروف والبواعث والمُستجدات تأتي بلاد الحرمين -المملكة العربية السعودية- والتي تعوَّد قادتُها أن يتصدَّوا ..
الحمد لله، الحمد لله الملك المعبود، ذي الفضل والكرم والجُود، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل إنعامه وفضله الممدود، والشاكر بالمزيد موعود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تُسبِّح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، ومخلوقاتُه على ربوبيته وألوهيته شهود، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، صاحب المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله المُوفين بالعهود، وأصحابه في نُصرة الحق هم الأسود، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى اليوم الموعود، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، ألا تطمعون في اللحاق بالصالحين؟! ألا تتسابقون في الخيرات مع المُتسابقين؟! كم بين الساعي والقاعد والراغب والزاهد؟! السابقون السابقون شغلَهم حبُّ مولاهم عن ملذَّات دنياهم، والمُتنافِسون المُتنافِسون دموعُهم على وَجَنَاتِهم تتدفَّق، يشتاقون إلى الحبيب، والحبيبُ إليهم أشوق، ما أبهى منظرهم في ظُلمات الدُّجَى ونورُهم قد أشرق، تعرفهم بسيماهم وللصدق نورَق.
يا عبد الله: لا يجعلُ الله عبدًا أسرع إليه كعبدٍ أبطأ عنه، (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
أيها المسلمون الصائمون القائمون: تقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم، وأعظمَ أجرَكم ومثوبتكم، وأحسن جزاءَكم.
في خواتيم هذا الشهر المبارك، وفي عشره الأخيرة، يحسُن النظرُ في دروس الشهر وعِبَره:
شهر رمضان شهر القرآن والفرقان: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185]، قرآن وفرقان يملأُ العقولَ حكمة، والقلوبَ طهارة، والنفوسَ إشراقًا وبهجة.
شهر رمضان شهر الفرقان بين الحق والباطل، فُرقان بدرٍ المعركة الكبرى، بدر الانتصارات، وفُرقان الفتح فتح مكة، ذلكم الفتح الذي علَت به كلمةُ الدين، ومنه انطلقَت فتوحاتُ المُسلمين.
بقوة الحق والفُرقان استوثَقَت عُرى دولة الإسلام، وامتدَّ سلطانُه العادلُ، وساس الأممَ بعقيدة التوحيد وشريعة الصلاح والإصلاح.
معاشر المسلمين: والأمة الإسلامية على مُفترق طُرقٍ، تخفقُ قلوبُها شغفًا بما يُداوي جراحَها، ويرفعُ مآسِيَها، ويسرُّ صديقَها، ويدحَرُ عدوَّها.
إنها أمام ظروفٍ ومُتغيِّراتٍ ومُستجداتٍ فيها الفرص الحقيقية لبناء سياساتٍ عربيةٍ إسلاميةٍ تملأُ الفراغَ الذي تعيشُه هذه الأمة بسبب استقطاباتٍ مُهلِكة، واصطفافاتٍ مُدمِّرة، وتشرذُماتٍ قاتلة.
في هذه الظروف والبواعث والمُستجدات تأتي بلاد الحرمين -المملكة العربية السعودية- والتي تعوَّد قادتُها أن يتصدَّوا لكوارث الأمة والعمل مع الأشقَّاء لمُعالجتها شعورًا بالواجب، ونهوضًا بالمسؤولية.
معاشر المسلمين: الدعوةُ إلى وحدة المسلمين وتضامُنهم والتحاوُر والمُشاورة فيما بينهم هي إحدى رواسِخ هذه الدولة وثوابتها؛ فمُؤسسُ هذه الدولة: الملكُ عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود -رحمه الله- حالما فرغَ من توحيد هذا الكِيان العظيم أولُ عملٍ إسلاميٍّ قام به دعوتُه إلى أول مؤتمر إسلامي عام خمسٍ وأربعين وثلاثمائةٍ وألفٍ (1345هـ) هنا في مكة المكرمة.
ثم تعاقبَ على ذلك أبناؤُه: الملكُ سعود، وفيصل رائدُ التصامُن الإسلامي، وخالدٌ، وفهدٌ -رحمهم الله-، تعاقَبوا على احتضان مؤتمراتٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ يشهدُ لها التاريخُ وتشهَد لها الأجيال.
