عناصر الخطبة
1/أصحاب الأخدود وما حل بهم ولماذا؟ 2/المظلومون في الدنيا دون إنصاف موعودون بالوفاء يوم القيامة.اقتباس
إِنَّ كُلَّ خِلافٍ يَقَعُ في الدُّنْيا، لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمٌ فَصْلٌ، وخاتِمَةُ نِهايَة، وفَصْلُ كُلِّ خِلافٍ، لَنْ يَكُونَ إِلا بالحَقّ، فَمَنْ ضَاعَ لَهُ حَقٌّ بَيْنَ الأَنامِ في الدُّنيا، فَلَنْ يَضِيْعَ وأَيْمُ اللهِ في الآخِرَة...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أَيُّها المُسْلِمُون: قَسَمٌ عَظِيْمٌ أَقْسَمَ اللهُ بِه، ولا يُقْسِمُ العَظِيْمُ إِلا بَعَظِيْم، وكُلُّ عَظِيْمٍ فاللهُ أَعظَمُ مِنْه.
قَسَمٌ عَظِيْمٌ، افْتُتِحَتْ بِهِ سُورَةٌ مِنْ سُوَرِ القُرآنِ فَهِيَ تُتْلَى إِلى يَومِ القِيامة، قَسَمٌ عَظِيْمٌ مِنْ أَعْظَمِ مُقْسِمٍ سُبْحَانَه.
قَسَمٌ بالسَّماءِ ذَاتِ البُرُوجِ، بالسَّماءِ ذاتِ الكَواكِبِ العَظِيْمَةِ، والأَنْجُمِ السَّيَّارَةِ، والأَفْلاكِ المُنِيرَة، بالسَّماءِ ذاتِ المَنازِلِ المَعْلُومَةِ للشَّمْسِ والقَمَر، قَسَمٌ بالسَّماءِ العاليَةِ المُصانَةِ المُحْكَمَةِ المَحفوظَة.
ثُمَّ قَسَمٌ بِاليَومِ المَوعُودِ، يَومِ القِيامِةِ الذيْ وعَدَ اللهُ أَنْ يَجْمَعَ فيهِ الأَوَلِينَ والآخِرِين لِيُحاسِبَهم على أَعمالِهِم ويَقْضِيَ بَيْنَهُم؛ (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ)، (ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ).
ثُمَّ قَسَمٌ بالشَّاهِدِ والمَشْهُودِ، بِكُلِّ مُبْصِرٍ ومُبْصَر، وبِكُلِّ حاضِرٍ ومَحْضُور، وبِكُلِّ رَاءٍ وَمَرْئِي، أَقْسامٌ مِن اللهِ مُتَتالِيَةٍ، أَقْسَامٌ، عَلى إِثْباتِ أَمْرٍ قَدْ تَحَقَّق؛ (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)، أَقْسَمَ اللهُ أَنَّ أَصْحابَ الأُخْدُود قَدْ لُعِنُوا.
(قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)؛ فَما نَبأُ أَصْحابِ الأُخْدُودِ، وما سَبَبُ لَعْنَتِهِم؟!
أَصْحابُ الأُخدُودِ، قَومٌ كَفَرُوا باللهِ، وَصَدَّوا النَّاسَ عَنْ سَبِيْلِ الله، كَفَرُوا باللهِ واسْتَكْبَرُوا، كَفَرُوا باللهِ فأَجْرَمُوا، كَفَرُوا باللهِ فأَعْظَمُوا العَداءَ لأَولِياءِ الله، امْتَحَنُوا المُؤْمِنِينَ لِيَصْرِفُوهُم عَن الدِّيْن، وابْتَلَوْهُمْ لِيَصُدُّوْهُم ْعَن الإِيْمان، أَرْهَبُوا المُؤْمِنِيْنَ وأَنْزَلُوا بِهِم أَقْسَى الوَعِيد، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَجِيْبُوا لَهُم، ولَمْ يَرْهُبُوا مِنْ وَعِيْدِهِم، أَمَرَ الكُبَرَاءُ بأَنْ تُخَدَّ في الأَرْضِ الأَخادِيْدُ -أَيْ تُحْفَرَ فيها الحُفَرُ- ثُمَّ أُضْرِمَتْ فيها النِيران، ثُمَّ جِيءَ بالمُؤْمِنيْنَ المُسْتَضْعَفِيْنَ مُكَبَّلِيْنَ، يُسَاقُونَ نَحْوَها أَفْواجاً، كُلَّما جِيءَ بِفَوجٍ عُرِضَتْ عَلِيْهِ الفِتْنَةُ، يَرْتَدُّ عَنْ دِيْنِهِ فَيَسْلَمْ، أَو يُصِرُّ على البَقاءِ عَلَيْهِ فَيُقْذَف؛ فَلَمْ يَرْتَدَّ مِنْهُم أَحَدٌ، فَقُذِفُوا في النَّارِ فَأَحْرَقَتْهُم؛ (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ).
