الخُطْبَة الأُولَى:

الحمدُ للهِ الذي أنعمَ علينا بتيسيرِ الصيامِ والقيامِ، وجعلَ ثوابَ مَن فعلَ ذلك تكفيرَ الآثامِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ذو الجلالِ والإكرامِ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أفضلُ من صلَى وزكَى وصامَ. صلى اللهُ وسلمَ عليه ما تعاقبتِ الأيامُ.

أما بعدُ: فما الجوابُ عن هذا السؤالِ المهمِ: كيف أُدركُ ليلةَ القدرِ، وأفوزُ فيها بجزيلِ الأجرِ؟ كيفَ أُحصلُ الجائزةَ الكبرَى جائزةَ "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"؟

فيُقالُ: الأمرُ يسيرٌ على من يسرهُ اللهُ عليهِ، بأن تحافظَ على الصلواتِ المفروضاتِ أولاً، ثم تواظبَ على تراويحِ وقيامِ ليالي العشرِ، حتى تُوترَ مع إمامِك، فبهذا تكونُ محققًا لقولِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وَ "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

فهما فَضْلانِ عظيمانِ مستقلانِ: قيامُ رمضانَ وقيامُ ليلةِ القدرِ. قال العلماءُ: قِيَامُ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ سَبَبٌ لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَقِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ سَبَبٌ لِلْغُفْرَانِ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ غَيْرَهَا.

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر: 3]؛ يا اللهُ! ما أعظمَ كرمَ اللهِ! ليلةٌ تُعادلُ أكثرَ من ثلاثٍ وثمانينَ سنةً. لكنْ لنَقُمها إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا: أيْ تَصْدِيقًا بِالأَمْرِ، رَاجِيًا جَزِيلَ الأَجْرِ، بِأَنْ يَقُومَهَا رَغْبَةً فِي ثَوَابِهَا طَيِّبَةً نَفْسُهُ بِذَلِكَ غَيْرَ مُسْتَثْقِلٍ لِقِيَامِهَا وَلَا مُسْتَطِيلٍ لِأَيَّامِهَا.

وأهمُ من قيامِ رمضانَ: المحافظةُ على الصلواتِ المكتوباتِ، فقد رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ  -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ فَقَدْ قَامَ رَمَضَانَ".

وقَالَ التَّابِعِيُّ سَعِيدُ بْنَ الْمُسَيِّبِ: "مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا".

وفضلُ اللهِ واسعٌ قد ينالُه غيرُ هؤلاءِ، فعنِ التابعيِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ َأنه قيلَ له: أرأيتَ النفساءَ والحائضَ والنائمَ والمسافرَ؛ هل لهم في ليلةِ القدرِ نصيبٌ؟ قالَ: نعم؛ كلُ مَن تقبَّل اللهُ عملَه سيُعطِيه نصيبَه من ليلةِ القدرِ لا يُخيِّبُه أبداً.

فلنملأ قلوبَنا رجاءً، ولنؤمِّلْ من ربٍ كريمٍ خيرًا أنه كفَّر ذنوبَنا الصغائرَ السالفةَ السابقةَ، لكنِ الشأنُ في اجتنابِ الكبائرِ والتوبةِ منها.

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53]؛ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَقْنَطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَلَا أَنْ يُقَنِّطَ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَلَا إِنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُقَنِّطُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَا يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَلَا يُرَخِّصُ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ".

فإن زللتَ بسيئةٍ فـ"أَتْبِعِ السَّيِئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا"، واستغفر ربَك وتُبْ إليه يغفرْ لكَ ولا يُبالي؛ قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: "يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلاَ أُبَالِي". وقَالَ: "فَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فَاسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ وَلاَ أُبَالِي".

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله وحدَه، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَ بعدَه، وبعدُ:

فيا أيُها الصائمونَ: من كرمِ ربِنا ورحمتِه بنا أنْ شرعَ لنا في ختامِ هذا الشهرِ عباداتٍ جليلةً يزدادُ بها إيمانُنا، ونُكملُ بها ما نقصَ من صيامِنا، إنها ثلاثةُ أشياءَ مكفرةٍ ومكملةٍ: زكاةُ الفطرِ وصلاةُ العيدِ وصيامُ الستِ من شوالٍ.

فأما زكاةُ الفطرِ فهيَ كما قالَ وكيعٌ -رحمهُ اللهُ-: كسجدتيِ السهوِ للصلاةِ، تجبرُ نقصانَ الصومِ كما يَجبرُ السجودُ نقصانَ الصلاةِ. ومقدارُها ثلاثةُ كيلو جرامات من الأرزِ أو القمحِ أو غيرِه.

والأفضلُ أن يفرقَ الفطرةَ بنفسهِ بين صلاةِ فجرِ العيدِ وصلاةِ العيدِ، ومَن أداها قبلَ العيدِ بيومٍ أو يومين فلا حرجَ.

ويجبُ إخراجُها عن نفسِه وعمن تلزمُه نفقتُه، إذا لم يستطيعُوا إخراجَها عن أنفسِهم، فإن استطاعوا فالأَولى أن يُخرِجوها عن أنفسِهم.

والعاملُ الذي في كفالتِك لا يجبُ عليك إخراجُها عنه، لكن لو تبرعتَ عنه فلا بأسَ، ويلزمُك إعلامُه لينويَها. وكثيرٌ من العمالِ الحِرفيين فقراءُ، فأعطِهم إذا غلبَ على الظنِ استحقاقُهم. وإعطاؤُها لأقاربِك المساكينِ أفضلُ.

ويجوزُ أن تعطيَ الفقيرَ الواحدَ فطرتينِ فأكثرَ. ويجوزُ للفقيرِ أن يُخِرجَها عن نفسِه، أو يبيعَها؛ لأنه مَلَكها.

وأما شهودُ صلاةِ العيدِ مع المسلمينَ "فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَالنَّاسُ يَجْتَمِعُونَ لَهَا أَعْظَمَ مِنْ الْجُمُعَةِ". ومِن أهلِ العلمِ مَن يَرى وجوبَها؛ لأن النساءَ أُمِرنْ أن يشهدْنَها، فكيفَ بالرجالِ؟!

فاللهُمَّ يا عظيمَ المنِّ، يا واسعَ المغفرةِ، يا باسطَ اليدين بالرحمة، تقبلْ مِنَّا الصيامَ والقيامَ. واعفُ عن التقصيرِ والآثامِ. واجعلنا ممن قبلْتَهُ ورضيتَهُ ونعِمتَ عملَه فوهبتَ له الأجرَ والمغنم.

اللهمَّ أعِنَّا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عَبَادَتِكَ. اللَّهُمُّ اِحْفَظْنا وأهلنا وبِلَادَنَا وجنودنا بِالْأَمْنِ وَالْإيمَانِ، وبالسَّلامَةِ والإسلامِ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ لَنَا مَلِكَنَا ووَلِيَّ عَهْدِهِ واجزهِمْ عنا خيرَ الجزاءِ، وَارْزُقْهُم بِطَانَةً صَالِحَةً نَاصِحَةً. اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.