عناصر الخطبة
1/مكانة الصدق في الإسلام 2/أنواع الصدق وبيانها 3/من نماذج الصادقين 4/ذم الكذب وبيان أضراره 5/التحير من السماع للكذابيناقتباس
وإن المرءَ قد يدفعُه الفضولُ وحبُّ الاطلاعِ لتتبعِ قنواتِ الزورِ، وحساباتِ أهلِ الباطلِ، فينجرُّ شيئاً فشيئاً، حتى يصدقَ كذبَهم، ويعجبَه حديثُهم، فينقلبُ عنده الحقُّ باطلا، والباطلُ حقا، بما يزينونه له من زخرفِ القولِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد: سمةٌ من سماتِ أهلِ الإيمان، ورتبةٌ موصلةٌ إلى أعالي درجاتِ الجنانِ، إنها المنزلةُ الجليلةُ، والمكانةُ الرفيعةُ، التي قال عنها ابنُ القيّمِ -رحمه الله-: "هي منزلةُ القومِ الأعظمِ الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريقُ الأقومُ الذي مَن لم يَسِرْ عليه فهو من المنقطعين الهالكين، به تميَّز أهلُ النِّفاق من أهلِ الإيمان، وسكَّانُ الجنانِ من أهلِ النِّيران... وهو أساسُ بناءِ الدِّين، وعمودُ فُسْطَاطِ اليقين، ودرجتُه تاليةٌ لدرجة النُّبوَّةِ التي هي أرفع درجاتِ العالمين"، فما هو هذا
الأمرُ يا ترى؟!
إنه الصدقُ -يا معاشر المسلمين-، الصدقُ الذي من يتحلى به فإنه يكون قد أدركَ أعظمَ النعمِ، وأجلَّ الفضائل، برفقةِ خيرِ خلقِ الله أجمعين، قال الله -جل وعلا-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)[النساء: 69 - 70]، فالصديقون في المرتبةِ التاليةِ بعد النبيين، وهم من الذين أنعم اللهُ عليهم، الذين نسألُ اللهَ أن يرزقَنا طريقَهم في كلِّ صلاة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)[الفاتحة: 6 - 7].
والصِدِّيقُ هو المبالِغُ في الصِدْقِ، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- موصياً ومبيناً ثمرةَ الصدِقِ: "علَيْكُم بالصِّدْقِ؛ فإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا".
عباد الله: الصدقُ يكون في الأقوالِ والأعمالِ والنياتِ، فأما الصدقُ في الأقوالِ فأنْ لا تخبرَ إلا بما يوافِقُ الواقعَ، قال الجنيد -رحمه الله-: "حقيقةُ الصِّدق: أن تصدقَ في موطنٍ لا ينجيك منه إلَّا الكذب"، وقيل: الصِّدقُ: "القول بالحقِّ في مواطن الهلكة".
فالطالبُ الصادقُ هو الذي حين يغيبُ كسلاً أو لا يحلُّ الواجبَ تهاوناً، فيسألُه المعلم لا يقول إلا الصدقَ الذي يوافقُ الحقيقةَ، والموظفُ الصادقُ هو الذي حين يتأخرُ عن دوامِه أو يخطئُ في تقريرِه، فيسأله المدير لا يتعذَّرُ له بالأعذارِ المختلقةِ الكاذبةِ، وناقلُ الخبرِ الصادقُ هو الذي حين ينقلُ الخبرَ يأتي به موافقاً للواقعِ بدون تدليسٍ أو تضخيمٍ أو استخدامِ ألفاظٍ مخادعةٍ ليلفتَ الأنظار، ويُبهرَ الأسماعَ بالزورِ.