قَعَدَ الكُبَرَاءُ عَلى جَنَباتِ الأُخْدُودِ، مُتَّكِئِيْنَ عَلى أَرائِكِهِم، يَنْظُرُونَ إِلى المُؤْمِنِيْنَ ويَشْهَدُونَ عَذابَهُم، يَنْظُرُونَ بِقُلُوبٍ مُتَحَجِّرَةٍ، وأَنْفُسِ مُتَجَبِّرَةٍ، وأَفْئِدَةٍ مِنْها الرَّحْمَةُ قَدْ نُزِعَتْ، يَنْظُرُونَ إِلى المُؤْمِنِيْنَ وهُمْ يُقْذَفُونَ في النَّارِ فَتُحْرِقُ أَجْسادَهُم، وتَشْوِيْ جُلُودَهُم، وتُزْهِقُ أَرواحَهُم؛ (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)، ما كانَ للمُؤْمِنِينَ مِنْ جُرْمٍ يَسْتَوجِبُ أَنْ تُوْقَعَ بِهِمْ هذِهِ النِّقْمَة، إِلا أَنَّهُم آمَنَوا باللهِ العَزِيْزِ الحَمِيْد؛ (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
لَقَدْ شَهِدَ اللهُ أَحَوَالَ القَوْمِ، شَهِدَ أَحْوَالَ المُؤْمِنِينَ بِصَبْرِهِم وثَبَاتِهِم، وشَهِدَ أَحْوَالَ الكَافِرِينَ بِكِبْرِهٍم وعِنادِهِم، شَهِدَ اللهُ قُلُوباً تَغَلْغَلَ فيها الإِيْمانُ، فآثَرَتْ أَنْ تَحْتَرِقَ أَجْسادُها في النَّارِ عَلى أَنْ تَتَلَفَّظَ أَفْوَاهُها بِكَلِمَةِ الكُفْر، شَهِدَ اللهُ كُلَّ ما جَرَى؛ (وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ).
لَقَدْ شَهِدَ اللهُ ما حَلَّ بأَولِيائِهِ على يَدِ أَعدائِه، ولَوْ شاءَ رَبُكَ ما فَعَلُوه، ولَكِنَّ اللهَ لَهِ حِكْمَةٌ في كُلِّ قَضاءٍ يَقْضِيْهِ وفي كُلِّ قَدَرٍ يُقَدِّرُه.
لَقَدْ شَهِدَ اللهُ ما حَلَّ بأَولِيائِهِ على يَدِ أَعدائِه؛ (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ).
لَقَدْ شَهِدَ اللهُ ما حَلَّ بأَولِيائِهِ على يَدِ أَعدائِه؛ (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ).
