عناصر الخطبة
1/ في سير الأوائل دروس وعبر 2/ موقف كعب بن مالك في غزوة تبوك 3/ التسويف ظاهرة جلية في قصة كعب 4/ صدق كعب مع رسول الله 5/ هجر المدينة لكعب والمخلفين معه 6/ صبر كعب بن مالك أمام الابتلاءات 7/ فرحة المؤمن بالتوبة بعد البلاء والصبراهداف الخطبة
اقتباس
نقلب الصفحات فنجد غزوة تبوك، وتسوقك الأحداث إلى قصة كعب بن مالك، ذلك الصحابي الجليل الذي تخلّف عن غزوة تبوك فخلد القرآن الكريم هذه القصة آيات تتلوها الألسن وتحفظها الصدور وتتأملها القلوب، نقف معها كما يرويها -رضي الله عنه-، ثم نستلهم عبرها، ومع كل موقف نستلهم ما نستطيع من درس ونرسخ في نفوسنا ..
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده سبحانه وأشكره، وأسأله الرحمة والمغفرة يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بالهدى والنور المبين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي -عباد الله- بتقوى الله، فإن من اتقاه وقاه، ومن سار على نهجه نجّاه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
عباد الله: في سير الأوائل دروس وعبر، مواقفهم تقوي الإيمان وتصحح المفاهيم وتشحذ الهمم وتقوي العزائم، كلماتهم شموس مشرقة تضيء للسالكين الدرب.
تقرأ سيرهم فتأخذك الدهشة ويتملكك العجب كيف بلغ أولئك ما بلغوا؟! وكيف تسنموا ذرى المجد حتى سموا؟! والجيل المعاصر يخسر كثيرًا حين يجهل سيرهم فيقطع صلته بهم -رضي الله عنه- أو يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، الأوائل كانوا بإيمانهم جبالاً راسية، وبسيرهم قممًا سامقة، كيف لا وقد بذلوا دماءهم وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم وخلدوا سيرًا لا تضاهي، وسطروا مواقف لا تبارى، نقلب الصفحات فنجد غزوة تبوك، وتسوقك الأحداث إلى قصة كعب بن مالك، ذلك الصحابي الجليل الذي تخلّف عن غزوة تبوك فخلد القرآن الكريم هذه القصة آيات تتلوها الألسن وتحفظها الصدور وتتأملها القلوب، نقف معها كما يرويها -رضي الله عنه-، ثم نستلهم عبرها، ومع كل موقف نستلهم ما نستطيع من درس ونرسخ في نفوسنا أينع غرس.
يقول -رضي الله عنه-: "وغزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهّز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقضِ شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجهد، فأصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه ولم أقضِ من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقضِ شيئًا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقضِ شيئًا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني، فلم يقدر لي ذلك.
التسويف ظاهرة جلية في قصة كعب بن مالك، وهي أكثر جلاءً في أنفسنا نحن المسلمين، فمشاغل الدنيا ووساوس إبليس تجعل المرء يسوف في أعمال الخير ويؤجل حتى تضعف همته وتثقل حركته فيفوتها، وكلما غاص المرء في عطن الدنيا ازداد تعلقه فازدادت أثقالها، وصعب الخروج منها.
فالذي يسمع نداء الصلاة يسوّف المبادرة حتى تفوته الركعة والركعتان، وقد تفوته الصلاة، وما يزال به إبليس تسويفًا وإهمالاً حتى لا تراه إلا في الصفوف المتأخرة، والمقيم على المعصية يسوّف حتى تعظم المعصية ويتمادى حتى تكبر ويترسخ حبها في النفس، ثم يفاجأ بالموت ولات حين مندم.
أخطر ما يفتّ في العضد ويوهن العزائم ويحطم الهمم ويقتل الأهداف الطموحة التسويف، كم سوّفنا حتى ضيعنا حلق العلم!! كم سوفنا حتى أهملنا السنن الرواتب!! وكم سوفنا حتى وقعنا في المحرمات!! لذا يقول أحد السلف: "أحذركم "سوف"؛ فإنها أعظم جنود إبليس".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكم من عازم على الجد سوفه!! وكم ساع إلى فضيلة ثبطه!! فلربما عزم الفقيه على إعادة درسه فقال: استرح ساعة!! أو انتبه العابد في الليل فقال: عليكم وقت، ولا يزال يحبب الكسل ويسوف العمل ويسند الأمر إلى طول الأمل، فينبغي للحازم أن يعمل على الحزم، والحزم تدارك الوقت وترك التسويف". انتهى.
