قصة إبراهيم -عليه السلام- مع الملك الظالم والاستعداد لرمضان

الشيخ أحمد بن ناصر الطيار

2013-07-04 - 1434/08/25
عناصر الخطبة
1/ قصة دفاع إبراهيم –عليه السلام- عن التوحيد 2/ قصته وزوجه –عليهما السلام- مع الملك الظالم 3/ الظالم 4/ دروس مستفادة من القصة 5/ فضائل شهر رمضان 6/ الاستعداد لشهر رمضان

اقتباس

واعلموا أنَّ في قصص الأنبياء والصالحين عبرة, وفي أخبارهم وسِيَرِهم أكبر مَوعظة. فمن هذه القصص العظيمة, ما ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ -عليه السلام- قَطُّ, إِلاَّ ثَلاَثَ كَذبَاتٍ, ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ -أي: في الدفاع عن وجود الله تعالى، وبيانِ حُجَّته على أن المستحقَّ للإلهية, هو الله تعالى لا غيرُه- وهي قَوْلُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ), وَقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وواحدة في شأن...".

 

 

 

 

الحمدُ لله الذي تَتِمُّ بنعمته الصالحات, وشَمِلَتْ رحمتُه جميعَ المخلوقات, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أقام الحُجَّةَ على عباده بالبراهين والآيات.

 

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, ختم الله به الرِّساَلات, وأنقذ به البشريةَ من الأهواء والضلالات, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه السابقين إلى الخيرات, الحائزين على أعْلَى المقامات, وسلم تسليما كثيراً إلى أنْ يرث الله الأرض والسموات.

 

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنَّ في قصص الأنبياء والصالحين عبرة, وفي أخبارهم وسِيَرِهم أكبر مَوعظة.

 

فمن هذه القصص العظيمة, ما ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ -عليه السلام- قَطُّ, إِلاَّ ثَلاَثَ كَذبَاتٍ, ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ -أي: في الدفاع عن وجود الله تعالى، وبيانِ حُجَّته على أن المستحقَّ للإلهية, هو الله تعالى لا غيرُه- وهي قَوْلُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ), وَقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وواحدة في شأن سارّة...".

 

وذلك أن إبراهيم -عليه السلام-, اعتذر عندما طلب الكفار أنْ يَخْرُجَ معهم, وأخبرهم بأنه سقيم، أي: مريضٌ لا يقوى على الذهاب, لكي يَخْلوَ بالأصنام فيكسرَها، ففعل ذلك وكسَّرها، وترك كبيرَ الأصنام.

 

فلما رجعوا من عيدهم, وجدوا الأصنام مكسَّرة: (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:59]، فقال بعضهم: (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) [الأنبياء:60]، فلما أحضروه سألوه وقالوا: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ) [الأنبياءك62]، فأجابهم بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء:63]. فهذه الكذبات كانت في ذات الله.

 

وأما الثالثةُ فكانت فِي شَأْنِ زوجه سَارَةَ, والدِّفاع عن عرضها وشرفها.

 

قال ابن حجر -رحمه الله-: "خَصَّهُمَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ قِصَّة سَارَةَ وَإِنْ كَانَتْ أَيْضًا فِي ذَات اللَّه, لَكِنْ تَضَمَّنَتْ حَظًّا لِنَفْسِهِ, وَنَفْعًا لَهُ, بِخِلَافِ الثِّنْتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ, فَإِنَّهُمَا فِي ذَات اللَّه مَحْضًا" اهـ.

 

ثم ذكر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-, قصَّةَ سارةَ مع الملكِ الجبار فقال: فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ, وهو ملكٌ على مصر, وكان إبراهيم -عليه السلام-, قادماً من الشام, فمر في طريقه على مَصْر وَمَعَهُ سَارَةُ, وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ وأجْملَهم.

 

وقد عَلِمَ -عليه السلام-, بظلمِ صاحبِ مِصرَ وجبروته, فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ, إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي, يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ, فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي, فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الإِسْلاَمِ, فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ.

 

وهذه الكَذْبةُ الثالثة, التي هي في حقيقتها توريةٌ, وقد أَحَسَّ -عليه السلام-, بِأَنَّ الْمَلِك سَيَطْلُبُهَا مِنْهُ, فَأَوْصَاهَا بهذه الوصيَّة.

 

وقد ذكر بعضُ العلماء, أنْ إبراهيمَ -عليه السلام-, إنما أمرها أنْ تقول بأنها أختُه: لأنَّ مِنْ رَأْي هذا الْجَبَّار, أَنَّ مَنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً لَا يَقْرَبُهَا, حَتَّى يَقْتُل زَوْجهَا, فَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيم هِيَ أُخْتِي، حتَّى يتخلَّص من القتل.

 

 فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ, رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْملكِ الظالم, فأَتَاه فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ, لاَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلاَّ لَكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فطلبوها منه, فأُخذت من بين يديه, فأوكلَ حفظَها إلى الله -تعالى-, فَقَامَ -عليه السلام- إِلَى الصَّلاَةِ, يُناجي مَلِكَ الملوك, أنْ يحفظَها من هذا الظالم الآثم.  

 

فسارتْ معهم بجسدها, وسارتْ مع الله بقلبِها وروحِها, فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ, ووقفت عليه وهو مُحاطٌ بالخدمِ والحشمِ, يا لها من لحظاتٍ عصيبةٍ شديدة, يوم أنْ تقف امرأةٌ عفيفةٌ طاهرة, بين يديْ جبارٍ ظالم, يريد انتهاكَ عِرْضِها, وتدنيس شرفِها, وهي ضعيفةٌ وحيدة أمام هؤلاء الطغاة!.

 

فَلمَّا قرُبت من قصره طلبت منهم أن يُمكِّنوها من الوضوء والصلاة, فتوضَّأت وصلَّتْ, وألحَّت على الله بالدعاء: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ, وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي، فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ.

 

فمدَّ هذا الظالمُ ناظرَيْهِ إليها, فرأى جمالَها وحُسْنَها -رضي الله عنها-, فلَمْ يَتَمَالَكْ نفسه, فبَسَطَ يَدَهُ النجسةَ إِلَيْهَا, وهي في تضرُّعٍ والْتِجاءٍ إلى الله, فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً, فأحسَّ بالألم الشديد, فَقَالَ لَهَا: اسْألي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلاَ أَضُرُّكِ. فَفَعَلَتْ.

 

فَعَادَ إلى مسِّها, فعادت إلى دُعائها وتَضَرُّعها, فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الأُولَى, فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ, فَفَعَلَتْ.

 

فَعَادَ إلى مسِّها مرةً ثالثة, فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ, فَقَالَ: اسْألي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي, فَلَكِ اللَّهَ أَنْ لاَ أَضُرَّكِ. فَفَعَلَتْ, وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ, فعلم حينها أنَّه ممنوعٌ منها, وأنه لا سبيل له إليها.

 

فدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا, فَصرخ في وجهه وقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ, وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ, فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي, وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. أَيْ: وَهَبَهَا لَهَا لِتَخْدُمهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمهَا وأكْبرَها, أَنْ تَخْدِم نَفْسهَا.

 

فخرجت من عنده مُعزَّزةً مُكرَّمة, مُصانةً مَحْفوظة, فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي, فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام-, وكان في شوقٍ وولهٍ لمعرفةِ ما حلَّ بها, ومنذ فارقها, وهو يدعو الله أنْ يحفظَها, فَقَالَ لَهَا, مَهْيَمْ! أي: ما الأمر؟ فقَالَتْ: خَيْرًا, كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْفَاجِرِ, وَأَخْدَمَ خَادِمًا.