رَوى الإِمامُ مُسْلِمٌ -رحمه الله- عَنْ صُهِيْبٍ -رضي الله عنه- في قِصَةِ المَلِكِ الذي دَعا الناسَ إِلى عِبادَةِ نَفسِه، وما كانَ مِنْ أَمرِ السَّاحِرِ والرَّاهِب والغُلام، في حدِيْثٍ طَوِيْلٍ مَلِيءٍ بالآياتِ والكَراماتِ والعِبَر، فَجاء في تَمامِ الحديثِ؛ فَقالَ الغُلامُ للمَلِكِ حِينَ عَجِزَ عَنْ قَتْلِه: "إنَّكَ لَسْتَ بقَاتِلِي حتَّى تَفْعَلَ ما آمُرُكَ به، قالَ: وَما هُوَ؟ قالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي علَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِن كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: باسْمِ اللهِ رَبِّ الغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي؛ فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذلكَ قَتَلْتَنِي، فجَمَع النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ علَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِن كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبْدِ القَوْسِ، ثُمَّ قالَ: باسْمِ اللهِ، رَبِّ الغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ في صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ في مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقالَ النَّاسُ: آمَنَّا برَبِّ الغُلَامِ، آمَنَّا برَبِّ الغُلَامِ، آمَنَّا برَبِّ الغُلَامِ، فَأُتِيَ المَلِكُ فقِيلَ له: أَرَأَيْتَ ما كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بكَ حَذَرُكَ؛ قدْ آمَنَ النَّاسُ، فأمَرَ بالأُخْدُودِ في أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقالَ: مَن لَمْ يَرْجِعْ عن دِينِهِ فأحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قيلَ له: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمعهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقالَ لَهَا الغُلَامُ: يا أُمَّهْ، اصْبِرِي؛ فإنَّكِ علَى الحَقِّ"(رواه مسلم).
لَقَدْ أُبِيْدَ المُؤْمِنُونَ عَلَى يَدِ الكَافِرِين، ارْتَحَلَوا عَنْ هذه الحَياةِ، ثُمَّ ما لِبِثَ أَن ارْتَحَلَ مَنْ قَتَلَهُم، وسَيَقِفُونَ أَمامَ اللهِ في ذَاكَ اليَومِ المَوعَود، في خُصُومَةٍ، أَخْبَرَنا اللهُ عَنْ حُكْمَهُ فيها؛ (هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)، لَقَدْ أُقِيْمَ فِيْهِمْ حُكْمُ اللهِ، وهُوَ أَحَكْمُ الحاكِمِين؛ فَأَيُّ العَذابَيْنِ أَشَدُّ، وأَيُّ الخَاتِمَتَيْنِ أَخْزَى؛ (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ*عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ *هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
بارك الله لي ولكم،
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً؛ أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: إِنَّ كُلَّ خِلافٍ يَقَعُ في الدُّنْيا، لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمٌ فَصْلٌ، وخاتِمَةُ نِهايَة، وفَصْلُ كُلِّ خِلافٍ، لَنْ يَكُونَ إِلا بالحَقّ، فَمَنْ ضَاعَ لَهُ حَقٌّ بَيْنَ الأَنامِ في الدُّنيا، فَلَنْ يَضِيْعَ وأَيْمُ اللهِ في الآخِرَة.
والمُؤْمِنُ، يُبْصِرُ بِبَصِيْرَتِهِ الثَّاقِبَةِ التي أَنارَها وَحِيُ السَّماءَ، فَيُدْرِكُ، وهُوَ يَرَى أَرْوحاً مُؤْمِنَةً تُزْهَقُ ظُلْماً، ويَرَى دِماءً طاهِرَةً تُسْفَكُ عُدْواناً، ويَرَى أَشْلاءً بَرِيئَةً تَتَناثَرُ في غَيْرِ جُرْمٍ جَنَتْهُ، وفي غَيْرِ جِنايَةٍ ارْتَكَبَتْها، وإِنّما لأَنَّها باللهِ مُؤْمِنَةً؛ (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)؛ لَيُدْرِكُ أَنَّ وَعْدَ اللهِ آتٍ، وأَنَّ حُكْمَهُ في الكافِرِينَ وَاقِع، وأَنَّ النَّصْرَ مُتَحَقِقٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ولَو بَعدَ حِيْن، وأَنّ المُؤْمِنَ قَدْ نالَ مِنَ رَبِّهِ إِحدَى الحُسْنَيَين، إِما نَصْرٌ، وإِما شَهادَةٌ.
