عناصر الخطبة
1/ إبراهيم -عليه السلام- من أفضل الرسل الكرام 2/ حرصه على هداية أبيه 3/ عبادة الأصنام دليل على انحطاط عقل بعض البشر 4/ خوف إبراهيم -عليه السلام- من الشرك 5/ رفقه في دعوة أبيه 6/ توعد الأب بتعذيب ابنه إن لم يكف عن دعوته 7/ استغفار إبراهيم لأبيه ثم نهي الله له عن ذلكاقتباس
فقد كان إبراهيم -عليه السلام- حريصًا كل الحرص على هداية الناس كلهم، وكان أحرص ما يكون على هداية والده الذي كان يعبد الأصنام من دون الله -عز وجل-، واسم والد إبراهيم آزر، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، ولا غرابة في أن يحرص إبراهيم على هداية والده؛ إذ إن هذا الحرص دليل على ..
الحمد لله رب العالمين، أنزل الكتاب المبين، هدى وذكرى للمؤمنين، وأرسل الرسل الكرام، ليبينوا للناس الصراط المستقيم، فمن اتبعهم نجا وفاز بجنات النعيم، ومن خالفهم وسلك غير طريقهم كان مآله إلى عذاب الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، واحمدوه على أن جعلكم مسلمين، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
عباد الله: إن من أفضل الرسل الكرام، أبونا إبراهيم الخليل -عليه السلام- خليل الرحمن، قال الله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)[النساء:125]
ومواقفه وفضائله لا يمكن أن تحصر في خطبة واحدة، ولكن سنتحدث عن بعض منها، ومن ذلك ما ورد في سورة مريم، قال الله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا) [مريم41 :42] .
فقد كان إبراهيم -عليه السلام- حريصًا كل الحرص على هداية الناس كلهم، وكان أحرص ما يكون على هداية والده الذي كان يعبد الأصنام من دون الله -عز وجل-، واسم والد إبراهيم آزر، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأنعام:74]، ولا غرابة في أن يحرص إبراهيم على هداية والده؛ إذ إن هذا الحرص دليل على البر وحسن المصاحبة.
وإبراهيم -عليه السلام- كان رسولاً من رب العالمين ومن أولي العزم من الرسل، أما أبوه فقد كان كافرًا معرضًا عن الهدى متبعًا غير سبيل المؤمنين، فسبحان الله الحي العلي الحكيم، يخلق ما يشاء ويختار، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، إنّ كفر آزر لم يضر ابنه إبراهيم -عليه السلام- شيئًا؛ إذ (لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وإن إيمان إبراهيم وكونه رسولاً كريمًا على الله تعالى لن ينفع الأب الكافر شيئًا، ما دام معرضًا عن سبيل الله متبعًا لهواه عابدًا للأصنام، وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟! فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب: إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي من أبي الأبعد؟! فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم: ما تحت رجليك؟! فينظر فإذا هو بذبخ ملطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار". رواه البخاري.
والذبخ: هو ذكر الضباع، فعلى الإنسان أن يعمل الخير، ولا يقصر فيه معتمدًا على أنه ابن فلان ووالده فلان، فلن ينفع الإنسان إلا ما قدم.
عباد الله: إن عبادة الأصنام تدل على انحطاط العقل البشري، فكيف يرضى الإنسان الذي ميّزه الله بالعقل والتفكير والسمع والبصر واليد والرجل وسائر الأعضاء، كيف يرضى بأن يعبد حجرًا أو شجرًا أو ميتًا لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر ولا يغني من الله شيئًا؟! إنه تلاعب الشيطان بعقول البشر المعرضين عن الصراط المستقيم، فالأصنام لا تستطيع أن تجلب لنفسها الخير فضلاً عن أن تجلبه للآخرين.
وكان إبراهيم -عليه السلام- يدعو الله -عز وجل- أن يحفظه ويجنبه وذريته عبادة الأصنام؛ قال تعالى: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35]؛ لأن عبادة الأصنام شرك بالله، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو الله كثيرًا فيقول: "يا مقلب القلوب: ثبت قلبي على دينك"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن قلب الآدمي بين أصبعين من أصابع الله، فإن شاء أزاغه، وإن شاء أقامه". مسند الإمام أحمد.
ومن الشرك بالله: عبادة القبور أو بعض أهل القبور، واعتقاد أن الأموات ينفعون أو يضرون أو يرزقون أو يشفون من الأسقام، وهذا -والعياذ بالله- شرك أكبر مخرج من الملة، فالميت لو كان نافعًا أحدًا لنفع نفسه، ولما مات وما مرض، وإبراهيم -عليه السلام- كان يدعو أباه إلى الصراط المستقيم، وكان الأجدر بالأب الاستجابة، ولكنها إرادة الله تعالى أن يعيش والده ويموت كافرًا، وعلى الداعي أن يتبع الأسلوب الجيد الجميل والكلمات المؤثرة، والعبارات التي تلامس العاطفة والقلب مع مخاطبتها للعقل والتفكير، وهذا هو ما فعله إبراهيم -عليه السلام- وهو يدعو أباه فيقول: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) [مريم42 :43].
