عناصر الخطبة
1/الغضب مفتاح كل شر 2/حقيقة الغضب والتحذير منه 3/مجاهدة النفس على ترك الغضب 4/الوسائل المعينة على ترك الغضب.اقتباس
فإنَّ جِماعَ الشرِّ في الغضب، وهو مصدر كلِّ بليّة، كم مُزِّقت به من صِلات!، وقُطِّعت به من أرحام!، وتفكَّكَتْ بسببه شراكات!, وأُشعلت به عداوات!، وارتُكبت بسببه تصرفات وحماقات يندم عليها صاحِبُها ساعة لا ينفع الندم!.
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: فإنَّ جِماعَ الشرِّ في الغضب، وهو مصدر كلِّ بليّة، كم مُزِّقت به من صِلات!، وقُطِّعت به من أرحام!، وتفكَّكَتْ بسببه شراكات!, وأُشعلت به عداوات!، وارتُكبت بسببه تصرفات وحماقات يندم عليها صاحِبُها ساعة لا ينفع الندم.
وحقيقة الغضب: غليان في القلب، وهيجان في المشاعر، يسري في النفس، فترى صاحِبَه مُحْمَرَّ الوجه، تقدح في عينيه الشَّرَر، فبَعْدَ أنْ كان هادئاً مُتَّزناً، إذا به يتحوَّل إلى بُركانٍ ثائر يقذف حمَمَه في كلِّ اتِّجاه؛ لذا جاءت وصية النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بترك الغضب؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَوْصِنِي, قَالَ: "لاَ تَغْضَبْ"؛ فَرَدَّدَ مِرَارًا, قَالَ: "لاَ تَغْضَبْ"(رواه البخاري).
وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَخْبِرْنِي بِكَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ, وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى, قَالَ: "اجْتَنِبِ الْغَضَبَ"، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: "اجْتَنِبِ الْغَضَبَ" (رواه أحمد). وفي رواية: قال رجلٌ: يا رسول الله! أوْصِنِي. قال: "لا تَغْضَبْ"، قال: فَفَكَّرْتُ حينَ قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ما قالَهُ، فإذا الغَضَبُ يجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّه. (رواه أحمد).
عباد الله: إنَّ الغضبَ مِفتاحُ كلِّ شر. قيل لابن المبارك: اجمعْ لنا الخُلُقَ في كلمة؟ قال: "تَرْكُ الغضب". لذا أمَرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُق؛ من الحلم, والحياء, والتواضع, والاحتمال, وكفِّ الأذى, والصَّفح, والعفو, وكظم الغيظ, والطلاقة, والبِشر, ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة, فإنَّ النفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق, وصارت لها عادة؛ أوجَبَ لها ذلك دفعَ الغضب عند حصول أسبابه.
ولو اجتنب الناسُ الغضبَ وأسبابَه -عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم- لَمَا وقعوا في المحذور؛ فكم من سجينٍ بسبب غضب!, وكم من طلاقٍ وَقَعَ بسبب غضب!, وكم من قطيعةِ رَحِمٍ سببها الغضب!, وكم أُزْهِقَتْ أرواح, ووقعت مصائب وكوارث بسبب الغضب!
فينبغي على المرء أنْ يُجاهِد نفسَه على ترك الغضب؛ فإنَّ الغضبَ إذا مَلَكَ ابنَ آدمَ كان الآمِرَ والناهِيَ له, وتأمَّل قولَه -تعالى-: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ)[الأعراف: 154], أي: لَمَّا سَكَنَ غضبُه، وتراجعت نفسُه، وعَرَفَ ما هو فيه؛ اشتغل بأهمِّ الأشياء عنده، فأخذ الألواحَ التي ألقاها، وهي ألواحٌ عظيمةُ المقدار. وقال -تعالى-: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى: 37], وقال -سبحانه-: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 134]. فمَنْ جاهَدَ نفسَه اندفَعَ عنه شرُّ الغَضَب.
ومِمَّا يدفع الغضبَ ويُسكِّنه: التَّعوذُ بالله -تعالى- من الشيطان الرجيم, فعن سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا, قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ, فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ, لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ", فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ (رواه البخاري ومسلم).
والسُّكوتُ عِلاجٌ ناجِعٌ للغضب؛ فعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-؛ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ"، قالها ثلاثاً(رواه أحمد)؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه -من السِّباب وغيره- ما يندم عليه بعد زوال الغضب. قال مورِّقٌ العجلي -رحمه الله-: "ما امتلأتُ غيظاً قطُّ, ولا تكلَّمتُ في عضبٍ قطُّ, بما أندمُ عليه إذا رضيتُ".