قال كعب: فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصًا عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء.
هذا هو حال المجتمع الأول، هبّ المسلمون جميعًا في سبيل الله مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يبق في المدينة إلا من نافق أو ممن عذر الله سبحانه، إنها أمة الجهاد، أمة التضحية والبذل.
قال كعب: ولم يذكرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب؟! فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله: حبسه برداه ونظره في عطفه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله –يا رسول الله- ما علمنا عليه إلا خيرًا. فسكت رسول الله.
لم يسكت معاذ وهو يرى من يقع في عرض أخيه، فبادر بالإنكار، وهذا حق المسلم على المسلم في كل زمان ومكان ومجلس، أن يبادر لحماية عرض أخيه وتقديم حسن الظن، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة". أخرجه الترمذي.
قال كعب بن مالك: "فلما بلغني أنه توجه قافلاً حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟!".
أمر محيّر، ماذا سيقول للرسول -صلى الله عليه وسلم-؟! وبم يعتذر له؟! كيف سيخرج من سخطه؟! هل يكذب؟! كلا وحاشا، فلقد تربى في مدرسة النبوة، إذا كان سينجو في الدنيا من موقف عصيب بكلمة مزيفة وكذبة محرمة فما الذي ينجيه بين يدي من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يوم تبلى السرائر، ويحصل ما في الصدور، يوم تشهد الألسن والأرجل والأيدي على العباد بما كانوا يعملون!! لذا قال كعب -وقد استشعر علم الله ومعيته واطلاعه-: "فأجمعت صدقه"، مراقبة الله أمرها شاق لكن عاقبتها حميدة، وكعب -رضي الله عنه- هنا يلتمس رضا الله ولو سخط الناس.
سأله الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما خلفك؟! ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟!"، فقال: قلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك". فقمت.
صدق في القول ووضوح في الحديث وقوة في الإيمان وصلابة في الموقف، لقد اعترف كعب بذنبه، والاعتراف بالخطأ أساس الصلاح والإصلاح، لكن تثقل التوبة على الذين يكابرون ويؤتون لسانًا من جدل على الزلل، وأفظع من هذا أولئك الذين يتحايلون لتحليل المحرمات.
قال كعب: "وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك، فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي".
كاد أن يهلك كعب بهذه النصيحة التي زينت له الباطل وسيعقبها استغفار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا ضير عليك، وكم هي النصائح هذه الأيام على هذا المنوال، جلساء السوء بل وبعض ممارسي التربية يحقرون للمرء المعصية، ويجرؤون على ارتكابها بنصيحة ظاهرها حرص مشفق وفي حقيقتها وادٍ سحيق مهلك.
وكان ممن تخلف وقال مثل ما قال كعب، مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، ثم تأتي الفتنة ويشتد البلاء، يقول كعب: ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين عن كلامنا -أيها الثلاثة- من بين من تخلّف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
هذا الهجر ليس كالهجر الذي فشا في المجتمع، فتقطعت الصلات وتدابر الأقرباء وافترق الإخوان لأسباب دنيوية ومصالح أرضية، هذا الهجر إذا زاد عن ثلاثة أيام فإنه يكون محرمًا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". أخرجه البخاري ومسلم.
قال ابن القيم: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف دليل على صدقهم وكذب الباقين، فالمنافقون جرمهم أعظم من أن يقابل بالهجر". انتهى.
وقال أيضًا: "وكذا يفعل الرب سبحانه بعباده في عقوبات جرائمهم، فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه -وهو كريم عنده- بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظًا حذرًا، وأما من سقط من عينه وهان فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبًا أحدث له نعمة، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة، وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التي لا عقوبة معها". انتهى.
ثم يقول كعب: "مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة -وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ- فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام".
لقد أعرض المجتمع بأكمله عن ثلاثة أشخاص، الأخ والقريب والصديق في الأسواق وفي المسجد، بل في كل مكان لا يكلمهم أحد استجابة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يجدوا الود الذي ألفوه والحب الذي عرفوه.