فَمَنْ نَظَرَ إِلى المَظالِمِ التِي تَقَعُ بينَ العِبادِ في الدُّنيا بِعَينٍ لا تُبْصِرُ الآخِرَة، وإِنَّما نَظَرَ إِليها بِنَظْرَةِ دُنْيَوِيَّةٍ قاصِرَة، فَقَدْ أَخَلَّ وأَخْسَرَ المِيْزان، فَنِهايَةُ كُلِّ فَوْزٍ لَنْ يَكُونَ دُونَ الجَنَّة؛ فَلِذلِكَ باعُوا الأَنْفُسَ للهِ واللهُ اشْتَرَى؛ (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
فَوزٌ عَظِيْمٌ، أَنْ تَرْتَحِلَ النَّفْسُ مِنْ دارِ العَناءِ إِلى دارِ الهَناءَ، أَنْ تَرْتَحِلَ وهِيْ عَلى دِيْنِها ثابِتَةٌ، وعلى عَقِيْدَتِها باقِيَةٌ، وفي سَبِيْلِ رَبِها ماضِيَة.
عَنْ أَنَسٍ -رَضْيَ اللهُ عنه- في قِصَّةِ مَقْتَلِ القُرَّاءِ الذين بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسَلَّمَ- فَغَدَرَ بِهِمُ المُشْرِكُونَ فَقَتَلُوهُم، وكانَ في القُراءِ، حَرامُ بنُ مِلْحانَ -رَضي الله عنه- فأتَاهُ رَجُلٌ مِن المُشْرِكِينَ مِنْ خَلْفِهِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حتَّى أنْفَذَهُ؛ فَقَالَ حَرامٌ -رضي الله عنه-: "اللَّهُ أكْبَرُ! فُزْتُ ورَبِّ الكَعْبَةِ"(متفق عليه)، لَقَدْ أَقْسَمَ عَلى فَوزٍ بُشِّرَ بِهِ، آمَنْ بِهِ قَلْبُهُ، فأَبْصَرتهُ عِندَ خَرُوجِ الرُّوحِ عَيْناه؛ (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).
وفي نِهايَةِ قِصَةِ أَصْحابِ الأُخْدُودِ؛ قال اللهُ -سُبْحانَه-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)، لَقَدْ أُحْرِقُوا في نَارِ الدُّنيا ظُلْماً، ولكنهم أَدْرَكَوا عِنْدَ اللهِ أَعظَمَ فَوزٍ في دارِ النَّعِيْم.
عِبادَ الله: وإِنَّ إِدْراَكَ المؤْمِنِ لِحَقِيْقَةِ أَنَّ مَنْتَهى الفَوزِ هُوَ في بُلُوغِ دارِ النَّعِيْم، وأَنَّ مِيزانَ العَدْلِ مَنْصوبٌ بِحُكْمِ اللهِ ولَنْ يَخْتَل، وأَن وعدَ الآخِرَةِ آتٍ، وأَنَّ للمَظْلُومِ مَوقِفاً أَمامَ اللهِ بِهِ يُنْصَر، وأَنَّ للظالِمِ مَوْقِفاً أَمامَ اللهِ بِهِ يُغَلُّ ويُؤْسَر.
إِنَّ إدْرَاكَ المؤْمِنِ لِذلكَ كُلِّه، لا يَعْنِيْ أَنْ يَكُونَ أَمامَ عَدُوِّهِ في ذُلٍّ ووَهَنٍ ومَسْكَنة، ولا يَعْنِيْ أَنْ يَتَخَلَّى المُسْلِمُ عَنْ نُصْرَةِ أَخِيْهِ المُسْلِم، ولا يَعْنِيْ أَنّ يُرْجِئَ المُسْلِمُ حُقُوقَهُ لِيَومِ الفَصْل، وإِنَّما يَسْعَى المؤْمِنُ في إِعلاءِ كَلِمَةِ الله، ويَسْعَى في نُصْرَةِ المسْتَضْعَفينَ من عِبادِ اللهِ، ويَسْعَى في مُجاهَدَةِ الكافِرينَ المُحادِّيْنَ لله.
فإِن فاتَتْهُ حُسْنَى الدُّنْيا، فإِنَّ حُسْنَى الآخِرَةِ لُه مُدَّخَرَة،
اللهم قَوِّ إِيماننا، وثَبْتُ قُلوبَنا، وأَحْسِن خاتِمَتَنا،
اللهم انصر دينك،
التعليقات