وكَبْحُ الغضبِ يحتاج إلى جهادٍ وقوةٍ, وتَحَكُّمٍ في الذَّات؛ يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ"(رواه البخاري ومسلم)؛ فالشديد القوي هو الذي يَصْرَع نفسَه إذا صارعته وغَضِب, مَلَكَها وتَحَكَّم فيها، فهذه هي القوة الحقيقة؛ قوةٌ داخليةٌ معنوية يتغلب بها الإنسان على نفسِه وهواه, ووساوس الشيطان. قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "قد أَفْلح مَنْ عُصِم من الهوى، والغضب، والطمع".
والأفضلُ لِمَنْ كان غاضباً أنْ يجلس, فإنْ ذَهَبَ عنه الغضب؛ وإلاَّ فليضجع. قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ, فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ؛ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ"(رواه أحمد).
ومِمَّا يُكافأ به مَنْ كَظَمَ غيظَه وغضبَه: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ"(رواه أبو داود). وكَظْمُ الغيظِ والغضبِ فيه أجرٌ عظيم؛ قال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ"(رواه ابن ماجه).
قال ميمون بن مِهران: "جاء رجلٌ إلى سلمان، فقال: يا أبا عبدِ الله! أوصني، قال: لا تغضبْ، قال: أمرتني أنْ لا أغضب, وإنَّه ليغشاني ما لا أملِكُ، قال: فإنْ غضبتَ، فامْلِكْ لِسانَك ويَدَك".
ومن صِفات المؤمن: أنه إذا ذُكِّرَ بالله عند الغضب تذكَّر, وعاد إلى الحق, ولم يتجاوزه. وإذا صدر منه قول أو فعل حال غضبه؛ فَلْيَعُدْ إلى الصواب, وإذا كان مُغضباً فوقع الخطأ منه تِجاه الآخرين؛ فَلْيُبادِرْ إلى الاعتذار, أو لِيَدْعُو لهم بظهر الغيب؛ قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ, أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ, وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ, فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ؛ أَنْ تَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا, وَزَكَاةً, وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(رواه مسلم).
والتَّغافل من الأمور المُهمة في دفع الغَضَب, وتفويتِ الفرصة على الشيطان؛ عن محمَّد بن عبدالله الخزاعي قال: "سمعتُ عثمانَ بن زائدة يقولُ: العافيةُ عَشَرةُ أَجزاءٍ؛ تسعةٌ منها في التَّغافُل، قال: فَحدَّثتُ به أحمدَ بنَ حنبلٍ، فقال: العافِيةُ عَشَرةُ أَجزاءٍ؛ كُلُّها في التَّغافُل".
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أيها المسلمون: يجب على الإنسان ألاَّ يُخرجه الغضبُ عن حَدِّ الاعتدال في القول والفعل؛ ومن دعاء النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا" (رواه أحمد). قال ابن رجب -رحمه الله-: "وهذا عزيزٌ جدًّا، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سِوَى الحقِّ؛ سواء غَضِبَ أو رَضِي، فإنَّ أكثر الناس إذا غَضِبَ لا يتوقَّف فيما يقول".
واللائق بالمؤمن أن يقتدي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغضب؛ حيث كان لا يغضب لنفسِه, ولا يُقابل السيئةَ بالسيئة, ولكن يتجاوز, ويعفو, ويصفح, وكان لا ينتقم لنفسه, ولكنه كان أشدَّ الناسِ عضباً إذا انتُهِكتْ حُرماتُ الله, فإذا انتهكت حرماتُ الله؛ لم ينتقم لنفسه شيء.
والعاقل يَتَّقِي الغضبَ؛ لأنه يؤدِّي إلى المهالك: فعَنْ جُنْدَبٍ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ, وَإِنَّ اللَّهَ –تَعَالَى- قَالَ: "مَنْ ذَا الَّذِى يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"(رواه مسلم). قال ابن رجب -رحمه الله-: "فهذا غَضِبَ لله، ثم تكلَّم في حالِ غضبِه لله بما لا يَجوزُ، وحتَّمَ على الله بما لا يَعلم، فأحبطَ اللهُ عملَه، فكيف بِمَنْ تكلَّم في غضبِه لنفسِه، ومُتابعةِ هَواهُ بما لا يجوز؟".
وهناك أحوالٌ يُعذر فيها الإنسانُ حالَ غضبِه: كأنْ يكون مريضاً, أو كبيراً في السِّن, أو مُسافراً بعيداً عن أهله, أو صائماً اشتدَّ جوعُه وأُرهِق, فمِثْلُ هذه الأحوال تؤثر على طبيعة الإنسان -ولو كان بأصله ساكناً غيرَ غضوب- لكنْ تعرُّضُه لهذه الأحوال يُؤثر على تَصرُّفاته, ولكنه مُحاسَبٌ مُكلَّفٌ حال غضبه بأحكام الشريعة, إلاَّ في أحوالٍ مخصوصة؛ كمَنْ يُطلِّقُ حالَ الغضبِ الشديد, الذي يغلقُ عليه عقلَه, حتى لا يعلم ما يخرج من لسانه.
وصلوا وسلموا...
التعليقات