فإبراهيم -عليه السلام- كان يُكرر قوله: (يَا أَبَتِ) في كل عبارة يقولها بأسلوب محبة وعطف ولين، وهذا الأسلوب مفيد في الدعوة إلى الله، وخاصة مع من هو أكبر سنًّا من الداعية، ليشعره بالقرب، وأن الدافع لها محض المحبة وإرادة الخير للمدعو، وبأنه مشفق عليه من عذاب الله، مريد لمصلحته، لا يتكلم بفوقية واستعلاء، ولا يستخدم اللفظ الغليظ، ولا الكلمات القاسية الجافة الجارحة.
وفي معرض مناصحة إبراهيم -عليه السلام- لأبيه يقول له: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) [مريم:44]، فالابن المؤمن إبراهيم -عليه السلام- يحذّر أباه من عبادة الشيطان؛ لأن الشيطان عاصٍ للرحمن، مريد هلاك الإنسان، وعبادة الشيطان تكون بطاعته والانسياق وراء إضلاله، والبعد عن هدى الله المبين وصراطه المستقيم، فمن أطاع الشيطان فقد خالف أوامر الرحمن، وعصاه واتخذ الشيطان وليًّا من دون الله، وإبراهيم -عليه السلام- بيّن لأبيه أنه مشفق عليه، ويخاف أن يمسه عذاب الله الشديد فيقول: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) [مريم:45].
وعذاب الرحمن هو النار التي يجب أن يحذرها كل إنسان، فأجسادنا ليست لها قدرة على عذاب النار ولا صبر، يبكي أهلها ويتمنون الخروج منها والعودة إلى الدنيا لعمل الصالحات، ولكن هيهات، مضى وقت العمل وجاء وقت الجزاء على العمل، ينادون من شدة ما يجدون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) [المؤمنون:107] ، فيأتيهم الرد الحاسم من الرب الحاكم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:108] ، ولا يظلم ربك أحدًا، وكل يجازى بما عمل، وقال الله تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:37].
اللهم إنا نشكو لك قسوة في قلوبنا، اللهم أيقظ قلوبنا من رقدات الغفلة، ووفقنا لاغتنام ساعات المهلة، وتب علينا وارحمنا وأجرنا -يا مولانا- من عذاب الجحيم، واجعل مآلنا إلى جناتك جنات النعيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك أن تنفعنا بهدي كتابك الكريم، وسنة خاتم المرسلين، وأن تجعلنا هداة مهتدين.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء برحمته وفضله، ويضل من يشاء بحكمه وعدله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطعيوه واحمدوه أن هداكم للإسلام.
عباد الله: رغم أن إبراهيم -عليه السلام- قد اتبع مع والده الأسلوب الرقيق والكلمات المؤثرة وحرصه الشديد على إسلام والده، ومع أدبه الجم مع والده، إلا أن الوالد لم يقدر كل هذا ولم يتبع الحق الذي جاء به إبراهيم -عليه السلام-، بل استمر على كفره وضلاله مع قومه، وليس هذا فحسب، بل قابل دعوة إبراهيم -عليه السلام- بالجفوة والغلظة والقسوة، فقال: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم:46].
إنه لأمر مستغرب، فكيف يرجم أب ابنه ويطلب منه أن يبتعد عنه ويهجره وهو يدعوه بشفقة إلى ما ينجيه في الدنيا والآخرة!! حقًّا إنه الكفر والضلال والانحراف، ومع كل ذلك فلم يقابل إبراهيم -عليه السلام- قسوة والده بمثلها، بل احتفظ برويته، وعرف للأبوة حقها، وتحدث معه بأسلوب لين رقيق فقال: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم:47]، فلم يقابل السيئة بمثلها، فعلى المسلم أن يقتدي بأبي الحنفاء إبراهيم -عليه السلام- في مواقفه، وقد وعد إبراهيم -عليه السلام- والده بأنه سيستغفر له، وقد استغفر له تنفيذًا لوعده، ونهاه الله -عز وجل- عن الاستغفار له وللمشركين، قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [الممتحنة:4].
إن المسلم لا يجوز له أن يستغفر للمشركين مهما كانت قرابتهم له، قال تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة:114].
وإبراهيم -عليه السلام- عندما قدّم طاعة الله على طاعة والده واعتزل قومه الكافرين كافأه الله تعالى بأن وهبه الله إسحاق ويعقوب، رغم أنه كان كبير السن وكانت زوجته عقيمًا، قال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا *وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [مريم49 :50]، فهذا فضل الله -عز وجل- على عبده وخليله إبراهيم -عليه السلام-.
عباد الله: إبراهيم خليل الله -عليه الصلاة والسلام- أبو الأنبياء، اتصف بالكرم، وأثنى الله -عز وجل- عليه في كتابه الكريم في عدة سور، ولذلك فإننا -بمشيئة الله تعالى- سنتحدث عن مواقف وقصص أخرى له -عليه السلام- في خطب أخرى.
وصلوا وسلموا -عباد الله- على من أرسله الله نبيًّا ورسولاً من ذرية إبراهيم -عليه السلام- خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم.
التعليقات