عناصر الخطبة
1/ الهجرة نقطة تحول مهمة في حياة الأمة المسلمة 2/ تأملات في قصة وأحداث الهجرة 3/ معالم دعوية من قصة الهجرة 4/ حفظ الله لرسوله ونصرته لدينه وإعلاء كلمتهاهداف الخطبة
اقتباس
لقد غفلت الأمة غفلة عظيمة عندما توجهت إلى كل حدب وصوب تبحث عن العزة والمجد والرفعة والسؤدد، وأبعدت تبحث عن ذلك كله في غير نبعها الرباني الصافي ومنهلها النبوي الأصيل القرآن الكريم والسنة النبوية.. ولما ولت هذه الأمة وجهها قبل المشرق والمغرب إلا قلة قليلة ما زالت متمسكة بالكتاب والسنة -ولله الحمد- تقول بهما وتدعو إليهما، أقول لما ولى أولئك وجوههم قبل المشرق والمغرب تاهوا وضلوا واستُضعفوا وذلوا...
الخطبة الأولى:
ثم أما بعد: عباد الله: هاهي الأيام تنقضي، والأعوام تنصرم، والأعمار تنقص، والأجل يقترب، فبالأمس القريب كنا نستقبل عاماً جديداً واليوم نودعه، قدمنا فيه ما قدمنا من الأعمال والأقوال وامتلأت الصحائف بما كتبه الكرام الكاتبون.
وها نحن اليوم بخروج عام ودخول عام نتذكر والذكرى تنفع المؤمنين. هذه الحدث العظيمة التي جرى عليها التأريخ الهجري، ألا وهي هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وخروجه من بلد الله الحرام إلى طيبة الطيبة. ذلك الانتقال الذي غير مجرى التاريخ وحول شأن العالم من شأن إلى شأن.. وما أدراك ما ذاك التحول؟.. سمو بعد انحطاط، ورفعة بعد هبوط، وعزة بعد ذل، عزاً أعز الله به أمة الإسلام، وذلاً أذل الله به أمة الكفر والإلحاد.
ونحن اليوم ونحن نعيش وضعاً لا نحسد عليه بحاجة إلى الوقوف مع هذه المناسبة وأمثالها لنستلهم الدروس والعبر من هذه المناسبة، ونستفيد منها في حياتنا العملية التطبيقية دروساً تعود بنا إلى عز سابق ومجد دارس قد فقدناه في حاضرنا وتخبطنا كثيراً نبحث عنه وهو بين أيدينا وأمام أعيننا.
أيها الموحدون: لقد غفلت الأمة غفلة عظيمة عندما توجهت إلى كل حدب وصوب تبحث عن العزة والمجد والرفعة والسؤدد، وأبعدت تبحث عن ذلك كله في غير نبعها الرباني الصافي ومنهلها النبوي الأصيل القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد نبهنا عليه الصلاة والسلام وبين لنا أننا إن تمسكنا بهذين الأصلين الكريمين العظيمين فلن نضل أبداً فقال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي" (رواه مالك).
ولما ولت هذه الأمة وجهها قبل المشرق والمغرب إلا قلة قليلة ما زالت متمسكة بالكتاب والسنة ولله الحمد تقول بهما وتدعو إليهما، أقول لما ولى أولئك وجوههم قبل المشرق والمغرب تاهوا وضلوا واستضعفوا وذلوا.
ونحن اليوم وقوفاً منا على وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتمسك بالكتاب والسنة نقف وقفة تأمل مع حادثة الهجرة لنستفيد منها عبراً وعظات لعل الله أن ينفع بها هذه الأمة ويرفع بها هذه الذلة.
عباد الله: لقد مكث -صلى الله عليه وسلم- يدعو أهل مكة إلى التوحيد ثلاث عشرة سنة يدعوهم إليها ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً فما استجاب من القوم إلا القليل حتى حاول الخروج بدعوته وخرج عليه الصلاة والسلام فعلاً إلى الطائف في محاولة لنشر الدعوة لكن أهل الطائف خذلوه وردوه ولم يقبلوا منه بل سلطوا عليه سفهاءهم يرمونه عليه الصلاة والسلام بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، فعاد إلى مكة حزيناً منكسر البال.
ثم جاء الأمر بعد بالهجرة إلى طيبة الطيبة، وأخذ معه رفيقه وصاحبه أبا بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه-، وكان أبو بكر قد استعد لذلك ولما علم بأن الرسول سيأخذه معه في رحلة الهجرة بكى -رضي الله عنه- من شدة الفرح حتى تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنه-ا: ما كنت أعرف أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبي يبكي، عندما أخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيكون رفيقه في هجرته.
وخرج الرفيقان واختبئا في الغار ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب والبحث عنهما وكانت قريش تحاول منع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الهجرة ولكن كان أمر الله مفعولاً.
