عناصر الخطبة
1/حقيقة "لا حول و لا قوة إلا بالله" ومضمونها ومنافعهااقتباس
كَمْ ظَلَّ عَبْدٌ حائِراً، فِيْ كُرْبَةٍ قَدْ أَثْقَلَتْه، في ضِيْقِ أَمْرٍ جَاثِمٍ، في غُمَّةٍ قَدْ آلَمَتْه. عَسُرٌ تَرَبَّعَ في الفُؤَادِ ومَدَّدَا، وأَقامَ قَسْراً في الضَّمِيْرِ وأَسْنَدا، عُسْرٌ يَلُفُّ النَّفسَ أَمْثالَ الجِبال. عُسْرٌ كَلَيْلٍ مُظْلِمٍ بالبُؤْسِ طَال. كَمْ باتَ عَبْدٌ شاكِياً، مُتَوَجِعاً أَو باكِياً، أَعْيَتْهُ...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أَيُّها المُسْلِمُون: يَظَلُ المرءُ ضَعِيْفاً، يَنْكَسِرُ لِلفقْرِ، ويَنْكِسِفُ لِلعَجْزٍ، ويَنْثَنِيْ للأَلَم. تَحِلُّ بِه المَصائبُ، وتَنْزِلُ بِه الشَّدائِدُ، وتُثْقِلُهُ الهُمُوم. يَظَلُّ المرءُ ضَعِيفاً، لا يَقُوى عَلى تَحْقِيْقِ مَرْغُوبٍ، وَلا عَلى دَفْعِ مَرْهُوبٍ، ولا على رَدِّ مَظْلَمَةٍ، ولا عَلى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، ولا عَلى دَفْعِ سَقَم. يَظَلُّ المرءُ ضَعِيفاً لا يَقْوَى عَلى أَمْرٍ، مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ اللهِ حَوْلٌ وقُوَّةٌ ومَدَدٌ. وطَلَبُ العَوْنِ مِن اللهِ، مَصْدَرُ كُلِّ قُوَّةٍ، وأَساسُ كُلِّ قُدْرَةٍ، ومُتَّكَأُ كُلِّ نُهُوْض.
كُلُّ قَوِيٍّ مِن الخَلْقِ إِنَّما مَدُدُ قُوَّتِهِ مِنَ الله، وكُلُّ غَنِيٍّ مِن الخَلْقِ إِنَّما مَدَدُ غِناهُ مِن الله، وكُلُّ مُتَوَّجٍ بالمُلْكِ فاللهُ تَوَّجَه؛ (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ).
كُلُّ قُوَّةٍ دُوْنَ قُوَّةِ اللهِ مَرَدُّها إِلى ضَعْفٍ. وكُلُّ غِنَى دُونَ غِنَى اللهِ مَرَدُّهُ إِلى فَقْرٍ. وكُلُّ مُلْكٍ دُونَ مُلْكِ اللهِ مَرَدُّهُ إلى زَوال؛ (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
واللهُ وَحْدَهُ، هُو المُتَفَرِّدُ بالقُوَّةِ والقُدْرَةِ والعِزَّةِ والقَهْرِ والمُلْكِ والجَبَرُوت. هُوَ وَحْدَهُ الواحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الحَيُّ الذي لا يَمَوت. غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وكُلُّ أَحِدٍ إِليهِ مُفْتَقِرٌ؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
مَنْ أَدْرَكَ حَقِيْقَةَ ضَعْفِهِ في كُلِّ حَالٍ، لَمْ يَغْتَرَّ بِعافِيَةٍ ولَمْ يطْغَ لِغِنَى، ولَمْ يتَكَبَّرْ لِمَنْزِلَةٍ ولَمْ يفْخَرْ بِكَسْب. وإِنَّما يَعْتَرِفُ لِرَبِهِ بالفَضْلِ، ويُقِرُّ لَهُ بالنِّعْمَة. ويَشْهَدُ لَهُ بالإِحْسان. ويَشْهَدُ أَنَّ لا حَوْلَ لَهُ ولا قُوَّةَ إِلا بالله (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ).
(لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا بالله)، لا حَرَكَةَ ولا حِيْلَةَ ولا قُوَّةَ ولا تَحَوُّلَ مِنْ حالٍ إِلى حالٍ إِلا بالله. بِعَوْنِهِ وقُوَّتِهِ وتَقْدِيْرِهِ وتَدْبِيْرِه. فَلَوْلا اللهُ ما نَطَقَ لِسانٌ، ولَوْلا اللهُ مَا تَحَرَّكَ بَنَانٌ، ولَوْلا اللهُ مَا مُدَّتْ يَدٌ، ولَوْلا اللهُ مَا خَطَتْ قَدَمٌ، ولَوْلا اللهُ ما قَامَ جَسَدْ، ولَوْلا اللهُ ما كانَ كائِنٌ في السَّماواتِ ولا في الأَرْض.
(لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا بالله) كَلِمَةٌ يَتَبَرَّأُ بِها العَبْدُ مِنْ حَوْلِهِ وقُوَّتِه. ويَعْتَمِدُ بِها عَلى رَبِهِ في كُلِّ حَال.
(لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا بالله،) لا يَتَحَوَّلُ العَبْدُ مِنْ حَالٍ تُؤْلِمُهُ إِلى حَالٍ تَسُرُّهُ، ولا يَقْوَى عَلى جَلْبِ أَمْرٍ يَنْفَعُهُ ولا عَلى دَفْعٍ أَمْرٍ يَضُرُّهُ، إِلا بالله.
(لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا بالله) كَلِمَةٌ تَمْتَزِجُ بالقَلْبِ، فَيَفْقَهُ لَفْظَها ومَعْناها، ويُؤْمِنُ بِمَدْلُولِها ويُوقِنُ بِمُقْتَضَاها. فَتَخْرُجُ هَذِهِ الكَلِمَةُ مِنْ أَعْماقِ قَلْبٍ مُتَضَرِع.
(لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا بالله) تَتَزحزَحُ أَمامَها كُلُّ مُعْضِلَةٍ، وتَتَهاوَى أَمامَها كُلُّ نَازِلَةٍ، ويَتَحَقَّقُ بِها كُلُّ مُبْتَغَىً. ويَتَيَسَّرُ بِها كُلُّ عَسِيْر.
(لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا بالله) كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ، وَمَنْ لَزِمَ الكَنْزَ غَنِم. عَنْ أَبِيْ مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قالَ لِيْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "ألَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ؟" قُلتُ: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ فَدَاكَ أَبِيْ وَأُمِّي قالَ: "لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ"(متفق عليه).
(لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ) مَا وَقَفَ مَهْمُومٌ يُناجِي بِها رَبَّهُ إِلا نَجا؛ قَالَ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله-: "وَأَمَّا تَأْثِيرُ "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" فِي دَفْعِ هَذَا الدَّاءِ -يَعْنِيْ دَاءَ الهَمِّ والغَمّ- فَلِمَا فِيهَا مِنْ كَمَالِ التَّفْوِيضِ وَالتَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِهِ سُبحانَه، وَتَسْلِيمِ الْأَمْرِ كُلِّهِ لَهُ، وَعَدَمِ مُنَازَعَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ،. وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. فَلَا يَقُومُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ شَيْءٌ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: إِنَّهُ مَا يَنْزِلُ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَيْهَا إِلَّا بِلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَلَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي طَرْدِ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ".
(لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ) بِها يُعانُ العَبْدُ على طَاعَةِ اللهِ؛ فإِذا قالَ المُؤَذِنُ: (حَيَّ على الصَّلاةِ) شُرِعَ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ يَقُولَ: (لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا باللهِ)، وإِذا قالَ المُؤَذِنُ: (حَيَّ على الفَلاح) شُرِعَ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ يَقُولَ: (لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا باللهِ)؛ أَيْ: لا أَتَحَوَّلُ إِلى الطَّاعةِ ولا أَقْوى على إِجابَةِ الدَاعِي إِلا بِعَوْنِ الله.
(لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ) كَلِمَةُ اسْتِعانَةٍ، يُسْتعانُ بِها الله. تُقالُ عَندَ طَلَبِ العَونِ، لا تُقالُ عِندَ حُلُولِ المَصائِبِ. عندَ حُلُولِ المُصابِ يُشْرَعُ قُولُ: (إِنا للهِ وإِنا إِليه راجعون)؛ قَالَ شَيْخُ الإِسلامُ بنُ تَيْمِيَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ، كَلِمَةُ اسْتِعَانَةٍ لا كَلِمَةُ اسْتِرْجَاع، وَكَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ يَقُوْلُها عِنْدَ المصَائِبِ بِمَنْزِلَةِ الاسْتِرْجَاع، وَيَقُوْلُها جَزَعاً لا صَبْراً" ا.هـ
(لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ) يُفْزَعُ بِها إِلى اللهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، ويُفْزَعُ بِها إِلى اللهِ عِنْدَ اشْتِدادِ الأَلَمِ، ويُفْزَعُ بِها إِلى اللهِ عِنْدَ حُلُولِ السَّقَمِ، ويُفْزَعُ بِها إِلى اللهِ عِنْدَ كُلِّ سَعْيٍ وعِنْدَ كُلِّ عَمَل. وَيُتَعَبَّدُ اللهُ بِها في كُلِّ حال.
(لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ) دِرْعٌ حَصِيْنٌ، وعِمادٌ مَتِيْنٌ، ومأَوىً آمِنٌ، ومَلاذٌ صَلْب. قالَ لُوطٌ عليهِ السلامُ لِقَوْمِهِ حِينَ أَعياهُ عِنادُهُم، وآلَمَهُ عُدوانُهُم (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ)؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-: "يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لقَدْ كانَ يَأْوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ"(رواه البخاري ومسلم)، لَقْدْ كانَ يَأَوي إِلى رَبٍّ يَفْعَلُ ما يَشَاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيْد. لذلكَ أَجابَتْهُ الملائِكَةُ بأَمْرِ اللهِ؛ (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ* فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).
(لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ).
اشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِماً *** فإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خانَتْكَ أَركانُ
بارك الله لي ولكم بالقرآنِ العظيم،
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً؛ أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: كَمْ ظَلَّ عَبْدٌ حائِراً، فِيْ كُرْبَةٍ قَدْ أَثْقَلَتْه، في ضِيْقِ أَمْرٍ جَاثِمٍ، في غُمَّةٍ قَدْ آلَمَتْه. عَسُرٌ تَرَبَّعَ في الفُؤَادِ ومَدَّدَا، وأَقامَ قَسْراً في الضَّمِيْرِ وأَسْنَدا، عُسْرٌ يَلُفُّ النَّفسَ أَمْثالَ الجِبال. عُسْرٌ كَلَيْلٍ مُظْلِمٍ بالبُؤْسِ طَال. كَمْ باتَ عَبْدٌ شاكِياً، مُتَوَجِعاً أَو باكِياً، أَعْيَتْهُ أَقْفالٌ ثِقال. فَـأَفاقَ يَوماً مُدْرِكا، أَيْنَ المُجِيْبُ إِذا سَأَل؟! أَيْن المُغِيْثُ لِكُرْبَتِيْ؟ أَيْنَ المُرَجَّى لِلْجَلَل؟ أَيْنَ الوَلِيُّ الأَكْرَمُ؟ أَيْنُ الملِيْكُ الأَعْظَمُ؟ أَيْنَ اللطِيْفُ الأَرْحَمُ؟
سَجَدَ الجَبِيْنُ وقَلْبُهُ خَفَّاقٌ، وشَكَا المُصابَ ودَمْعُهُ رَقْراقُ. وتَوَسَّلَ الرحمَنَ، احْلُلْ كُرْبَتِيْ، وأَعِنُ عُبِيْدكَ هَدَّهُ الإِمْلاقُ. حَوْلِي ضَعِيْفٌ يا إِلهي قَوِّنِي. لا حَوْلَ لِيْ إِلا بحَوْلِ إِلهي. فَتَفَتَّقَتْ تِلْكَ الهُمُومُ وأَدْبَرَتْ وأَضاءَ فَجْرٌ بالضِيا بَرَّاقُ.
(لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ) بِلُزُومِها يُعانُ العَبْدُ عَلى التَّخَلُّصِ مِنْ آفاتِ تُلازِمُه، ومِنْ شُبُهاتٍ تَغَلْغَلَتْ في النَفْسِ عُرُوقُها، ومِنْ شَهَواتٍ اسْتَعَرَتْ في النَّفْسِ نِيْرانُها؛ سُئِلَ شَيْخُ الإِسلامُ بنُ تَيْمِيَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- سُؤَالاً، مِنْ سَائِلٍ يَتَفَطَر قَلْبُهُ أَلَماً، لَعَجْزِهِ وضَعْفِهِ عَنْ التَّخَلُّصٍ مِنْ ذَنْبٍ باتَ يأَلَفُه فَلا يَقْوَى فِراقَه. فَقالَ يَسْأَل: مَا دَوَاءُ مَنْ تَحَكَّمَ فِيْهِ الدَّاءُ، وَمَا الاحْتِيَالُ فِيْمَنْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ الخَبَالُ، وَمَا العَمَلُ فِيْمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الكَسَلُ، وَمَا الطَّرِيْقُ إِلى التَّوْفِيْق، وَمَا الحِيْلَةُ فِيْمَنْ سَطَتْ عَلَيْهِ الحَيْرَةُ، إِنْ قَصَدَ التَّوَجُّهَ إِلى اللهِ مَنَعَهُ هَوَاهُ، وإِنْ أَرَادَ يَشْتَغِل لَمْ يُطَاوِعْهُ الفَشَلْ؟
فَأَجابَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "دَوَاؤُهُ الالْتِجَاءُ إِلى اللهِ -تَعَالَى-، وَدَوَامُ التَّضَرُّعِ إِلى اللهِ سُبْحَانَه، والدُّعَاءُ، بِأَنْ يَتَعَلَّمَ الأَدْعِيَةِ المأَثُوْرَةِ، وَيَتَوَخَّى الدُّعَاءَ في مَظَانِّ الإِجَابَةِ، مِثْلِ آخِرِ اللَّيْلِ، وَأَوْقَاتِ الأَذَانِ والإِقَامَةِ، وَفِيْ سُجُوْدِهِ، وفي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ. وَيَضُمُّ إِلى ذَلِكَ الاسْتِغْفَارَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ اسْتَغْفَرَ اللهَ ثُمَّ تَابَ إِلَيْهِ مَتَّعَهُ مَتَاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى. وَلْيَتَّخِذْ وِرْداً مِنَ الأَذْكارِ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَوَقْتَ النَّوْمِ، وَلْيَصْبِرْ عَلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ المَوَانِعِ والصَّوَارِفِ، فَإِنَّهُ لا يَلْبَثُ أَنْ يُؤَيِّدَهُ اللهُ بِرُوْحٍ مِنْهُ وَيَكْتُبُ الإِيْمَانَ في قَلْبِهِ. وَلْيَحْرِصْ عَلَى إِكْمَالِ الفَرَائِضِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ بِبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ، فَإِنَّهَا عَمُوْدُ الدِّيْن. وَلْتَكُنْ هِجِّيرَاه -أَيْ أَكْثَرُ دُعائِهِ- (لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيْم).
فَإِنَّهُ بِها تُحْمَلُ الأَثْقالُ، وتُكابَدُ الأَهْوالُ، ويُنالُ رَفِيْعُ الأَحْوال. وَلا يَسْأَمُ مِنَ الدُّعَاءِ والطَّلَبِ، فَإِنَّ العَبْدَ يُسْتَجَابُ لَهُ مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُوْلُ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِيْ. وَلْيَعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرَا. وَلَمْ يَنَلْ أَحَدٌ شَيْئاً مِنْ جَسِيْمِ الخَيْرِ إِلا بِالصَّبْر. وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْن" ا.هـ
(لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ) بِها تُحْمَلُ الأَثْقالُ، وتُكابَدُ الأَهْوالُ، ويُنالُ رَفِيْعُ الأَحْوال. اللهمَّ إنه لا حول لنا ولا قوة إِلا بك، كُن لنا ولياً ونصيراً،
التعليقات