وقد سارَ على هذا السَّنَن: خادمُ الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله ووفقه وأعانه- في رغبةٍ صادقةٍ، وعملٍ جادٍّ من هذه القيادة الصالحة لتحذير هذه الأمة بقياداتها وزعمائها من محاولات الاستقطابات الإقليمية والدولية، ومن أجل اعتماد مسار التضامُن والوحدة.
لقد دعا قبل ذلك -حفظه الله- إلى قمتين: إحداهما: إسلامية، والأخرى: عربية؛ من أجل هذه الأغراض النبيلة الكبرى.
وله تطلُّعاته؛ فهو يتطلَّع إلى أمةٍ إسلاميةٍ مُوحَّدة، ويتطلَّع إلى حكمٍ مسلمٍ رشيدٍ يقضي على الظلم والقهر، ويتطلَّع إلى تنميةٍ مسلمةٍ شاملةٍ تقضي على العوز والفقر، ويتطلَّع إلى انتشار وسطية سمحة تُمثِّل سماحة الإسلام، ويتطلَّع إلى تقنيَّة مُسلمة مُتقدمة.
هذا الملك الصالح قبل الحوار اهتمامه المُنقطع النظير، فله في ذلك سجلٌّ ناصع، ومُبادراتٌ لا تُنكر لدحض مقولة: صدام الحضارات.
وقد سجَّل مقولته: إننا صوتُ تعايُش وحوارٍ عاقلٍ وعادلٍ، صوتُ حكمةٍ وموعظةٍ وجِدالٍ بالتي هي أحسن.
وها هو -حفظه الله وسدَّده- يُوجِّه دعوتَه لإخوانه وأشقائه قيادات العالم الإسلامي وزعمائه لمُؤتمرٍ استثنائيٍّ يجتمعُ فيه فضلُ الزمان، وشرفُ المكان، ومكانةُ الداعي؛ في شهر رمضان المبارك، وفي عشره الأخيرة، وفي أرجى أيامه ولياليه، وبجوار الكعبة المُشرفة وزمزم والحَطيم.
إنه اجتماعٌ استثنائيٌّ بكل المقاييس، مشاعر تترقَّبُها الأمةُ وتأملُ أن يكون المُؤتمِرون في درجاتٍ عُليا من الباعث الإيماني، والصفاء الذهني، والصدق الوجداني، في جوار بيت الله، وفي شهر رمضان المُبارك المُعظم.
نعم، إنه من المُؤمَّل أن يكون في هذا التأطير الزمانيِّ والمكانيِّ مزيدٌ من استشعار هذه القيادات الكريمة لعِظم المسؤولية أمام ربها، ثم أمام شعوبها.
وإن هذا الحضور الكريم والتجاوُب المشكور لهذه الدعوة دليلٌ ظاهرٌ -إن شاء الله- بأن في أعماق الأمة رغبةً حقيقيةً في التغيير نحو الأفضل، وعزمًا صادقًا -بإذن الله- على الإصلاح المنشود، وتحقيق أهداف هذا المُؤتمر العظيم.
معاشر القادة والزعماء: ينبغي أن ينتهِج المؤتمر الكريم حوارًا راقيًا شفَّافًا يُعيدُ للأمة حيويتها، ويُزيلُ الحواجز المُفتعلة، يجبُ لنجاح القمة أن تتغلَّب القِيَم الأصيلة، والمصالح الكُبرى، والوقوف مع كل مطلبٍ عادلٍ تفعيلاً لقُدرات الأمة، وتوحيدًا لطاقاتها في تضامُن حقيقي، وإرادةٍ حازمةٍ جادَّة للنهوض بالأمة، وعزمٍ صادقٍ لا يَلين لمواجهة التحديات.
حذارِ ثم حذارِ -حفظكم الله- أن تقِف المطامِع الصغرى والمصالح الضيقة أمام المصالح الكبرى وآمال الأمة وثقتها.
أيها المُؤتمِرون الكرام: إن أولَى الأولويات: تعزيزُ التضامُن الإسلاميِّ، والسيرُ الجادُّ نحو تحقيق الوحدة الكُبرى، وحدةً تُنقِذُ الأمةَ من هذا التشرذُم والاضطراب والتقطيع والاستقطاب.
إن شعوبَكم تنتظر منكم مواقف حازِمة ضد الحملات التي يتعرَّض لها الإسلام ونبيُّ الإسلام -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وكتابُ الإسلام كتابُ الله العزيز، لا بُدَّ من مواقف حازمة ضدَّ كل من يضع الإسلام في دائرة التطرُّف ودائرة الإرهاب، ويجعلُ أهلَ الإسلام يدفعون ثمنَ ذلك غاليًا من أنفسهم وكرامتهم واقتصادهم وسياستهم وعلاقاتهم.
وإن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وإن العدلَ بيِّن، وإن الظلمَ بيِّن.
أيها القادة: وإن الفتنة التي ذرَّ قرنُها، والأفعى التي أطلَّت برأسها هي هذه الطائفية المذهبية المقيتة التي يُحاول من يُحاول من أعداء الأمة ممن لا يُريد لها خيرًا، ولا يُريد لها قيامًا يُحاول أن يُرسِّخها، وأن يُتنامَى دورُها السلبيُّ، إنها والله تُنبِتُ الشِّقاق والتناحُر والخصومة والأحقاد، وهي والله المدخلُ العريضُ للتنافُس الدولي لتحقيق مصالحهم الخاصة ومطامعهم على حسابِ تقسيم المُقسَّم، وتوسيع الخلافات، وبثِّ روح الانكفاء على الاصطفافات الضيقة.
الطائفية هي العائقُ الصلبُ والسدُّ العظيمُ أمام تحقيق كل هدفٍ إسلاميٍّ نبيلٍ، وأعظمُها الوحدةُ الإسلاميةُ المنشودة، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10].
أيها القادة والزعماء: وقضيةُ المسلمين الكُبرى ومُشكلتُهم الأولى: فلسطين، ثم فلسطين، ثم فلسطين، فلسطين السَّليبة، فلسطين الأقصى، أولى القبلتين وثالثُ الحرمين الشريفين لا يزالُ تحت الاحتلال، ولا يزالُ العدو المُحتَلّ يُقطِّع الأراضي ويعبَثُ بالمُقدَّرات؛ بل يعبَثُ بالاتفاقيات، ويُحاصِرُ غزة، ويسرِقُ الضفة، ويسعى ومن معه بما أُوتوا من قوةٍ ليجعلوا هذه القضيةَ الكُبرى في مُؤخرة الاهتمام أو المُهم من القضايا.
أيها المُؤتمِرون المُعظَّمون: في ديار الإسلام مذابِح جماية تُنظَّم، يذهبُ كل يومٍ ضحيتها رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ كلهم أبرياء عُزَّل، مُسالِمون، في سوريا الجريحة، وفي الروهينجا في ميانمار في بورما، يقوم بذلك كله طغاةٌ مُتجبِّرون مُجرمون، ما نقَموا منهم إلا أن لهم حقوقًا مشروعةً، ومُطالباتٍ عادلةٍ في العدل والإصلاح والعيش الكريم.
لا بُدَّ من وقفاتٍ حازمةٍ لحمايةِ هؤلاء المظلومين ورفع الظلم عنهم وتمكينهم من نيل حقهم المشروع في الحياة الآمِنة الكريمة والأخذ على يد الظالم.
وثمة قضايا أساسية هي الطريق لتحقيق الوحدة المنشودة يجبُ النظرُ فيها، ويكون الاعتماد بعد الله في بحثها والنظر فيها على جهود دولنا الإسلامية ومواردها ورجالاتها وكفاءاتها في وضع الخطط ورصد الموارد للمشاريع المُشتركة الاقتصادية والصناعية والعسكرية، وإصلاح التعليم، وتحقيق الريادة العلمية والتقنية في أقطار المسلمين، مع ما ينبغي مُلاحظته من حفظ حقوق الناس، والحريات العامة، وحقوق الأقليات، وما يتطلَّبه ذلك من ضبطِ مسار الإعلام حتى لا يزيدَ من مناخات التوتُّر، وزرع الشكوك، وافتعال التنافُر، وتقليل مواطن الالتقاء مما يُراكِمُ الأخطاءَ في حق أوطاننا ومُستقبل شعوبِنا وتربُّص أعدائنا.
معاشر الزعماء الأكارم: هذه مطالبُ مشروعة، وتطلُّعاتٌ مُحِقَّة، وآمالٌ ليس تحقيقُها بعد توفيق الله وعونه بعزيزٍ، وما هي على هِمَم الصادقين المُخلِصين ببعيدٍ.
