عناصر الخطبة
1/ نزول قبيلة جرهم عند زمزم 2/ زيارة إبراهيم عليه السلام لزوجتي ولده 3/ لقاء الابن بأبيه وبناء المسجد الحرام 4/ البشرى بإسحاق عليه السلاماقتباس
لما نزلت قبيلة جرهم بجوار أم إسماعيل عند ماء زمزم بعد أن استأذنوها في النزول والسقيا من مائها، فأذنت لهم على أن يكونوا ضيوفًا مكرمين لا مقيمين مغتصبين، فنزلوا على إرادتها ورضوا بحكمها، ثم أرسلوا إلى أهلهم، فأقبلوا إلى مكة يسرعون، واجتمع بهذا الحي منهم أهل أبيات كثيرة ..
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واقتدوا بأنبياء الله ورسله في عباداتهم وتقواهم وطاعته لله.
عباد الله: لما نزلت قبيلة جرهم بجوار أم إسماعيل عند ماء زمزم بعد أن استأذنوها في النزول والسقيا من مائها، فأذنت لهم على أن يكونوا ضيوفًا مكرمين لا مقيمين مغتصبين، فنزلوا على إرادتها ورضوا بحكمها، ثم أرسلوا إلى أهلهم، فأقبلوا إلى مكة يسرعون، واجتمع بهذا الحي منهم أهل أبيات كثيرة.
وبعد أن شب إسماعيل واستقام عوده، وذاع صيته واختلط بالقوم وحاكاهم في لغتهم وتعلم لسانهم وأخذ العربية عنهم، ثم تزوج بواحدة منهم، فتم اندماجه فيهم، وتوثقت صلته بهم، ولكن بعد زمن توفيت أمه هاجر -رحمها الله-، فعز عليه فقدها، وحزن عليها، وكان إبراهيم -عليه السلام- يتردد على أهله وولده، يتفقد حال ابنه، فوفد إلى مكة مرة، وأتى بيت إسماعيل، فلم يجد إلا امرأته، فسألها عنه فأخبرته أنه خرج يبتغي لهم رزقًا، ثم شكت له سوء الحال وضيق اليد وشظف العيش، فرأى فيها امرأة متمردة على القدر، ناقمة على القضاء، غير راضية بما قسمه الله لها، ورأى أنها لا تصلح لابنه زوجًا والحياة معه، وشكواها من معاشرتها إياه، فأشاح عنها بوجهه، ولوى عنان دابته بعد أن حمّلها السلام لابنه، وأوصاها أن تبلغه أن يغير عتبة داره -يكني بذلك أن يفارق زوجته وأن يستبدل بها خيرًا منها-، ولما عاد إسماعيل سألها: هل جاءنا من أحد؟! فقالت: نعم، طرق بابنا شيخ صفته كذا وكذا، سألنا عنك فأخبرناه بخبرك، وأظهر رغبته في تعرف أمرك، وتبين حالك، فأعلمته بما نحن فيه من الضيق والشدة، قال إسماعيل: هل أوصاك بشيء؟! قالت: نعم، هو يقرئك السلام، ويوصيك أن تغير عتبة دارك، فقال: ذاك أبي، وقد أمرني بفراقك. ففارقها.
ولم يلبث إبراهيم أن عاد يتفقد ولده، ولكنه لم يجد في داره إلا امرأته، فسألها عنه فأخبرته أنه خرج يبتغي لهم رزقًا، ولما هم بالرجوع التفت إليها سألها عن حالهما، فلهج لسانها بالثناء، وفاض بالحمد، وذكرت له أنهما في خير كثير ونعمة، حينئذ اطمأن قلبه وانشرح صدره إذ رآها قانعة راضية شاكرة مؤمنة، وعلم أنها وزوجها في خير وسعة، فأمرها أن تقرئ زوجها وتوصيه أن يحافظ على عتبة داره، وقفل راجعًا.
ولما عاد إسماعيل إلى أهله كعادته، أخبرته أن شيخًا حسن الهيئة وسيم الطلعة تكسوه الهيبة والوقار قد طرق اليوم بابهم ودخل دارهم، وأنه قد استنبأها خبره وأراد الوقوف على أمره، فأخبرته أنهما في خير وسعة، وأنه قد أوصاها أن تقرئه السلام وتأمره أن يثبت عتبة داره، قال إسماعيل: ذاك أبي، وقد أمرني أن لا أفارقك، فلازمها حياته، وكانت أم أبنائه.
لبث إبراهيم بعيدًا ما شاء الله أن يلبث، ثم وفد إلى مكة إلى ابنه إسماعيل، لا ليتفقد أمره كما كان يفعل من قبل، بل جاء هذه المرة إلى هذه البقاع لأمر جليل وشيء عظيم، فقد أمره الله -عز وجل- ببناء الكعبة، وإقامة أول بيت للناس، فاستجاب لأمر ربه واضطلع به غير هياب ولا وجل.
فلما أقبل إلى إسماعيل وكان قد بحث عنه قبلها خف إلى استقباله، وقد تهلل وجهه، وانبسطت أساريره، وانشرح صدره، واندفع إليه مهللاً، وسرعان ما تعانق الوالد والولد، وبث كل منهما للآخر ما يجد، وبعد ذلك أفضى إبراهيم إلى ابنه بأمر عجيب فقال: يا بني: إن الله قد أمرني أن أبني هُنا بيتًا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، فما كان من إسماعيل إلا الإجابة بالسمع والطاعة، ثم أخذا يرفعان قواعد البيت -(بيت الرحمن الكعبة المشرفة-، يشد من أزرهما قوة من الله، وهما يسألان الله ويقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة127 :128].
ولم يلبثا طويلاً حتى وضح الأساس وظهر موقع البناء، ثم جعل إسماعيل يأتي بالحجارة ويهيئ الأدوات والآلات، وإبراهيم يبني، فلما ارتفع البناء وطال الجدار وقصرت يد إبراهيم عن أن تنال أعلى البناء، وضعف الشيخ عن أن يرفع الحجارة إلى هذا العلو، فقال: يا بني: اطلب لي حجرًا أضعه تحت قدمي لعلي أستطيع إتمام ما بدأت، وأشرف على ما بنيت، قال ابن كثير -رحمه الله-: "ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يُصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام عليه عند بناء البيت، وكلما ارتفع الجدار آتاه إسماعيل -عليه السلام- به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كملت ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم بناء جدران الكعبة كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس -رضي الله عنه- عند البخاري.
وهكذا أتم بناء البيت -الكعبة المشرفة- الذي جعله الله مثابة للناس، تشتاق إليه أرواحهم، وتحن إليه أفئدتهم، استجابة لدعاء إبراهيم -عليه السلام-.
عباد الله: قصة إبراهيم -عليه السلام- وابنه إسماعيل من أكثر القصص الواردة في القرآن الكريم، وقد أمره الله أن يطهر البيت الحرام -بيت الله الكعبة المشرفة- من كل رجس حسي أو معنوي، فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع، وأن يطهراه من الشرك للطائفين به وحوله والمعتكفين فيه وأهل الركوع والسجود، كما في هيئة المصلي، وقد جعل الله -عز وجل- هذا البلد آمنًا، ففي صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح"، فهو آمن من الآفات، لم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل، وكان من ضمن دعائهما: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة 128 :129] .
وقد أجاب دعوة إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام-، فبعث في ذريته رسولاً وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- أرسله الله -عز وجل- إلى الناس كافة، وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه دعوة إبراهيم، ومراده هذه الدعوة، وذلك فيما أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله- عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم -عليه السلام- لمنجدل في طينته، وسأنبئكم في ذلك، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين". أخرجه أحمد والبخاري. "ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام". مسند الإمام أحمد.
بعد تلك الآيات يقول الله –عز وجل- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة131 :134].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم رسله. أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي وهب لإبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب وجعلهم من الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطعيوه واحمدوه واشكروه.
عباد الله: وبما أننا تحدثنا عن إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام-، فلابد أن نعطي فكرة عن إسحاق نبي الله -عليه السلام- والذي هو ابن زوجة إبراهيم الأولى سارة.
وأول ما ورد ذكر إسحاق في القرآن بالنسبة لترتيب السور في المصحف في سورة البقرة الآية 133؛ حيث قال أبناء يعقوب بن إسحاق -عليهما السلام- عندما حضره الموت لأبنائه: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133].
ثم ذكر في الآيتين 136 و140 من نفس السورة، والآية 84 من سورة آل عمران، وكل ذلك في عرض الإيمان بما أنزل الله على إبراهيم وأبنائه إسماعيل وإسحاق ومن بعدهم من الأنبياء من ذريته، وأنه لا فرق بينهم جميعًا في أداء ما أرسلهم الله، وفي الآية 163 من سورة النساء بإثبات أن الله أوحى إليه من ضمن الأنبياء الذين أوحى الله إليهم قبل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفي الآية 84 من سورة الأنعام، حيث إن الله وهب لإبراهيم -عليه السلام- عوضًا عن قومه عندما لم يؤمنوا به، ولما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهب الله -عز وجل- له إسحاق وابنه يعقوب -عليهم السلام جميعًا-، وأن الله -عز وجل- هداهم الهداية الكبرى؛ قال ابن كثير -رحمه الله-: يذكر الله تعالى في آية 84 من سورة الأنعام أن الله وهب لإبراهيم إسحاق، وذلك بعد أن طعن في السن وأيس وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت سارة من ذلك كما جاء في الآيات من سورة هود؛ قال تعالى: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود71 :73].
فبشروهما بإسحاق فتعجبت، كما بشروهما بنبوته وبأن له نسلاً وعقبًا، قال تعالى: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)، وهذه البشارة لإبراهيم -عليه السلام- لأنه اعتزل قومه وهاجر من بلادهم ذاهبًا إلى عبادة الله، فعوضه الله -عز وجل- عن قومه وعشيرته بأولاد له من صلبه على دينه، لتقر بهم عينه، وذكر إسحاق -عليه السلام- في سورة يوسف في الآية رقم 6، وفي سورة إبراهيم الآية رقم 39، وفي سورة مريم آية رقم 49، وفي سورة الأنبياء آية رقم 72، والآية رقم 47 من سورة العنكبوت، وفي سورة الصافات في الآيتين 112، 113، والآية 45 من سورة ص، قال تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) [ص:45] بمعنى البصائر، مجاز عما يتفرع عنها من المعارف.
عباد الله: هذه نبذة مختصرة عن نبي الله إسحاق بن إبراهيم الخليل -عليهما السلام-، والذي جاء أكثر الأنبياء من نسل ابنه يعقوب -عليهما السلام-.
وصلوا وسلموا -عباد الله- على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
التعليقات