ومن أعظمِ نماذجِ الصدقِ في تاريخِنا الإسلامي ما حصل مع كعبِ بن مالكٍ -رضي الله عنه-، حين تخلف عن ركبِ الجهادِ مع رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوةِ تبوك، وحين رجعَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، قدمَ إليه المُخَلَّفون من المنافقين وحلفوا بالكذبِ على أعذارٍ واهيةٍ كاذبةٍ، أما هو فقد كان مما قال: "فَلَمَّا بَلَغَنِي أنَّه تَوَجَّهَ قَافِلًا، حَضَرَنِي هَمِّي، وطَفِقْتُ أتَذَكَّرُ الكَذِبَ، وأَقُولُ: بمَاذَا أخْرُجُ مِن سَخَطِهِ غَدًا؟! واسْتَعَنْتُ علَى ذلكَ بكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِن أهْلِي، فَلَمَّا قيلَ: إنَّ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قدْ أظَلَّ قَادِمًا، زَاحَ عَنِّي البَاطِلُ، وعَرَفْتُ أنِّي لَنْ أخْرُجَ منه أبَدًا بشَيءٍ فيه كَذِبٌ، فأجْمَعْتُ صِدْقَهُ... فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عليه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ، فَجِئْتُ أمْشِي حتَّى جَلَسْتُ بيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: "ما خَلَّفَكَ؟ ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟"، فَقُلتُ: بَلَى، إنِّي واللَّهِ لو جَلَسْتُ عِنْدَ غيرِكَ مِن أهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أنْ سَأَخْرُجُ مِن سَخَطِهِ بعُذْرٍ، ولقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، ولَكِنِّي -واللَّهِ- لقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليومَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى به عَنِّي؛ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، ولَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إنِّي لَأَرْجُو فيه عَفْوَ اللَّهِ، لا -واللَّهِ- ما كانَ لي مِن عُذْرٍ، واللَّهِ ما كُنْتُ قَطُّ أقْوَى، ولَا أيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أمَّا هذا فقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ".
ثم قالَ بعدَ أن رأى ثمرةَ الصدقِ وعاقبةَ الكذبِ: "فَوَاللَّهِ ما أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِن نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ، أعْظَمَ في نَفْسِي مِن صِدْقِي لِرَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، أنْ لا أكُونَ كَذَبْتُهُ، فأهْلِكَ كما هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا؛ فإنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا -حِينَ أنْزَلَ الوَحْيَ- شَرَّ ما قَالَ لأحَدٍ، فَقَالَ -تَبَارَكَ وتَعَالَى-: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)[التوبة: 95 - 96]".
فهذا نموذجٌ عظيمٌ من نماذجِ الصدقِ، فمع أن كعباً أَثِمَ بسببِ تخلفِه عن الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-، ونالَ شيئاً من العقوبةِ الدنيويةِ، إلا أن عاقبةَ صدقِه كانت خيراً، وخلدَ اللهُ توبتَه في القرآن، وأمر المؤمنين بأن يكونوا معه ومع غيرِه من الصادقين، فقال -سبحانه-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].
والنوعُ الثاني من الصدقِ: هو الصدقُ في الأفعالِ، قال عبد الواحد بن زيدٍ -رحمه الله-: الصِّدق: "الوفاء لله بالعمل"، فالمؤمن يقولُ بلسانِه كلَّ يومٍ مراراً: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة: 5]، ويرددُ بين حينٍ وآخر: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)[البقرة: 285]، فهذه الأقوالُ لا بدَّ أن تصدقَها الأفعالُ، حتى يكونَ من الصادقين، أما حين يكونُ الادعاءُ بالقولِ والتَخَلُّفُ بالعملِ، فتلك دلالةٌ على عدمِ الصدقِ.
قال الله -سبحانه- مثنيا على من ثبتَ على نصرةِ اللهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم- في غزوةِ الأحزاب: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)[الأحزاب: 23 - 24].
فأهلُ الإيمانِ وأهلُ النفاقِ كلُّهم كانوا يتكلمون بحقائقِ الإيمان، ويقولون بها، فلما جاءَ الامتحانُ ظهرَ الصادقُ الذي كان يقول ذلك بقلبِه ولسانِه، والكاذبُ الذي لم يكنْ كلامُه إلا دعاوى كذبتها الأفعالُ.
ولن يتركَ اللهُ الناسَ حتى يبلوَهم ويمتحنَهم بالفتنِ؛ ليظهرَ الصادقُ من الكاذبِ، والخبيثُ من الطيّبِ، قال -سبحانه-: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 1 - 3].
ففي حالِ السلامةِ الكلُّ مؤمنٌ باللهِ، راضٍ بقضائِه، سائرٌ على منهاجِه، أما حين تحلُّ الفتنةُ، وينزلُ البلاء، فعند ذلك تُبلى السرائرُ، وتَظهرُ الحقائق، فهذا الذي كان دائماً ما يذمُّ الفسادَ المالي، ويسبُّ الخائنين، كيف سيكونُ حالُه حين تُعرضُ عليه الصفقاتُ الجذابةُ، والرشاوى المغريةُ؟ وهذا الذي ينتقدُ الواسطة ويعيبُ من ينتفعُ بها بالباطلِ، كيف سيكون حالُه إذا احتاجَها له أو لأحدِ أبنائِه؟ وهذا الذي ينعى على الأغنياءِ بخلَهم على الفقراءِ، كيف هو حالُه عندما يرزقه اللهُ شيئا من التوسعةِ في المال؟.
يقول اللهُ -سبحانه- يصفُ أهلَ الكذبِ والنفاقِ: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[التوبة: 75 - 77].
وأما النوعُ الثالث من الصدقِ: فهو الصدقُ في النيةِ، بأن تكونَ أعمالُ المرءِ الصالحةِ خالصةً لوجهِ الله، لا يبتغي بها أحداً سواه، قال ابن القيم: "الصِّدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص".
فحين يعملُ الصادقُ عملَه الصالح، فإنه لا يريدُ من ذلك نصيباً دنيوياً من سمعةٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو مصلحةٍ ماديةٍ، وإنما يعملُه مبتغياً به وجهَ اللهِ وحده.
ومن نماذجِ الصادقين المخلصين، ذلكم الأعرابيُّ الذي "جاءَ إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فآمنَ بِهِ واتَّبعَهُ، ثمَّ قالَ: أُهاجرُ معَكَ، فأوصى بِهِ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بعضَ أصحابِهِ، فلمَّا كانَت غزوةٌ غنمَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سبيًا، فقسمَ وقسمَ لَهُ، فأعطى ما قسمَ لَهُ، وَكانَ يرعى ظَهْرَهُم، فلمَّا جاءَ دفعوهُ إليهِ، فقالَ: ما هذا؟ قالوا: قَسمٌ قَسمَهُ لَكَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فأخذَهُ فجاءَ بِهِ إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فقالَ: ما هذا؟ قالَ: "قَسمتُهُ لَكَ"، قالَ: ما علَى هذا اتَّبعتُكَ، ولَكِنِّي اتَّبعتُكَ على أن أرمى إلى ههُنا -وأشارَ إلى حَلقِهِ بسَهْمٍ-، فأموتَ فأدخلَ الجنَّةَ فقالَ: "إن تَصدقِ اللَّهَ يَصدقكَ"، فلبِثوا قليلًا ثمَّ نَهَضوا في قتالِ العدوِّ، فأتيَ بِهِ النَّبيُّ يحملُ قَد أصابَهُ سَهْمٌ حيثُ أشارَ، فقالَ النَّبيُّ: "أَهوَ هوَ؟"، قالوا: نعَم، قالَ: صدقَ اللَّهَ فصدقَهُ، ثمَّ كفَّنَهُ النَّبيُّ في جبَّةِ النَّبيِّ، ثمَّ قدَّمَهُ فصلَّى علَيهِ، فَكانَ فيما ظَهَرَ من صلاتِهِ أن قال: "اللَّهمَّ هذا عبدُكَ خرجَ مُهاجِرًا في سبيلِكَ فقُتلَ شَهيدًا، أَنا شَهيدٌ على ذلِكَ".
تلك عاقبةُ الصدقِ، يعيش مطمئناً في الدنيا، منعماً في الآخرة، كما قال -سبحانه-: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة: 119].
أقول هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
معاشر المسلمين: كما أن الصدقَ قرينُ الإيمان، فإن الكذبَ قرينُ النفاق، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ"، فالكذبُ من كبائرِ الذنوبِ التي توبقُ على المرءِ دنياه وأخراه، فهو في الدنيا يعيشُ مرتاباً خائفاً من كشفِ كذبِه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الصِّدقَ طُمأنينةٌ، وإنَّ الكذبَ رِيبةٌ"، وفي الآخرةِ متوعدٌ بالنارِ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا".
ومن أخطرِ ما يتعرضُ له المرءُ في عصرِنا هو الاعتيادُ على سماعِ حديثِ الكاذبين، والانخداعِ بتلبيسِهم، وقد ذمَّ الله -سبحانه- اليهود فقال عنهم: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ)[المائدة: 41]، وعاب اللهُ على بعضِ أهلِ الإيمانِ سماعَهم حديث المنافقين وكذبِهم، فقال -سبحانه-: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)[التوبة: 47].
وإن المرءَ قد يدفعُه الفضولُ وحبُّ الاطلاعِ لتتبعِ قنواتِ الزورِ، وحساباتِ أهلِ الباطلِ، فينجرُّ شيئاً فشيئاً، حتى يصدقَ كذبَهم، ويعجبَه حديثُهم، فينقلبُ عنده الحقُّ باطلا، والباطلُ حقا، بما يزينونه له من زخرفِ القولِ.
فليحذر المسلمُ من هؤلاء، ولا يستمعْ إلا إلى الثقاتِ ممن صدَّقَتْ أعمالُهم أقوالَهم، يدعون إلى اللهِ لا يبغون إلا إعلاءَ كلمتِه ونشرَ دينِه، على بصيرةٍ من كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم اجعلنا من الصادقين المخلصين، اللهم وفقنا لطاعتك، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
التعليقات