عناصر الخطبة
1/من مجالات إدخال السرور على الوالدين 2/الإحسان إلى الوالدين بعد المماتاقتباس
حديثُنا اليوم في مجالٍ من مجالاتِ الإحسانِ إلى الوالدين عظيم، إنّهُ “إدخالُ السرور عليهما“، والتسبّبُ في نفعِهِما حيَّينِ وميّتين، بأعمالٍ ومواقفَ تُثقلُ الميزان وتوجِبُ المغفِرَة والرّضوان...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
الاستفتاح بما تيسّر، ثم أما بعد: قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمَا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرَا) [الإسراء: 23-24]. وقال سبحانه: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].
معشر المؤمنين: رأيتُم كيفَ قرنَ ربُّ العِزّةِ الأمرَ بعبادته وحده لا شريكَ له، بوجوبِ الإحسانِ إلى الوالدين، وما ذلكَ إلاّ لبيانِ شَرَفِ الإحسانِ إليهما وأنّ إحسانَ عبادَةِ اللهِ والصّدقَ فيها يستوجِبُ ولا بُدّ الإحسانَ إلى أقربِ النّاسِ إليك والدَيك.
حديثُنا اليوم -معشر المؤمنين- في مجالٍ من مجالاتِ الإحسانِ إلى الوالدين عظيم، إنّهُ “إدخالُ السرور عليهما“، والتسبّبُ في نفعِهِما حيَّينِ وميّتين، بأعمالٍ ومواقفَ تُثقلُ الميزان وتوجِبُ المغفِرَة والرّضوان، فنسألُ الله التوفيقَ إلى ما يحبُّ ويرضَى، ونبدأُ في الخطبة الأولى بالوالدين الحيّين، وعلى كلّ واحدٍ منَّا أن يُحاسبَ نفسَه:
أيها الإخوةُ في الله: من أعظمِ ما يُدخلُ الفرحَ والسرورَ على قلوبِ الوالدين: تحقيقُ أمنيةِ الوالِدين بالنّجاحِ والفلاح.
فإنَّ ما يبذُلُهُ الوالدُ والوالِدَةُ من شبابِهِما ومالِهِما وأوقاتِهما وعرَقِهِما وكرامَتِهِما إنَّما هو في الحقيقة في سبيلِ تحقيقِكَ النجاحَ والتفوُّق، في سبيل أن يريَانِكَ أفضلَ منهما حالاً وأسعدَ وأريَح. وهاهنا وقفةُ محاسَبَة:
أنتَ حينما تُفسِدُ علاقتَكَ مع اللهِ إنَّما تقضِي على أمنيَةِ الوالدين في رؤيتكَ ناجحًا!.
أنتَ حينما تُخفقُ في تحقيق التفوُّق العِلمي والمدرسي ويتفوَّقُ عليكَ أولادُ الناس إنَّما تقضِي في الحقيقةِ على أمنيةِ والدَيكَ في رؤيتكَ ناجحًا!.
أنتِ حينما تبتسِمِين للسُّفَهاء، وتُقيمِين علاقاتٍ مع الجنسِ الآخَر، وتفرّطينَ في عرضِكِ المصون المحتَرم طلبًا للشهوةِ الرخيصَة إنَّما تقضينَ في الحقيقةِ على أمنيةِ والدَيكَ في رؤيتِكِ ناجحَةً كغيرِكِ من بناتِ الرّجال الشريفات!.
أنتَ حينما تتزوَّجُ خضراءَ الدّمَنِ -أعزّكُم الله- إيثارًا للجمالِ على الصلاح، وتفضيلاً للشهوةِ الرخيصَة الفانية، ثمّ تُنجِبُ منها الضّائِعينَ التافِهِين الذين لا يبعثُونَ المجدَ ولا يبنُونَ السؤدد؛ إنَّما تقضِي في الحقيقةِ على أمنيةِ والدَيكَ في رؤيتكَ ناجحًا! وهكذا في غير هذه النماذِج.
أيها الإخوةُ في الله: ومن أعظمِ ما يُدخلُ الفرحَ والسرورَ على قلوبِ الوالدين: الزيارَةُ والتفقُّد.
