عناصر الخطبة
1/ العلم أول خطوات المجد وأعظم حصونه.2/ ظاهرة ضعف التحصيل العلمي لدى الشباب وأسبابها. 3/ آثار ضعف التحصيل العلمي على الشباب والمجتمعات والأمم. 4/ وسائل معينة للحد من ظاهرة ضعف التحصيل العلمي لدى الشباب. 5/ رسائل وتوصيات للمربين؛ (أولياء الأمور، المعلمون، الجهات المسؤولة) وللشباب وللأمةاقتباس
إِنَّ أُولَى خُطُوَاتِ الْمَجْدِ، وَأَوَّلُ مَرَاتِبِ الْعِزِّ طَلَبُ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالسَّعْيُ الْحَثِيثُ وَرَاءَ تَحْصِيلِهِ، فَمَنْ كَانَ يَرْغَبُ فِي سُمُوِّ الْقَدْرِ، وَعُلُوِّ الذِّكْرِ، وَارْتِفَاعِ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ، وَأَنْ يَبْلُغَ عِزًّا لَا تُثْلِمُهُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، وَلَا تُنْهِيهِ الدُّهُورُ وَالْأَعْوَامُ، فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَئِنْ سَأَلْتُمُونِي: مَا هُوَ أَهَمُّ شَيْءٍ يَتَحَصَّنُ بِهِ الشَّبَابُ بَعْدَ الْإِيمَانِ؟ لَأَجَبْتُكُمْ بِلَا تَرَدُّدٍ وَلَا تَرَيُّتٍ: إِنَّهُ الْعِلْمُ، وَلَئِنْ رَاجَعْتُمُونِي: فَمَاذَا عَنِ الْعِبَادَةِ؛ أَلَيْسَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْعِلْمِ؟! لَقُلْتُ لَكُمْ: وَكَيْفَ يَعْبُدُ الْمُسْلِمُ رَبَّهُ بِلَا عِلْمٍ؟! بَلْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَسَمَ الْأَمْرَ حِينَ قَالَ: "فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَحِينَ قَالَ: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ أُولَى خُطُوَاتِ الْمَجْدِ، وَأَوَّلُ مَرَاتِبِ الْعِزِّ طَلَبُ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالسَّعْيُ الْحَثِيثُ وَرَاءَ تَحْصِيلِهِ، فَمَنْ كَانَ يَرْغَبُ فِي سُمُوِّ الْقَدْرِ، وَعُلُوِّ الذِّكْرِ، وَارْتِفَاعِ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ، وَأَنْ يَبْلُغَ عِزًّا لَا تُثْلِمُهُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، وَلَا تُنْهِيهِ الدُّهُورُ وَالْأَعْوَامُ، فَعَلَيْهِ بِالْعِلْمِ، أَمَا سَمِعْتَ الْجَلِيلَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَهُوَ يَقُولُ: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[الْمُجَادَلَةِ: 11].
بَلْ نَقَلَ إِلَيْنَا عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ وَاقِعَةً عَمَلِيَّةً تُوَضِّحُ كَيْفَ يَرْفَعُ الْعِلْمُ صَاحِبَهُ قَائِلًا: لَقِيَ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ، عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَالْعِلْمُ كَذَلِكَ أَسَاسُ قِيَامِ الدُّوَلِ وَالْحَضَارَاتِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ مَجْدِهَا، وَاسْتِمْرَارِ عِزِّهَا، وَبِهِ تَتَصَدَّى لِلْمُؤَامَرَاتِ وَتَنْتَصِرُ فِي الْعَدَاوَاتِ، وَتُحَارِبُ الْفَقْرَ وَالْمَجَاعَاتِ، وَتَنْتَزِعُ الْأَفْرَاحَ مِنَ الْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ، فَتُزْهِرُ الْأَيَّامُ، وَتَتَحَقَّقُ الْأَحْلَامُ، وَمَا أَصْدَقَ قَوْلَ مَنْ قَالَ:
بِالْعِلْمِ وَالْمَالِ يَبْنِي النَّاسُ مُلْكَهُمُ *** لَمْ يُبْنَ مُلْكٌ عَلَى جَهْلٍ وَإِقْلَالِ
فَهَذَا مَجْدُ الدُّنْيَا، أَمَّا مَجْدُ الْآخِرَةِ فَيُحَدِّثُكَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ يَقُولُ: "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؛ إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: "أَرْفَعُ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً مَنْ كَانَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ؛ وَهُمُ الرُّسُلُ وَالْعُلَمَاءُ".