وخرج الكفار يبحثون عن الرجلين وحاولوا وبحثوا وجدّوا حتى وقفوا على رأس الغار الذي يختبئ فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر حتى خاف أبو بكر -رضي الله عنه-، ولكنه كان يخاف على رسول الله لا على نفسه حتى قال: "والله يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لرآنا"، فيقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
ثم يعود الكفار أدراجهم ويضعوا جائزة عظيمة لمن يأتي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حياً أو ميتاً. ويخرج الناس يبحثون وبالفعل يلحق به سراقة بن مالك ويقترب منه لكن قوائم فرسه تسيخ في الرمال ثم يحاول مرة أخرى ثم يحاول مرة ثالثة فلا يستطيع الوصول إليه، يقول سراقة -رضي الله عنه- فعلمت أنه ممنوع مني أي محفوظ بحفظ الله لا يستطيع الوصول إليه. ثم يعده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسواري كسرى إن هو عاد وكتم الأمر.
ويعود سراقة ويكمل الرسول مسيرته إلى طيبة ويصل هناك ليستقبله المسلمون بحفاوة وترحيب وفرح وحب، وليؤسس -صلى الله عليه وسلم- دولة الإسلام ويعز الله دينه ويعلي كلمته ولو كره الكافرون ولو كره المشركون.
هذه -أيها المؤمنون- هي قصة تلك الرحلة العظيمة رحلة الهجرة. رحلة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام. رحلة خروج الداعية من بلده إلى أرض الله الواسعة ليمارس شعائر دينه وينشر دعوته على الناس فيعم الخير. رحلة المفارقة لقوم السوء الذين لا ينشرون الخير ولا يعينون عليه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
وبعد: أيها الموحدون: ومن قصة الهجرة نستفيد دروساً كثيرة وعبراً عظيمة نذكر بعضها ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع.
أولها: أن المسلم مأمور بعبادة الله وأداء ما عليه مما افترضه الله عليه، فلو فرض أنه منع من ذلك في مكان ما وجب عليه الخروج منه إلى أرض الله الواسعة ليعبد ربه ولا حجة له في البقاء في بلاد لا يستطيع أن يعبد الله فيها. ولو كانت بلده الذي ولد فيه، ولو كان أهله في هذه البلاد، والله عز وجل يقول في كتابه الكريم مبيناً أن هؤلاء قد فرطوا (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء:97].
واستثنى الله -عز وجل- الذين لا يستطيعون الخروج من النساء والأطفال فقال: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء:98-99].
وهاهو رسول الله يخرج من بلده مكة وهو يحبها وهي أحب البلاد إلى الله، فعن عبد الله بن عدي بن حمراء -رضي الله عنه- قال رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفاً على الحزورة فقال: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" (رواه الترمذي وابن ماجه).
ثاني هذه الدروس: ثقة المؤمن بالله عند الشدائد. فلقد وقف الكفار عند الغار الذي كان الرسول يختبئ فيه مع أبي بكر -رضي الله عنه- ومع ذلك لم تتزعزع ثقة رسول الله في ربه وأنه سيحميه من أعدائه وسينصره عليهم. في ذلك الموقف الذي خاف فيه الصديق -رضي الله عنه- بقي رسول الله رابط الجأش واثقاً بربه. إنه اليقين الذي نحتاجه اليوم لنجتاز الكثير من المصاعب والمحن التي نمر بها ويظن الكثير منا ألا أمل في الخلاص منها.
ثالثها: حفظ الله لرسوله ونصرته لدينه وإعلاء كلمته مع محاولة الكفار قتله ومنع الدين من الانتشار. لقد حاول أعداء الإسلام كما ترون منذ بدء دعوة هذا الدين منعه وحربه، بل وحاولوا قتل الداعية الأول محمد ، ولكن أراد الله شيئاً وأراد أعداؤه شيئاً، وتمت مشيئة الله والكافرون كارهون. وهذا ما يحدث اليوم ويتكرر مع المسلمين، حيث يحاول أعداء هذا الدين القضاء على الإسلام وقتل المسلمين أو إخراجهم من دينهم ويبذلون الجهود وينفقون الأموال ولكن كما قال تعالى: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) [الأنفال:36].
رابعها: حب أبي بكر للرسول -صلى الله عليه وسلم-. فقد ورد في روايات الهجرة أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان يمشي تارة أمام الرسول وتارة خلفه وتارة عن يمينه وتارة عن شماله، كل ذلك خوفاً من أن يأتيه مكروه سواء من أمامه أو من خلفه أو عن يمينه أو عن شماله. يفديه بنفسه -رضي الله عنه- وأرضاه. وهكذا كان بقية أصحاب رسول الله ، كانوا يفدونه بأموالهم وأبنائهم وأنفسهم.
ولكن الحب الأعظم الذي كان الصحابة يمارسونه هو متابعته فيما يأمرهم به والمبادرة إلى طاعته وعدم تقديم أي أمر على أمره مهما كان هذا الأمر. وتلك هي المحبة الحقيقية يقول تعالى آمراً نبيه أن يقول لأصحابه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران:31]، فمن ادعى المحبة فليثبت هذه الدعوى بدليلها، وإلا فالكل يدعي محبة رسول الله.
التعليقات