إن اجتماعكم المُبارك -حفظكم الله- فرصةٌ تاريخية يجب استغلالها وعدم تفويتها، فأرُوا اللهَ في هذا الشهر الكريم من أنفسكم خيرًا، وجِدُّوا وشمِّروا وانطلقوا على بركة الله في مسيرة التضامُن الإسلاميِّ في دعوةٍ إلى دينكم والتزام أحكامه، وإحياء روح الأُخُوَّة الإيمانية: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، من أجل أن يعود الدمُ المُسلمُ غاليًا، وتنطلقُ مشاريعُ التكامُل الإسلاميِّ في البناء والتنمية، وحتى تتحقَّق الاستقلالية الإسلامية المنشودة.
وثِقوا بوعد الله -عزَّ شأنه- في قوله سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55]، وبقوله -عزَّ شأنه-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 40، 41]، وبقوله -جل وعلا-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله حمدًا يليقُ بجلاله وعظيم سُلطانه، والشكرُ له على سابغ إنعامه وجميل إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُوصِلُ إلى جنته ورضوانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه جاهدَ في الله حق جهاده حتى أقام الدين على أركانه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: شهر رمضان المُبارك موعدٌ معلومٌ يظهر فيه جماعة المسلمين واجتماعُهم، إنه تذكير وحدة الهدف، ووحدة الشعور، ووحدة الضمير، ووحدة المصير: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]، (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) [البقرة: 185].
المسلمون كلُّهم ينتظمِون في هذا الشهر الكريم على نمطٍ واحدٍ من المعيشة، الغنيِّ والفقير، والذكر والأنثى، والشريف والوضيع، كلُّهم صائمٌ لربه، مُستغفِرٌ لذنبه، مُمسِكٌ عن المُفطرات في موعدٍ واحدٍ بدءًا وانتهاءً، مُتساوون في الجوع والحِرمان، وإذا أردتم استشعار مظهر الوحدة في هذه الشعيرة العظيمة فارجِعوا البصرَ ثم ارجِعوا البصرَ على هذه الجموع المُكتظَّة في حرم الله وحرم رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، لتروا مئات الألوف من المسلمين والمُسلمات والصائمين والصائمات والقائمين والقائمين، وقد اجتَمعت في هذه الرحاب الطاهرة بأجناسها وألوانها لتعيشَ أجواءَ الأمن والإيمانِ والبذل والعطاء والخير والنماء.
هذه الرحاب المُباركة تحتضن الإسلام ودعوته، مهوَى أفئدة المسلمين أجمعين، تلتقي هذه الجُموع في رِحابها، وتلتقي معها آمالها، وتتجِه إليها قلوبُها وأجسادُها، وتُولِّي نحوَها في القبلةِ وجوهَها.
معاشر الأحِبَّة: هذا هو شهرُ الصوم، وهذه شذَراتٌ من دروسه وعِبَره، وقد بدأت خِيامُه تتقوَّض، فاستدرِكوا في خواتيمه، وأحسِنوا في توديعه، وجِدُّوا وشمِّروا فيما بقِيَ من أيامه؛ كيف وما بقِي منه هو أفضلُ أيامه ولياليه، فكونوا لربكم طائعين، ومع إخوانكم بررةً مُحسنين، والأُسوةُ في ذلك نبيُّكم محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان أجودَ ما يكون في رمضان، وكان إذا دخلَت العشرُ أيقظَ أهلَه، وأحيا ليلَه، وجدَّ وشدَّ المِئزَر.
فأرُوا للهَ من أنفسكم خيرًا؛ فإن الشقي فيه من حُرِم رحمة الله، فمن كان مُجِدًّا فليُكثِر، ومن كان مُقصِّرًا فليُقصِر، ومن شاغَل فليُبادِر بالتوبة النَّصُوح، وليعظُم رجاءَه بربِّه؛ فأبوابُ التوبة مُشرَعة.
وبعد:
وأنتم في حال التوديع وأخذ العِبرة اتقوا اللهَ ربكم -رحمكم الله-، وتذكَّروا أحوالَ الأكباد الجائعة، والنساء العارية، والنساء المُترمِّلة، والأطفال الضائعة.
استشعِروا حالَ إخوانكم من ذوِي المسربة والنكبات والمُهجَّرين والمُشرَّدين، وتفاعَلوا مع ذوي الضعفِ والحاجةِ والمساكين، وكونوا ممن (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 7- 9].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال -وهو الصادقُ في قِيلِه- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
التعليقات