 

وهذا الْحَدِيث يا أمة الإسلام: يشتمل على فوائدَ كثيرة, منها: إِبَاحَةُ الْمَعَارِيض, وهي مأخوذةٌ من التَّعْرِيضِ, وهو أنْ تتكلَّم بكلامٍ, تقصد به معنىً في الباطن, ويفهمَ السامع معنىً آخر في الظاهر، كقولِ إبراهيم -عليه السلام-: هي أختي, وقصده أخته في الإسلام, وأما الملك الظالم, ففهم أنها أخته في النسب.

 

وهي جائزةٌ عند الحاجة, وأما أنْ تكون ديدناً للإنسان, فإنَّ أهل العلم منعوا من ذلك.

 

وَفيه أيضا: قَبُول صِلَة الْمَلِك الظَّالِم، وَقَبُول هَدِيَّة الْمُشْرِك؛ فهذا الملكُ الظالم, أهدى لسارةَ هاجرَ -عليهما السلام-, ولكن يُشْترَط لمن قَبِلَ هَدِيَّة الظَّالِم والْمُشْرِك: ألا يميل ويعطِف عليه.

 

وفي هذه القصةِ أيضا: إِجَابَة الدُّعَاء بِإِخْلَاصِ النِّيَّة، وَكِفَايَة الله لِمَنْ أَخْلَصَ فِي الدُّعَاء بِعَمَلِهِ الصَّالِح.

 

وَفِيهِ اِبْتِلَاء الصَّالِحِينَ لِرَفْعِ دَرَجَاتهمْ, وتعظيمِ أجورهم.

 

وَفِيهِ أَنَّ مَنْ حصل عليه كَرْبٌ أو ضائقة فإنه يَنْبَغِي عليه أَنْ يَفْزَع إِلَى الصَّلَاة, فإذا مَرِضتَ فالْجأ إلى الصلاة قبل الذهاب إلى الطبيب, وإذا ظُلمت فالْجأ إلى الصلاة قبل الذهاب إلى المحكمة, فما أحرى مَن التجأ إلى الله أنْ يكشف ما أهمَّه!.

 

وَفِيهِ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَشْرُوعًا لِلْأُمَمِ قَبْلَنَا, وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وحدها, فقد توضأتْ سَارَةُ قبل دخولها على الظالم, وصلَّت ودعتِ الله -تعالى-.

 

نسأل الله تعالى أنْ يُلْهمنا الصواب, وأنْ يجعلنا من ذوي العقولِ والألباب؛ إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، أوجب صيام رمضان على القادرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

 

أما بعد: أيها المسلمون، ها نحن على أبواب شهر رمضان, ها نحن ننتظر بفارغ الصبر شهر العتقِ من النيران.

 

كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُبشر أصحابه بقدومه, فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ" رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.

 

إنه شهرٌ تُصفد فيه مردة الشياطين, وتُغَلَّقُ فيه أبوابُ الجحيم. قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ, صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الجِنِّ, وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلّ لَيْلَةٍ" أخرجه ابن ماجة والترمذي وابن حبان وحسنه الألباني.

 

هذا الشهر الكريمُ الْمُبارك... فيه أجواء إيمانيَّة عظيمة, نعيش فيه مع القرآن, نعيش فيه مع الصلاةِ والقيام, نعيش مع الصدقة والبذل والعطاء, والبِرِّ والصِّلةِ والإخاء.

 

فلْنستعد له بالعزيمةِ على العبادة والقيام, لا أنْ نستعد له بصنوف الطعام, ومشاهدة الْمُحرمات من المسلسلات والأفلام.

 

فما أشدّ المعاصي في هذا الشهر الكريم! وما أجْرأ العاصي فيه على ربِّ العالمين!.

 

نسأل الله -تعالى- أنْ يُبلغنا رمضان, وأنْ يُعيننا فيه على الصيام والقيام؛ إنه جوادٌ كريم.

 

 

 

 

المرفقات
قصة إبراهيم -عليه السلام- مع الملك الظالم والاستعداد لرمضان.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life