وهذا خاصٌّ بالولدِ المتزوّجِ الذي انفصَلَ بحياتِهِ عن الوالِدين؛ فليعلمَ من كان هذا حالُهُ أنَّ الوالدَين الكريمين يشتاقانِ له كبيرًا كما يشتاقانَ له صغيرًا، فإذا كان مداوِمًا على زيارتِهِما بالمعروف وتفقُّدِ أحوالِهِما وخِدمتِهِما والانبساطِ لهما وإرسالِ أولادِهِ لخدمتِهِما؛ أدخلَ عليهما السرورَ والسعادة ونالَ البركَة، بخلافِ الهاجِرِ لوالِدَيهِ المعرِضِ عنهما الأيّامَ الطويلة، ولنا في حديثِ الثلاثةِ الذين انطبقت عليهم الصخرةُ في الغارِ أكبر العظَة: قال أحدهم: ”اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار أرعى عليهم، فإذا أرحت حلبت فبدأت بوالدَيَّ فسقيتهما قبل بَنِي، وإني نأى بي ذات يومٍ الشَّجَرُ فلم آتِ حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما؛ فحلَبْتُ كما كنت أحلُبُ؛ فجئت بالحِلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصّبيَةَ قبلَهُمَا والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبَهم حتى طلع الفجر!؛ فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء“(صحيح الجامع: 2870).
أيها الإخوةُ في الله: ومن أعظمِ ما يُدخلُ الفرحَ والسرورَ على قلوبِ الوالدين: الإعانةُ الماليّةُ والهديّةُ المعبِّرَة والرّحلةُ السياحيّة.
فالوالِدَان يفرَحانِ بهذا أشدَّ الفَرح، بغضِّ النظَرِ عن القيمة المادّية للمال أو الهديّة أو الرّحلة والفُسحَة، وللأسف - معشر المؤمنين- كم من وَلَدٍ وبنت صارَ له راتبٌ أو مدخولٌ معتَبَر ما أعطَى منه والدَهُ ولا والِدَتَهُ شيئًا السّنينَ الطويلة!. وهما في الحقيقَةِ سببُ قُوّتِهِ ووظيفتِهِ ومالِه، قال -صلى الله عليه وسلم-: ”أنتَ ومالُكَ لأبيك “(رواه ابن ماجه).
وآخرُ لا يترُكُ مكانًا إلاّ وأخذَ إليه زوجته وأولادَه ولكنَّهُ ما أخذَ والِدَهُ يومًا في رحلةٍ إلى صديقٍ أو قريبٍ أو الريف أو غيرِه ممّا يعلمُ أنَّ الوالِدَ يحبُّهُ ويشتهيه، وخاصّةً الحج والعمرة:
في صحيح مسلم أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ”فهل من والديك أحد حي؟ “، قال: نعم، بل كلاهما، قال: ”فتبتغي الأجر من الله؟” قال: نعم، قال: “فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما “. وفي رواية: ”ففيهما فجاهد“(متفق عليه).
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
معشر المؤمنين: إذا كان هذا حالُ السرورِ والفرَح والمكافَأَةِ في الحياة؛ فكيف بحالِها بعد وفاةِ الوالدين وفراقِهِما الولَد؟! واللهِ من أشدّ المظاهر طعنًا في إحسان الوالدين ونسيانًا لجميلِهِما: نسيانُ الوالدين بعد الوفاة! سعد بن عبادة -رضي الله عنه- وهو من أوفى الصحابة لأمه في حياتها وبعد وفاتها - تموتُ أمُّهُ وهو غائبُ عنها فتتوقُ نفسُهُ إلى الصَّدقة عليها، عساهُ يُرجعُ ولو جُزْءًا يسيرًا من حقِّها عليه، فيسألُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: يا رسول الله إن أم سعد ماتت وأنا غائبٌ عنها؛ فأي الصدقة أفضل؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: “الماء، فحفر بئراً، وقال: “هذه لأم سعد“(رواه أبو داود).
بل وفي البخاري يتصدَّقُ هذا الصحابيُّ الجليلُ على أمَّه ببستان كامل لله -عز وجل- وفاءً لحقها: قال -رضي الله عنه -: ”فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها”(رواه البخاري). وحائطُ المخراف بستانٌ مشهورٌ في المدينة يبلغُ ثمنهُ مئات الملايين. كل هذه التصرُّفات تُقِرُّ أعين الوالِدَين بعد وفاتِهِما. قال مجاهدٌ -رحمه الله-: ”إنَّ المؤمِنَ يُبشَّرُ بصلاحِ ولَدِهِ من بعدِهِ لتَقَرَّ عينُه“.
فاحذر -أخي في الله - أن تكون ممَّن ينسى والديه بعد وفاتهما؛ فلا يفكّرُ إلا في نجاة نفسه -إن فكَّر- فبإمكانك إن كنتَ من الموفَّقين أن تُقِرَّ أعيُنَهُما وتَرفعَ درجاتِهِما عندَ اللهِ بسعيِكَ لهما بعد الوفاة، قال -صلى الله عليه وسلم-: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له”(رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: “ترفع للميت بعد موته درجته، فيقول أي ربي أي شيء هذا؟ فيقول له: ولدك استغفر لك”(رواه ابن ماجه).
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات