عناصر الخطبة
1/ قصة أصحاب الجنة 2/ العبرة من القصة في كتاب الله 3/ قصة أيوب عليه السلام 4/ من أسباب الفرج وزوال الشدةاهداف الخطبة
اقتباس
قصة أصحاب الجنة وردت في سورة القلم في الآيات 17- 33، قال ابن كثير: إنهم من بني إسرائيل في قرية ضروان من قرى اليمن، حيث كانت لرجل من أهل الخير والصلاح، يهتم بشأنه هذا أشد الاهتمام، فزاده الله خيرًا، وعندما يأتي وقت قطف الثمار والحصاد يفد إليه جماعات الفقراء، فقد عودهم على ذلك كل عام، فيعطيهم نصيبًا وافرًا، هذا يملأ مكتله، وذاك ..
الحمد لله رب العالمين، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واحمدوه واشكروه على نعمه وأخرجوا حقها، فما آتاكم الله من نعم أوجب عليكم أن يكون في أرزاقكم حق معلوم للسائل والمحروم.
عباد الله: قصة أصحاب الجنة وردت في سورة القلم في الآيات 17- 33، قال ابن كثير: إنهم من بني إسرائيل في قرية ضروان من قرى اليمن، حيث كانت لرجل من أهل الخير والصلاح، يهتم بشأنه هذا أشد الاهتمام، فزاده الله خيرًا، وعندما يأتي وقت قطف الثمار والحصاد يفد إليه جماعات الفقراء، فقد عودهم على ذلك كل عام، فيعطيهم نصيبًا وافرًا، هذا يملأ مكتله، وذاك يحمل في ثيابه.
إلا أن أبناءه لم يطيقوا صبرًا بما رأوا من والدهم، حيث رأوا مال أبيهم موزعًا بين الفقراء والمساكين، حتى أصبحوا هم والسائلون سواءً، بل ربما كان هؤلاء أحسن منهم حالاً وأكثر بالجنة استمتاعًا، فأنكروا على أبيهم ذلك فقال لهم: ما أراكم إلا خاطئين في الوهم والتقدير، ما هذا المال الذي تريدون أن تستأثروا به بمالي ولا مالكم، إنما هو مال الله مكنني فيه وأمنني عليه، على أن أنفقه في أكرم وجوه الخير وأنفعها لخلقه، فللفقراء والمساكين حقهم، ولأبناء السبيل نصيبهم، وللطيور والبهائم طعامها، وما فضل بعد ذلك فهو لي ولكم، ذلك ما فعلته وعودته للفقراء، وأنفذت فيه حكم الله، والمال بهذا يزكو ويزيد، وقد تعودت على ذلك منذ شبابي، والزمتها رجلاً وكهلاً، فكيف بي أن أتركها اليوم شيخًا كبيرًا فانيًا؟! فعلى مهلكم، فشعري كما ترون قد شاب، وجسمي قد نحل، وعودي قد ذوى، والأسقام أخذت سبيلها إليّ، ولن ألبث إلا قليلاً حتى ألقى الله، وإنكم سترثون البستان والمال والنعيم والشاء، وأنتم بين أمرين، إن أنفقتم فإن الله وعد من أنفق خلفًا، وإن بخلتم فإن الله أنذر ممسكًا تلفًا، وله فيكم أمر هو بالغه.
ثم لم يلبث الشيخ الكبير طويلاً حتى مات، ومضت الأيام سريعًا، وتهيأت الحديقة للجني، ودنت ثمارها للقطف، واستشرف الفقراء لنصيبهم في الثمر كعادتهم كل عام، واجتمع الأبناء يديرون الرأي ويعدون شأنهم للحصيد.
