عناصر الخطبة
1/ معرفة العباد بربهم من أعظم النعم 2/ الإحسان ومراقبة الله أعظم مراتب الدين 3/ أهمية استشعار العبد بمراقبة الله له 4/ خشية الله في السر والعلانية من أفضل الأعمال 5/ عواقب ذنوب الخلوات ومغبتها 6/ سبل الوقاية من ذنوب الخلوات.اهداف الخطبة
اقتباس
كم شكا عددٌ من الشباب مِن فقد لذة العبادة التي كان يجدها! وكم حُرِمَ مِن قيام ليلٍ كان يراه جنةَ قلبه في هذه الحياة المنغَّصة! وكم نسي عددٌ منهم ما كان يحفظ من كتاب الله! وكم فتحت لهم هذه المعصيةُ أبواباً أخرى من المعاصي! وكم هَوَتْ قلوبٌ -بسبب هذه المناظر- من علياء التألق الإيماني إلى دَرَكٍ من الهمّ والغمّ! وكم أبعدتهم عن مجالس الأخيار لشعورهم بتأنيب داخلي، وتناقُضٍ بين ظاهرهم وباطنهم؛ فقادهم هذا الانقطاع إلى الارتباط بصداقات جديدة قرّبتهم من المنكرات، وأنستهم مجالس الذكر والعِبَر والعظات!
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن من أعظم نعم على عباده تعريفهم ما شاء من أسمائه وصفاته، ليكون العلم بها وسيلة لدعائه، وسبباً في خشيته والخوف منه، ولذا كان مقام الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"( البخاري ح50، مسلم ح: 8).
هو أعظم مراتب الدين؛ لأن العبد يستشعر فيه نظر الرب -جل جلاله-، فصار مقامُ المراقبة من أشرف مقامات العبودية، وأجلّ منازل السائرين في مدارج (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة: 5].
إن استدامة علم العبد بمراقبة الله له، وتيقنَه باطلاعه على ظاهره وباطنه؛ هي ثمرة علمه بأن الله رقيب عليه، ناظرٌ إليه، سامعٌ لقوله، مطّلع على عمله وفي كل طرفة عين.
إننا اليوم -يا عباد الله- أحوج ما نكون إلى تذكير أنفسنا بهذه العبودية، خصوصاً في زمن تفجّر وسائل النظر الحرام، وكثرة الأسفار الفردية، إذْ مهما كثرت الوسائل التي يحتاط بها العبد، فليس ثمة شيء يحول دون ذنوب الخلوات مثلَ استشعار مراقبة رب الأرض والسماوات.
وإذا قلّبنا كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ وجدنا ألواناً من تربية المؤمنين على هذه العبودية، وحثّاً على التحقق بها؛ إذْ هي أعظم الكوابح، وأقوى الموانع، في لحظةٍ يخلو بها العبد بمحارم الله تعالى!
إن من أعظم الدروس التي يخرج بها القارئ لقصة يوسف، هو درس المراقبة في لحظة القدرة على المعصية، أشد وأقوى ما تكون الدواعي للمعصية: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)[يوسف: 23].
وحين يشتد الحرُّ يوم القيامة على أهل الموقف، فتدنو الشمسُ من الخلائق قدْر ميل، بعد أن كانت بعيدة عنهم نحو مائة مليون وخمسين مليون كم! في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة..حفاةً عراةً غرلاً.. في هذا الموقف يخلق الله ظلاً يستظل به طائفة من الناس يتقون به حرّ ذلك اليوم.. ومِن هؤلاء الذين ينالون شرف الاستظلال: "رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"(البخاري ح660، مسلم ح: 1031)، فهو أحد السبعة الذين يظلهم في ظله، كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
"إنه رجل يخشى الله في سره، ويراقبه في خلوته، وأفضل الأعمال خشية الله في السر والعلانية، وخشيةُ الله في السر إنما تَصدُر عن قوة إيمان ومجاهدة للنفس والهوى، فإن الهوى يدعو في الخلوة إلى المعاصي، ولهذا قيل: إن مِن أعز الأشياء الورع في الخلوة.