فَالْعِلْمُ -عِبَادَ اللَّهِ- هَيْبَةٌ بِلَا سُلْطَانٍ، وَغِنًى بِلَا مَالٍ، وَقُوَّةٌ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، وَمَنَعَةٌ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَةٍ، وَجُنْدٌ بِلَا دِيوَانٍ، وَرِفْعَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ مِمَّا يَحُولُ دُونَ تَسَلُّقِ ذُرَى الْمَجْدِ، وَتَبَوُّءِ سُدَّةِ السُّؤْدُدِ، ضَعْفَ التَّحْصِيلِ الْعِلْمِيِّ بَيْنَ الشَّبَابِ، فَتَرَى الشَّابَّ وَقَدْ تَخَرَّجَ مِنْ جَامِعَتِهِ وَحَازَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَهُوَ لَا يَفْقَهُ شَيْئًا وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا قَلِيلًا! وَتَرَاهُمْ فِي مَدَارِسِهِمْ وَجَامِعَاتِهِمْ وَقَدِ اتَّخَذُوا الْعِلْمَ وَرَاءَهُمْ ظِهْرِيًّا؛ فَهُمْ لَا يُرِيدُونَ عِلْمًا وَلَا يَرْغَبُونَ فِيهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ مُجَرَّدَ شَهَادَةٍ يَتَكَسَّبُونَ بِهَا أَوْ يَتَفَاخَرُونَ بِهَا! لِيُقَالَ: "الدُّكْتُورُ" أَوِ "الْمُهَنْدِسُ" أَوِ "الْعَالِمُ الْحَبْرُ الْفَهَّامَةُ"!...
فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ لِضَعْفِ التَّحْصِيلِ الْعِلْمِيِّ لَدَى الشَّبَابِ؛ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ؛ بَلْ لِوَجْهِ الشَّهَادَةِ أَوِ الْوَظِيفَةِ أَوْ لِمُجَادَلَةِ الْعُلَمَاءِ وَالتَّبَاهِي بِالْمَعْرِفَةِ، أَوْ لِيَعْلُوَ بِهِ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَقَدْ حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلًا: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
أَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي فَهُوَ: الِانْشِغَالُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ عَنِ الْعِلْمِ: كَالتَّلَهِّي بِجَمْعِ الْمَالِ وَالْعَمَلِ الدُّنْيَوِيِّ، أَوْ بِالتَّوَافِهِ؛ كَوَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَمُتَابَعَةِ مُبَارَيَاتِ كُرَةِ الْقَدَمِ، وَمُشَاهَدَةِ الْأَفْلَامِ وَالْمُسَلْسَلَاتِ، فَاصْدَعْ فِي هَؤُلَاءِ قَائِلًا: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)[الْبَقَرَةِ: 61].
وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ هُوَ: أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِالدَّعَةِ وَالرَّاحَةِ: فَقَدْ تَعَوَّدَ كَثِيرٌ مِنْ شَبَابِ الْيَوْمِ عَلَى الدَّعَةِ؛ فَهُمْ لَا يُرِيدُونَ بَذْلَ جُهْدٍ، وَلَا سَهَرَ لَيْلٍ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ، لِذَا فَإِنَّهُمْ لَنْ يُحَصِّلُوا مِنْهُ شَيْئًا؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالْكَدِّ وَالتَّعَبِ؛ يَقُولُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: "تَأَمَّلْتُ عَجَبًا؛ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ نَفِيسٍ خَطِيرٍ يَطُولُ طَرِيقُهُ، وَيَكْثُرُ التَّعَبُ فِي تَحْصِيلِهِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَمَّا كَانَ أَشْرَفَ الْأَشْيَاءِ، لَمْ يُحَصَّلْ إِلَّا بِالتَّعَبِ وَالسَّهَرِ وَالتَّكْرَارِ، وَهَجْرِ اللَّذَّاتِ وَالرَّاحَةِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: "بَقِيتُ سِنِينَ أَشْتَهِي الْهَرِيسَةَ لَا أَقْدِرُ؛ لِأَنَّ وَقْتَ بَيْعِهَا وَقْتُ سَمَاعِ الدَّرْسِ!"(صَيْدُ الْفَوَائِدِ).
وَيُقَدِّمُ ابْنُ عَبَّاسٍ النَّمُوذَجَ وَالْمِثَالَ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: "إِنْ كَانَ يَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ، فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، يُسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ فَيَخْرُجُ فِيرَانِي، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا جَاءَ بِكَ؟ هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ؟! فَأَقُولُ: "لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ"، قَالَ: فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ)، فَبِالتَّعَبِ وَالْجِدِّ يُنَالُ الْعِلْمُ وَالْمَجْدُ:
دَبَبْتُ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا *** جُهْدَ النّفُوسِ وَأَلْقَوْا دُونَهُ الْأُزُرَا
وَكَابَدُوا الْمَجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ *** وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَنْ أَوْفَى وَمَنْ صَبَرَا
لَا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ *** لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَا
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْعِلْمَ هِبَةٌ وَفَضْلٌ وَمِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لِذَا فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ "الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ" شُرُوطًا وَوَسَائِلَ مُحَدَّدَةً:
فَأَوَّلُهَا: التَّقْوَى: فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَقَدِ اشْتَرَطَ اللَّهُ -تَعَالَى- لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ أَنْ نَتَّقِيَهُ فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)[الْبَقَرَةِ: 282]، يُفَسِّرُ الْقُرْطُبِيُّ قَائِلًا: هَذَا "وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- بِأَنَّ مَنِ اتَّقَاهُ عَلَّمَهُ؛ أَيْ: يَجْعَلُ فِي قَلْبِهِ نُورًا يَفْهَمُ بِهِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ".
ثَانِيهَا: الْإِخْلَاصُ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ: فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ النَّافِعِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَلَقَدْ تَوَعَّدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِشَيْءٍ غَيْرِ مَرْضَاةِ اللَّهِ -تَعَالَى- فَقَالَ: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"؛ يَعْنِي رِيحَهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
ثَالِثُهَا: الْعَمَلُ بِمَا يَتَعَلَّمُ وَتَعْلِيمُهُ لِغَيْرِهِ: لِيُبَارِكَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْعِلْمِ وَيُؤْتِيَ ثَمَرَتَهُ، وَقَدِيمًا قَالَ الصَّالِحُونَ: "يُنَادِي الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ، وَإِلَّا ارْتَحَلَ"، وَقَالُوا: "عِلْمٌ بِلَا عَمَلٍ كَشَجَرٍ بِلَا ثَمَرٍ"، وَلَقَدْ كَانَتْ أُمُّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ذَكِيَّةً حَصِيفَةً حِينَ قَالَتْ لَهُ: "اذْهَبْ فَاطْلُبِ الْعِلْمَ حَتَّى أَعُولَكَ أَنَا بِمِغْزَلِي، فَإِذَا كَتَبْتَ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ فَانْظُرْ هَلْ فِي نَفْسِكَ زِيَادَةٌ فَابْتَغِهِ، وَإِلَّا فَلَا تَبْتَغِيَنَّ"، وَرَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ الْقَائِلَ: "لَيْسَ الْعِلْمُ مَا حُفِظَ، الْعِلْمُ مَا نَفَعَ"(كِلَاهُمَا فِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، لِابْنِ مُفْلِحٍ).
