عناصر الخطبة
1/شدة حرارة الشمس يوم القيامة 2/الاتقاء من حرارة شمس الدنيا بالظل 3/وسائل الحصول على الظل يوم القيامة 4/توضيح مفهوم حديث: "يوم لا ظل إلا ظله" 5/الإكثار والتنوع في الأعمال الصالحةاقتباس
أيها المباركون: الإنسان بطبعه يحاول أن يتقي شمس الدنيا الحارقة بوسائل عدة يكون العنصر المشترك فيها: الظل، فنعمة الظل التي نستمتع بها، ويغفل الكثير عن التفكر فيها هي نعمة من النعم التي ينبغي شكرها، فما يستوي: (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ)[فاطر: 21]، ومع سعيك لتكون في الظل في الدنيا لابد لك من الأهم وهو البحث عن الظل بعد موتك، يوم ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد بالعزة والبقاء والعظمة والكبرياء، له الكمال المطلق في الذات والصفات والأسماء، أحمده سبحانه وأشكره على تتابع النعم والعطاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مزيل الكرب، وكاشف اللواء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله الأتقياء وصحابته الأوفياء، وسلم تسليمًا كثيرًا ما دامت الأرض والسماء.
أما بعد: فاتقوا الله -معاشر المؤمنين- حق التقوى، واعلموا أن الأعمار محدودة، والأنفاس معدودة: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[البقرة: 281].
ثم -يا أيها المباركون-: الشمس بحجمها الهائل وحرارتها المحرقة ولهبها المتوهج أين تذهب إذا غربت؟ استمع لجواب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد روى البخاري عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: "كنت مع رسول الله في المسجد حين غربت الشمس فقال: "يا أبا ذر أتدري أين تذهب الشمس؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(رواه البخاري).
أيها المباركون: الإنسان بطبعه يحاول أن يتقي شمس الدنيا الحارقة بوسائل عدة يكون العنصر المشترك فيها: الظل، يقول الله: (أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ)[النحل: 48]، وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا)[الفرقان: 45-46]، فنعمة الظل التي نستمتع بها، ويغفل الكثير عن التفكر فيها هي نعمة من النعم التي ينبغي شكرها، فما يستوي: (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ)[فاطر: 21]، ومع سعيك لتكون في الظل في الدنيا لابد لك من الأهم وهو البحث عن الظل بعد موتك، يوم تدني "الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا".
فيا من لا يصبر على وقفةٍ يسيرةٍ في حرِّ الظهيرة كيف بك إذا دنت الشمس من رؤوس الخلق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟
لا شك أنك حينها ستبحث عن ظل يقيك ذلك الحر؛ ففي القبر أولاً لابد لك من إعداد العدة لإبرادها من الحر، يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته"(حسنه الألباني)، وروى الإمام أحمد وابن خزيمة وصححه الألباني عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصل بين الناس أو قال حتى يُحكم بين الناس".
في ظل صدقته، لا يشترط أن تكون غنياً، فكلنا يملك ريالاً، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" أي ولو بمقدار شيء يسير، ولو أن ترى إنساناً يكدح في هذا الحر اللهيب ثم تشتري له بنصف ريال ماء باردا مطبقاً؛ لحديث: "أفضل الصدقة سقي الماء"(صححه الألباني).
ومما يرشد له للحصول على الظل يوم القيامة: إنظار المعسر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله"(رواه الترمذي).
ومما يُرشد له للحصول على الظل: التحاب في الله -عز وجل- وليس لأجل مصلحة دنيوية؛ ففي الحديث القدسي: "يقول الله -تعالى- يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي اليوم أظِلُّهم في ظلِّي يوم لا ظل إلا ظلي؟"(رواه الإمام مسلم).
ومما يرشد له للحصول على الظل يوم القيامة: العناية بالقرآن، والعمل به، ففي الحديث: "يأتي القرآنُ وأهلهُ الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمُه سورةُ البقرة وآلُ عمران يأتيان كأنهما غَمامَتان سَوداوان، أو كأنهما ظُلَّتان من طَيرٍ صَوَافَّ يجادلان عن صاحبهما"(رواه مسلم).
ومما يُرشَد له للحصول على الظل يوم القيامة قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفًا"(رواه النسائي بإسناد صحيح).
ومما يُرشد له للحصول على الظل يوم القيامة تطبيق حديث: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله -عز وجل-، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: "إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"(رواه البخاري ومسلم).
ومما يُرشد له للوقاية من حر جهنم: المداومة على ما كان من دعاءه صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حرِّ جهنم"(رواه النسائي بإسناد صحيح).
بارك الله فيما قلنا وسمعنا...
الخطبة الثانية:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].
ثم -يا أيها الفضلاء-: هنا مسألة يا كرام نبه عليها الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-، وهو أنه قد يظن الظان حينما يسمع في الأحاديث قوله: "يوم لا ظل إلا ظله" أنه ظل الرب -عز وجل-، وهذا ظن خاطئ؛ لأن الناس في الأرض، ويستظلون عن الشمس، ويلزم من هذا الفهم أن الشمس فوق الله، وهذا شيء مستحيل؛ لأن الله ثبت له العلو المطلق، ولكن المراد ظل يخلقه الله يُظلل فيه من يستحقون الظل، وإنما أضافه الله لنفسه؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يظلل بفعل مخلوق، فالله -سبحانه- القادر على كل شيء.
وفي الختام -يا كرام-: إذا رأيت ظلاً أعجبك فتذكر ظلال الجنة الواسعة؛ كما قال سبحانه: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ)[المرسلات: 41]، وقال: (وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ)[الواقعة: 30]، وقال: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً)[النساء: 57].
فيا أخيّ الفاضل: لا بد لك من الإكثار والتنوعِ في الأعمال الصالحة ليكون لك واقيا بإذن الله، وطريقا للجنة، التي يمتاز المؤمنون فيها بأنهم: (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا)[الإنسان: 13]، ولا يُخذلنك مخذل، ويقول: لا تفعل هذا العملَ الصالح في هذا الحر؛ كما قال الله -تعالى- في سورة التوبة حكاية عن المنافقين: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)[التوبة: 81].
اللهم إن أجسادنا على النار لا تقوى، اللهم فأجرنا منها يا رحمن يا رحيم، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار.
اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، اللهم وارزقنا الجنة، ويسر لنا العمل الذي يقرب لها، وأجرنا يا ربنا من النار، وأجرنا من العمل الذي يقرب إليها.
اللهم يا كريم متعنا بما أنعمت علينا، وزدنا يا ربنا نعيما وسرورا، ووفقنا يا ربنا لمزيد عمل وشكر إنك على ذلك قدير.
اللهم إنا نسألك أن تغفر ذنبنا، وأن تجمع على الحق كلمتنا، وأن تتقبل توبتنا، يا تواب يا رحيم.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
التعليقات