عناصر الخطبة
1/ إبراهيم -عليه السلام- ينكر على قومه عبادة الأصنام 2/ مجادلتهم في أمر أصنامهم 3/ مكيدة إبراهيم -عليه السلام- بالأصنام وتكسيره لها 4/ عزمهم على إحراقه 5/ نجاة إبراهيم -عليه السلام- من الناراقتباس
كان إبراهيم -عليه السلام- ذكي الفؤاد، صائب الرأي، ثاقب الفكر، فرأى أن الحجة القولية والبرهان اللفظي لم يعد يجدي معهم، فأراد أن يوقف قومه على صدق دعوته وحقيقتها، علّهم يتوبون إلى رشدهم ويرجعون عن غيّهم، فاستدرجهم إلى مجادلته، واستنزلهم إلى محادثة، فسألهم: ماذا تعبدون؟! فأفاضوا الحديث في شأن أصنامهم، وأطالوا في جوابهم، معزين بعبادتها وقالوا ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واحمدوه واشكروه وراقبوه في السر والعلن، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
عباد الله: قصة خليل الله إبراهيم -عليه السلام- قصة عظيمة؛ حيث أنكر على قومه ووالده عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ودعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فلم يستجيبوا لدعائه، ولاقى منهم أذى كثيرًا.
كان إبراهيم -عليه السلام- ذكي الفؤاد، صائب الرأي، ثاقب الفكر، فرأى أن الحجة القولية والبرهان اللفظي لم يعد يجدي معهم، فأراد أن يوقف قومه على صدق دعوته وحقيقتها، علّهم يتوبون إلى رشدهم ويرجعون عن غيّهم، فاستدرجهم إلى مجادلته، واستنزلهم إلى محادثة، فسألهم: ماذا تعبدون؟! فأفاضوا الحديث في شأن أصنامهم، وأطالوا في جوابهم، معزين بعبادتها وقالوا: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) [الشعراء:71] أي خاضعين.
كان إبراهيم ملهمًا في سؤاله، موفقًا في استفساره، فهو كالطبيب حاول أن يتحسس الداء ليصف الدواء، وهو يريد أن يوضح بطلان عملهم وإلزامهم الحجة، وحينئذ لا يجدون مناصًا من اتباعه وطاعته، عند ذلك أخذ ينقد زائف آرائهم ويبيّن فاسد اعتقادهم، فقال: هل يسمعونكم إذا دعوتموهم، أو يسمعونكم أو يبصرونكم، وهل ينفعونكم أو يضرونكم؟! حقًّا إنه كيد الشيطان وما أعظمه، حيث استدرجهم إلى أن يقلدوا آباءهم في الكفر وعبادة الأصنام والشرك بالله، وزين لهم عبادة التماثيل، وما أشد جهلهم حين اعتقدوا أنهم على حق، بل جادلوا من أجل نصرة مذهبهم، وما أوهى ما نطقوا به وما أجابوا به، فقالوا له: (وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:53]
فقد أقروا بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تملك ضرًّا ولا نفعًا، واعترفوا بأنهم ما عبدوها إلا اقتداءً بأسلافهم، واتباعًا لآبائهم، فكانوا بذلك عن النظر الصحيح نائين، وعن التفكير السليم بعيدين، فقال لهم إبراهيم: (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأنبياء:54] فقالوا له: أتنتقص آلهتنا وتسب أصنامنا بالحق أم أنت من اللاعبين؟! فقال لهم إبراهيم: بل أنا جاد لا هازل، قد جئتكم بالدين القويم، وأرسلت إليكم بالهدى دين الحق المبين، فإن ربكم المستحق للعبادة هو رب السماوات والأرض ومدبر شؤونهما، أما هذه الأصنام فهي حجارة صماء تنفع ولا تضر، فعليكم أن تجتنبوا عبادتها، واحذروا فتنة الشيطان وإغواءه، وفكروا بعقولكم، وانظروا بأبصاركم لعلكم تهتدون، وقد سبقتكم في عدم عبادتها فلم تضرني شيئًا، ثم أظهر لهم بديع صنع الله الذي يخلق ويهدي ويرزق ويشفي ويميت ويحيي ويغفر الذنوب فقال: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء 77 : 82]
ولما لم تنفعهم الحجة وأعرضوا عن دعوته ورأى أنهم متعلقون بأوهامهم، متمسكون بعبادة أصنامهم، بيّت الشر لها، وأقسم ليكيدنها حتى يروا أنها لا تضر ولا تنفع ولا تدفع الأذى عن نفسها فتدرأه عنهم.
وكان لهم عيد يقيمونه في كل عام، يقضون أيامه خارج المدينة يهرعون إليه بعد أن يضعوا طعامًا كثيرًا في بيت العبادة، حتى إذا ما رجعوا من عيدهم أكلوه فرحين وأقبلوا إليه مغبطين، وقد باركته الآلهة وأضفت عليه الخير، ولما هموا بالذهاب إلى عيدهم طلبوا أن يرافقهم، فأبى وامتنع، وقد عقد العزم على أن يهدم ويكسّر معبوداتهم، وادعى العلة وتظاهر بالمرض والسقم، ولم تكن به علة ولا مرض، ولكنه كان سقيم النفس كاسف البال، ينقطع فؤاده حزنًا على إشراك قومه لأنهم لم يستجيبوا لدعوته.
ولما كانوا يخشون الداء ويهابون الوباء تولوا عنه ولم يستمسكوا بدعوته، بل أظهروا الرضا عن تخلفه والاقتناع بحجته، وخرجوا إلى عيدهم مسرورين، فلما خلت المدينة منهم ذهب إلى أصنامهم، ودخل إلى بيت عبادتهم، فوجده باحة قد امتلأت بالتماثيل، وانتشرت في أرجائه الأصنام، ورأى الطعام متراكمًا عندها، فخاطبها متهكمًا بها محتقرًا لشأنها: ألا تأكلون؟! فلم يجيبوه، فقال: (مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ)، أي لا تتكلمون، وأنى للحجارة أن تتكلم!! وللخشب المسندة أن تعقل!! بعد ذلك أخذ يلطمها بيده ويركلها برجله، ثم غضب لربه واشتد غضبه، فأخذ فأسًا وأخذ يكسرها ويحطمها، وما زال بها حتى صيّرها حطامًا إلا كبيرهم، فإنه أبقى عليه ليرجعوا إليه ويسألوه عمن انتهك حرمة بيتهم وكسر أصنامهم، حتى إذا استبانوا أنها لا تدافع عن نفسها ممن أرادها بسوء، ثابوا إلى رشدهم ورجعوا عن مكابرتهم.
تركها حجارة مبعثرة وخشبًا متناثرة وانصرف عنها وهو مطمئن البال قرير العين؛ لاستئصاله جذور الشر وطمسه معالم الشرك، وأقام يرقب ما يبدو منهم، وينتظر أثر فعلته في نفوسهم، وأخذ العدة مما قد يرمونه به أو يجادلونه فيه.
ولما رجعوا من عيدهم ورأوا ما حل بمعبوداتهم، بهتوا لهول ما رأوا، وسقط في أيديهم عندما وجدوا آلهتهم مهشمة مكسرة، وتساءلوا: (مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:59]عند ذلك قال قائلهم: سمعنا فتى يذكر آلهتنا ويعيب عبادتنا ويزدريها ويحتقرها يقال له: إبراهيم، فهو المجترئ عليها والمحطِّم لها، فاعتزموا أن يوقعوا به أشد العقاب لما ارتكب من جرم، وثارت ثائرة القوم ونادوا بأن يأتوا به على أعين الناس ليشهدوا عليه بمقالته، ويروا ما يحل به من القصاص.
وقد كانت أمنية إبراهيم -عليه السلام- أن يجتمع القوم في صعيدٍ واحد، ليقيم لهم الحجة جميعًا على بطلان ما يعتقدون، ويريهم البرهان على فساد ما هم عليه عاكفون، فلما اجتمعوا ليروا عقابه، وابتدؤوا محاكمته أمام جموع الناس وقالوا له: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ) [الأنبياء:62] فلما سنحت له الفرصة للإجابة جرّهم بأسلوبه الحكيم إلى طريق لم يقصدوه ليلزمهم الحجة، فيرجعوا إلى صوابهم ويتوبوا إلى رشدهم، فقال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء:63] يا لها من حجة دامغة نبهتهم من غفلتهم، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون وقالوا: (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)، فتركتموها لا حافظ لها ولا رقيب، ثم أدركتهم الحيرة فأطرقوا برؤوسهم مفكرين ثم قالوا: لقد علمت -يا إبراهيم- أنها لا ترد سؤالاً، ولا تحير صوابًا، فكيف تأمرنا بسؤالها؟! أقروا بعجزها عن الإجابة وعدم قدرتها على أن تصد المعتدين عليها، فأخذ يبكتهم على جهلهم، ويتأفف من ثباتهم على الباطل بعد وضوح الحق، ثم قال لهم: (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء66 :67]
فلما لم تقم لهم حجة عدلوا عن الجدل والمناظرة وعمدوا إلى القوة يسترون بها هزيمتهم، ويخفون بها باطلهم، وقالوا: (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) [الأنبياء:68]
ونكمل -بمشيئة الله- في الخطبة الثانية. أسأل الله أن ينفعنا بهدي كتابه وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنجا خليله إبراهيم من النار وسعيرها، ورد كيد أعدائه في نحورهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، وأطيعوه واحمدوه كما هداكم للإسلام.