وذِكر الله يشمل ذكره باللسان والقلب:
فذِكر القلب: ذكر عظمته وبطشه وانتقامه وعقابه، والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الخوف، ويشمل: ذكر جماله وكماله وبِره ولطفه، وكرامته لأوليائه بأنواع البر والألطاف، لا سيما برؤيته في الجنة، والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الشوق.
وذِكر الله باللسان: بالاستغفار والتسبيح والتنزيه عما لا يليق به، كما قال تعالى عن المتقين الذي يدخلون الجنة: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آل عمران: 135].
أيها المسلمون:
إن ذنوب الخلوات أفسدت كثيراً من القلوب، حين أهمل أصحابُها مراقبةَ الله ونظرَه إليهم، فصارت هذه الذنوب -مع الإصرار عليها- سبباً في فقد لذة الطاعات، وقحوط العين، وقسوة القلب، والكسل عن الطاعات الظاهرة!
ومَن قرأ كلام العلماء عنها في قديم الزمان، فإنه يتساءل: كم كانت نسبة المعاصي التي يخلو بها العبد في زمانهم بالنسبة إلى زماننا؟!
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "ورأيتُ أقواماً من المنتسبين إلى العلم، أهملوا نظر الحق -عز وجل- إليهم في الخلوات، فمحا محاسنَ ذِكرهم في الجلوات، فكانوا موجودين كالمعدومين، لا حلاوة لرؤيتهم، ولا قلب يَحِن إلى لقائهم! فالله الله في مراقبة الحق -عز وجل-؛ فإن ميزان عدله تَبِين فيه الذرة، وجزاؤه مراصد للمخطئ ولو بعد حين، وربما ظن أنه العفو، وإنما هو إمهال، وللذنوب عواقب سيئة، وإياكم والاغترار بحلمه وكرمه، فكم استدرج! وكونوا على مراقبة الخطايا مجتهدين في محوها! وما شيءٌ ينفع كالتضرع مع الحمية عن الخطايا.
ولقد قال بعضُ المراقبين لله تعالى: قدرتُ على لذة وليست بكبيرة، فنازعتني نفسي إليها؛ اعتماداً على صغرها، وعِظَم فضل الله –تعالى- وكرمه، فقلت لنفسي: إن غَلَبْتِ هذه فأنتِ أنتِ! وإذا أتيت هذه فمن أنت؟! وذكّرتها حالةَ أقوام كانوا يفسحون لأنفسهم في مسامحة، كيف انطوت أذكارهم، وتمكنت عقوبةُ الإعراض عنهم منهم؛ فارعوتْ ورجعت عما همّت به"ا.هـ.(صيد الخاطر ص(148).
"كم من مؤمن بالله -عز وجل-، يحترمه عند الخلوات، يترك ما يشتهي حذراً من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالاً له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر؛ فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائقُ، ولا يدرون أين هو!
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبتُه، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطِّيْب، ويتفاوت تفاوت العود، فترى عيونَ الخلق تُعظِّم هذا الشخص، وألسنتُهم تمدحه، ولا يعرفون لم! ولا يقدرون على وصفه؛ لبعدهم عن حقيقة معرفته.
وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق؛ فإنه على قدر مبارزته بالذنوب، وعلى مقادير تلك الذنوب؛ يفوح منه ريح الكراهة، فتمقته القلوب، فإن قل مقدارُ ما جنى؛ قَلَّ ذِكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه، وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه، لا يمدحونه ولا يذمونه.
ورُبّ خالٍ بذنب كان سببَ وقوعه في هوةِ شقوةٍ في عيش الدنيا والآخرة، وكأنه قيل له: ابق بما آثرتَ! فيبقى أبداً في التخبيط! فانظروا إخواني إلى المعاصي أثَّرت وعثَّرت.
قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى؛ فيلقي الله بُغضَه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، فتلمّحوا ما سطرته، واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم، ولا سرائركم؛ فإن الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص"ا.هـ. (صيد الخاطر ص: 185).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ... أما بعد:
فإن الإقبال العالمي -ونحن جزء منه- على الشبكة العالمية بمختلف صفحاتها ومواقعها؛ جعل البصر على حافة الخطر، فكثرت شكوى الصالحين قبل غيرهم من تفلّت النظر الحرام، يتحدثون حديث المكتَوين بنار تقليب صفحات تلك المواقع!
كم شكا عددٌ من الشباب مِن فقد لذة العبادة التي كان يجدها! وكم حُرِمَ مِن قيام ليلٍ كان يراه جنةَ قلبه في هذه الحياة المنغَّصة! وكم نسي عددٌ منهم ما كان يحفظ من كتاب الله! وكم فتحت لهم هذه المعصيةُ أبواباً أخرى من المعاصي! وكم هَوَتْ قلوبٌ -بسبب هذه المناظر- من علياء التألق الإيماني إلى دَرَكٍ من الهمّ والغمّ! وكم أبعدتهم عن مجالس الأخيار لشعورهم بتأنيب داخلي، وتناقُضٍ بين ظاهرهم وباطنهم؛ فقادهم هذا الانقطاع إلى الارتباط بصداقات جديدة قرّبتهم من المنكرات، وأنستهم مجالس الذكر والعِبَر والعظات!
إن من المهم أن يتدارك -المبتلى بهذا الداءِ- نفسَه قبل أن يصطدم بجدار الموت، أو يستمر "حَجْب قلبه" والعياذ بالله! ومن الأسباب المعينة على ذلك:
أولاً: استشعار مراقبة الله -تعالى- للعبد، وأنه مطّلع عليه، وأن يتخيل نفسَه لو دخل عليه رجلٌ من كرام عشيرته، ورآه على معصيةٍ ما، ما حاله؟! الله أولى بهذا الحياء! وليحذر أن يكون له نصيب من هذه الآية التي ذمّ اللهُ أهلها: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً)[النساء: 108].
ثانياً: تذكرُ ثمرة خوف الله في الخلوات؛ فإن ذلك يُورِث عزَّ الدنيا والآخرة: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 40، 41]، وليست هي جنةً واحدة، بل جنتان: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان)[الرحمن: 46].
ثالثاً: البعد -بل الحذر- من الاقتراب من كل ما يمهّد السبيل للنظر الحرام، وإغلاق الباب مبكراً، ولهذا جاء التعبير القرآني في النهي عن الزنا بقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا)[الإسراء: 32]، ولم يقل: ولا تزنوا؛ لأن الزنا غالباً تكون له مقدمات، ومن أخطرها أمثال هذه المواقع.
رابعاً: التفكرُ فيما يفوت المُطلِق لبصرِه من بركاتٍ وآثار على القلب، والتي لو لم يكن منها إلا ضعفُ أو فَقْدُ التلذذ بالعبادة -التي شكى منها كثيرون- لكفى بها حسرة! ولا عجب! "فأعظم عذاب الروح انغماسُها وتدسيسها في أعماق البدن، واشتغالها بملاذّه، وانقطاعها عن ملاحظة ما خُلِقَتْ له، وهُيئت له، ولكن سُكْرَ الشهوات يحجبها عن مطالعة هذا الألم والعذاب، فإذا صَحَتْ من سُكْرِها، وأفاقتْ من غَمْرَتِها؛ أقبلت عليها جيوشُ الحسرات من كل جانب، فحينئذ تتقطع حسراتٍ على ما فاتها من كرامة الله وقُربِه، والأُنس به" (مفتاح دار السعادة: 1/ 150).
"زهّدنا الله وإياك زهادةَ من أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات، فعلم أن الله سبحانه وتعالى يراه فتركه"(الزهد لابن أبي الدنيا، ص: 73).
التعليقات