ويا لها من مصيبة إعراض وإدبار ومقاطعة من المجتمع كله!! ويا له من مجتمع بلغ الذروة في السمع والطاعة والرسوخ في التربية وامتثال الأمر، فها هو يتكاتف كله لمقاطعة الثلاثة واستجابوا لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
إن هجر المجتمع لأهل المعصية يهذب النفس ويوقظ الضمير، وهو عقوبة نفسية ووسيلة تربوية وسنة نبوية نتائجها حتمية مع أصحاب القلوب الحية، أما القلوب الميتة فلا تنفع بهجر ولا تستجيب لأمر.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "استحباب هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة وترك السلام عليهم ومقاطعتهم تحفيزًا لهم وزجرًا". انتهى.
ومن انتكاس الفطرة ومخالفة السنة وتضليل الأمة: إدناء أهل المعاصي وتكريمهم وتشجيعهم.
ماذا فعل كعب أمام هذه الابتلاءات؟!
لقد تجمل بالصبر، وتجلد في المصيبة، بل كان أجلد الثلاثة، كان يخرج ليشهد الصلاة ويطوف الأسواق، يصلي قريبًا من النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسارقه النظر، ويسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في مجلسه بعد الصلاة، يقول كعب: "فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟!".
وبلاء آخر؛ يقول كعب: "حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتيني فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تعتزل امرأتك".
وينبه الحسن البصري -رحمه الله- في هذه المناسبة إلى عظم أمر المعصية فيقول: "يا سبحان الله!! ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حرامًا، ولا سفكوا دمًا حرامًا، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر؟!".
وبلاء آخر؛ يقول كعب: "فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك؟! فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليّ كتابًا من ملك غسان، فإذا فيه: "أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك". فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته".
المفسدون يستغلون الأحداث والأزمات، ويتسللون أوقات الوهن والضعف ليدفعوا بالمرء إلى الخيانة، لكنهم لا يصلون إلى من كان راسخًا في إيمانه وجبلاً في ثباته ككعب بن مالك، هل تردد كعب؟! هل ترك مجالاً للوساوس والهواجس؟! لقد كانت إجابة كعب صامتة لكنها قوية في مبناها معبرة في معناها، لقد أسجر الرسالة –أحرقها- وأسجر معها الضعف والتردد وكأنه يقول: الولاء التام لله، والبراءة التامة من أعداء الله، وفي حياة المسلم أمور لا مجال فيها للمداهنة والمهادنة والمساومة، بل ولا مجرد تفكير.
رضي الله عن كعب وعن صاحبيه وعن الصاحبة أجمعين، قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أهل الهدى والصلاح.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، وإكمالاً لهذه القصة يقول كعب: "فلبثت بعد عشر ليالٍ حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك: أبشر، قال: فخررت ساجدًا وعرفت أنه قد جاء فرج، وآذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتوبة الله علينا، حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا".
ما أعظم فرحة المؤمن بالتوبة بعد البلاء والصبر، سجد كعب -رضي الله عنه- شاكرًا نعم ربه ويقول: فلما سلمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يبرق وجهه من السرور: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك". قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟! قال: لا بل من عند الله، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه". الله أكبر!! من عند الله، يا له من فخر لا يدانيه فخر.
لقد ملأت الفرحة مشاعره وأحاسيسه، فقال معبرًا عن صدق توبته: قلت: يا رسول الله: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمسك عليك مالك فهو خير لك".
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرحم بكعب من نفسه، بل إنه أرحم من الأمة كلها من نفسها.
ولنا أن نتساءل: ما الذي نجى كعبًا؟! يجيب -رضي الله عنه- فيقول: يا رسول الله: إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت. الصدق وإن كان فيه مشقة فإن عاقبته خير.
فهؤلاء الثلاثة صدقوا في قولهم وصبروا على بلائهم، فلما تاب الله عليهم هانت عليهم آلام البلاء، ونسوا هموم المعاناة، إن الصدق نجاة، وهو خير من كذب يغمرك فيه محدثك بمعسول الألفاظ التي تنطوي على خداع في الكلمات وحيلة في الأسلوب وزيف ونفاق، قال تعالى: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة118 :119].
ألا وصلوا وسلموا -عباد الله- على رسول الهدى ومعلم البشرية الخير نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
التعليقات