عباد الله: إكمالاً لما تحدثنا به في الخطبة الأولى عن قصة تحطيم إبراهيم -عليه السلام- للأصنام نقول وبالله التوفيق: إن قومه أرادوا إحراقه بالنار ولا ذنب له، إلا أنه قال: ربي الله، ولا جرم له إلا أنه حطم أصنامهم وأنكر عبادتهم لأوثانهم، ولكن إعلان التوحيد والجهر بدعوة الناس إليه يقض مضاجع الطغاة المفسدين، ويكدر صفو عيشهم؛ لأنه يخلّص الناس من ربقة استعبادهم، وتنكشف به خفايا أراجيفهم، فيحذر الناس الوقوع في شراكهم، وينفضون من حولهم، فيذهب الطغاة، ويُحِدُّ الله -عز وجل- من فسادهم، عند ذلك بدؤوا يفكرون كيف يحرقونه لما في قلوبهم من حقد متأجج، علمًا بأن شرارة تكفي لإحراق مدينة بأكملها، ولكنهم أبوا إلا أن تكون نارًا هائلة، فجمعوا حطبًا كثيرًا، وجعلوا ذلك قربانًا لآلهتهم، وبرًّا بمعبوداتهم، حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت نذرت إن عوفيت لتجمعن حطبًا لحريق إبراهيم.
مكثوا مدة يجمعون الحطب حتى ضاق المكان بأكوامه، ثم بنوا حظيرة واسعة أشعلوا النار فيها، فاضطرمت وتأججت واندلع لهيبها واحمرّ حجرها، ثم قيدوا إبراهيم ورموا به فيها وهم له كارهون، ولعذابه مغتبطون فرحون.
ألقي إبراهيم -عليه السلام- في النار المستعرة وقبله مفعم بالإيمان، وثقته بالله شديدة، وأمله في النجاة وطيد، لذلك لم تزعزعه النكبات، ولم تزلزله الحوادث، ولم ترعه النار، بل أقبل إليها بصدر رحب ونفس مطمئنة، فلما صار في جوف النار، يخفيه دخانها، ويحتويه لهيبها، ويغلب على صوته زفيرها وشهيقها، تأتي قدرة العظيم، فلم تحرق النار إلا الوثاق -أي الحبل الذي كان مربوطًا به- فصار حرًّا طليقًا، حفظه الله وأنقذه من سعيرها، وجعلها عليه بردًا وسلامًا، فلما خبا وانقشع دخانها وسكن أوارها وجدوه معافى سليمًا، ورأوه حرًّا طليقًا، فعجبوا لحاله ودهشوا لنجاته، وانصرفوا عنه ناقمين، وتواروا عن أعين الناس خجلين.
إنها معجزة الله العظمى التي أنجا الله بها إبراهيم -عليه السلام-، ومع ذلك لم يؤمن بإبراهيم إلا نفر قليل من قومه كتموا إيمانهم عن القوم خوفًا من الطغاة وحذرًا من الموت، ورجع كيد الطغاة المفسدين في نحورهم، وجعلهم الله من الخاسرين.
أسأل الله العزيز الحكيم، الذي نجا إبراهيم الخليل -عليه السلام- أبا الأنبياء من النار ولهيبها، وجعلها عليه بردًا وسلامًا عليه، أن ينجينا وإياكم من عذاب النار وعذاب جهنم، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، الفائزين بجنات النعيم، الفردوس الأعلى من الجنة، وصلوا وسلموا -عباد الله- على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم.
التعليقات