قال قائل منهم: لم يعد بعد اليوم في البستان حق لسائل أو فقير، ولكل منا نصيبه يثمره إذا شاء ويخزن منه ما يشاء، إننا لو فعلنا ذلك فإن شأننا سيعلو، ومالنا سيزيد، وقال أوسطهم -وهو أقربهم إلى أبيهم في الطبع وأحبهم إلى فعل الخير-: لكنه سيقضي على بستانكم من جذوره، إنكم لو حرمتم الفقراء والمساكين لا تأمنون منهم شرًّا واعتداءً، وقد يثورون عليكم، امنحوهم حقهم، واذهبوا مذهب أبيكم في إرضائهم، وما بقي بعد ذلك فإن الله -عز وجل- ينميه ويبارك فيه، ولكنهم صاحوا في وجهه: لا تقترح شيئًا لا تملكه، وكف عنا نصائحك، فلن تجد منا إلا آذانًا صماء.
قال: أما إذا رأيتم أن لا تسمعوا قولي أو ترغبوا في نصحي فعليكم بالصلاة، فإنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، وقد نردكم إلى الحق، وتعطف قلوبكم على الفقراء، ولكنهم ما استمعوا له ولا أجابوا، وبيتوا أمرهم عشاءً أن يقوموا أول الصبح وقبل أن ينبلج النهار ويقوم الفقراء من نومهم ويعمدوا إلى الحديقة يقطفون ثمارها ويقتسمون ثمارها فيما بينهم، قال تعالى عنهم: (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ) [القلم:18]، وعَلِمَ الله -عز وجل وهو يعلم بكل شيء- سوء نيتهم وما انعقد عليه رأيهم من حرمان المساكين، فأرسل إلى جنتهم بلاءً بالليل قبل أن يصلوا إليها قلع نبتها وأسقط ثمرها وجفف أوراقها وأعوادها، وطلع عليهم النهار وهم على أسوار الحديقة، فأخذوا يتساءلون: أهذه جنتنا؟! وقد تركناها بالأمس مورقة الشجر، جارية الماء، فواحة الزهر، دانية القطوف!! ما نظن أن هذه حديقتنا وإننا لضالون، فقال أوسطهم الذي نصحهم قبل ذلك: بل هي جنتكم، حرمتم منها كما كنتم تحرمون الفقراء، وجوزيتم بأسوأ ما يجزى البخيل الشحيح، قال تعالى عنهم: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ *فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) [القلم28 :32].
ولكن مضى قدر الله، وبقي أسفهم وندمهم، وليذوقوا عذاب كيدهم: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [القلم:33]، وقد وردت هذه القصة في كتاب الله الكريم ليذكر الله -عز وجل- ابتلاء مشركي مكة في إشراكهم وكفرهم بنعمة الله، وإصرارهم على تكذيب رسول الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فالله -عز وجل- ينذرهم ويخوفهم بالابتلاء، وأن لا تكون عاقبتهم كعاقبة أصحاب الجنة في امتحانهم، ثم دمار جنتهم وتأسفهم وتألمهم وندمهم، نسأل أن نكون من المتعظين المعتبرين.
أسأل الله أن ينفعنا بهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واحمدوه واشكروه على نعمه.
قصة أيوب -عليه السلام- وردت في عدة سور من كتاب الله، ومنها سورة ص في الآيات من 41 – 44 وسورة الأنبياء 83 – 84.
فأيوب نبي الله -عليه السلام- مؤمن قانت لله، ساجد عابد، بسط الله له في رزقه، وأمد له في عمره، وفي ماله حق معلوم للسائل والمحروم، وأيامه عبادة لربه وشكر نعمائه، قال تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء83 :84] ، أي اذكر -يا محمد- أيوب وما أصابه من البلاء، ودعاءه ربه في كشف ما نزل به، واستجابة الله تعالى دعاءه، وما امتن عليه في رفع البلاء، وما ضاع له بعد صبره من النعماء، لتعلم أن النصر وأن عاقبة العسر اليسر، وأن لك الأسوة بمثل هذا النبي الصبور فيما ينزل بك أحيانًا من ضر، وأن البلاء لم ينجُ منه الأنبياء، بل هم أشد الناس ابتلاءً كما في الحديث: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل والأمثل". أخرجه الترمذي.
وإن من أسباب الفرج وزوال الشدة دعاء الله تعالى والابتهال إليه والتضرع له وذكره بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأن البلاء لا يدل على الهوان والشقاء، فإن السعادة والشقاء في هذا العالم لا يترتبان على صالح الأعمال وسيئها؛ لأن الدنيا ليست دار جزاء، وإنما هي دار عمل، وإن عاقبة الصدق في الصبر، وهي توفية الأجر ومضاعفة البر.
وقد روي أن أيوب لما امتحن بما فقد من أرزاقه وهلك به جميع آل بيته وبما لبث يعاني من قروح جسده آلامًا وصبر وشكر رحمة مولاه الله -عز وجل-، فعادت له صحة بدنه، وأوتي أضعاف ما فقده، ورزق عدة أولاد، وعاش عمرًا طويلاً، أبصر أولاد أولاده إلى الجيل الرابع، ولذا قال الله تعالى: (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)، أي تذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة.
وبالجملة فالسر هو تثبيت قلوب المؤمنين، وحملهم على الصبر في المجاهدة في سبيل الحق، وقد روى المفسرون في بلاء أيوب روايات مختلفة نقتصر فيها على ما جاء في كتاب الله القرآن الكريم، ومن ذلك قول الله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص41 :44].
عباد الله: قال بعض المفسرين: إن المحققين على أن أيوب كان بعد زمن إبراهيم -عليهما السلام-، وأنه كان غنيًا من أرباب العقار والماشية، وكان أميرًا في قومه، وأن أملاكه ومنزله في أرض خصبة رائعة التربة كثيرة المياه المتسلسلة في الجنوب الشرقي من البحر الميت ومن جبل سعير بين بلاد أدوم وصحراء العربية -والله أعلم-.
وفي الآيات من 41 إلى 44 من سورة ص أوردنا في الخطبة الأولى تأكيدًا على ما جاء في سورة الأنبياء في الآيات 83 و84، فالخطاب فيها موجه لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في التذكير بالابتلاء والصبر وحسن عاقبة الصبر عليه، وأن الله -عز وجل- لما أراد أن يكشف الضر عن أيوب -عليه السلام- والاستجابة لدعائه، أنه قال له ما معناه: اُعْدُ برجلك وامشِ بها، فقد برئت وشفيت من مرضك وقوي جسمك وصح بدنك، ثم آتاه الله ماءً يغتسل به ويشرب منه، ورزقه الله من الأولاد مثل من مات أو أضعاف ذلك رحمة من الله تعالى، وتذكيرًا لأصحاب الألباب والعقول، لينتظروا الفرج بعد الشدة بالصبر والنوال وبصدق الاتكال على الله -عز وجل-.
والمفسرون -كما ذكرنا- يقولون في تفسير هذه الآيات وغيرها عن أيوب -عليه السلام-: إنه أصابته بلوى عظيمة في ماله وأهله ونفسه، وإنه صبر على ذلك صبرًا يضرب به المثل بثباته وقوة تحمله، وإن الله جازاه بحسن صبره أضعاف ما أخذ منه.
وأيوب -عليه السلام- حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة لما رأى صبرها ضعف، فلما كشف الله عنه البلاء، أمره الله أن يأخذ ضغثًا من الأعواد -أي حزمة صغيرة-، فأخذ شماريخ مائة، ثم ضربها بها ضربة واحدة ليبر بيمينه ولا يحنث، وقد وصف الله -عز وجل- أيوب بأنه كثير الرجوع إليه بالإنابة والابتهال والعبادة.
عباد الله: إن أيوب -عليه السلام- قدوة عظيمة في الصبر على الابتلاءات والصبر على كل ما يأتي من الله -عز وجل- من أقدار، وعلى المسلم أن يصبر ولا ييأس ولا يقنط من رحمة الله -عز وجل-، فهو القادر على كشف الضر، وهو الذي يستجيب الدعاء، وهو أرحم الراحمين.
فاحمدوا الله واشكروه في كل الأحوال، وصلوا وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-.
التعليقات