بَلْ لَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ، ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ، كَمَثَلِ الَّذِي يَكْنِزُ الْكَنْزَ، فَلَا يُنْفِقُ مِنْهُ"(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ)، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: "إِنَّ مَثَلَ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، كَمَثَلِ كَنْزٍ لَا يُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، وَيُؤَكِّدُ الْأَوْزَاعِيُّ قَائِلًا: "مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ، وُفِّقَ لِمَا لَا يَعْلَمُ".
رَابِعُهَا: مُخَالَطَةُ الْعُلَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ: فَإِذَا خَالَطَهُمْ فَإِنَّهُ لَا مَحَالَةَ مُسْتَفِيدٌ مِنْهُمْ خَيْرًا؛ أَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَلَمَّا صَاحَبَ كَلْبٌ -أَعَزَّكُمُ اللَّهُ- فِتْيَةَ الْكَهْفِ، رَفَعَ اللَّهُ -تَعَالَى- قَدْرَهُ؛ فَذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ مَعَهُمْ.
فَإِذَا أَخَذْنَا بِهَذِهِ الْوَسَائِلِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْوَسَائِلِ الرَّبَّانِيَّةِ، بَارَكَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي عُقُولِ شَبَابِنَا وَقُلُوبِهِمْ، فَزَادَ مِنَ الْعِلْمِ تَحْصِيلَهُمْ، وَرَزَقَهُمْ مَعَ الْعِلْمِ الْعَمَلَ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
فَاعْلَمُوا الْآنَ -أَيُّهَا الْآبَاءُ الْفُضَلَاءُ-: أَنَّ اللَّهَ قَدِ اسْتَرْعَاكُمْ عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَأَنَّهُ -تَعَالَى- سَائِلُكُمْ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَيَا أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ الْكِرَامُ: لَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي أَعْنَاقِكُمْ أَمَانَةً مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَاتِ؛ وَهِيَ تَرْبِيَةُ شَبَابِ الْأُمَّةِ وَتَعْلِيمُهُمْ، فَـ (لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الْأَنْفَالِ: 27]، وَرَاقِبُوا اللَّهَ فِيمَا تُعَلِّمُونَ الشَّبَابَ، وَاسْتَفْرِغُوا الْوُسْعَ وَالطَّاقَةَ، وَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ.
وَيَا أَيُّهَا الْمَسْؤُولُونَ الْقَائِمُونَ عَلَى التَّعْلِيمِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَوَفِّرُوا لِلشَّبَابِ كُلَّ مَا يُعِينُهُمْ عَلَى التَّعَلُّمِ، وَذَلِّلُوا لَهُمْ كُلَّ الْعَقَبَاتِ الَّتِي تُعِيقُهُمْ، وَامْنَعُوا عَنْهُمُ الْمُلْهِيَاتِ الَّتِي تُشَتِّتُهُمْ وَتَسَبِّبُ ضَعْفَ تَحْصِيلِهِمْ، وَاذْكُرُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَيَا أَيُّهَا الشَّبَابُ: إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ رَفَعَتْ إِلَيْكُمْ أَبْصَارَهَا وَمَدَّتْ لَكُمْ أَعْنَاقَهَا؛ فَأَنْتُمْ -بَعْدَ اللَّهِ- أَمَلُهَا فِي النَّهْضَةِ وَالتَّقَدُّمِ، وَعَلَى أَكْتَافِكُمْ تَقُومُ الْحَضَارَاتُ، لَكِنَّكُمْ لَنْ تَكُونُوا أَهْلًا لِذَلِكَ حَتَّى تَتَحَمَّلُوا أَمَانَةَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات