عناصر الخطبة
1/ثبات النبي الكريم ورباط جأشه مع الرجل الذي قال من يمنعك مني 2/نماذج من ثبات ويقين السلف رضي الله عنهم 3/الحياة بلاء والمؤمن له فيها نصيب فوطن نفسك على ذلك.اقتباس
ليوطن الإنسان نفسه على المصاعب والأزمات، ولتكن النوائب مِنْك ببال؛ فَأكْثرُ المكاره تأتيك بما لم تحْتَسب، "وَإِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإنما الحلم بالتحلم"، "ومن يتوخ الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي العزةِ والجلال، غافرِ الذنبِ وقابلِ التوب شديد المِحال، وأشهد أن لا إله إلا الله أولاً وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا؛ -صلى الله عليه وسلم- أما بعد: (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابطُوا وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون).
أخرج البخاري ومسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَدْرَكَتنَا القَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ؛ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي العِضَاهِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَحْتَ شجرةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ فنام رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: " فجاء أَعْرَابِيٌّ، ورَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَائِمٌ، فَأَخَذَ السَّيْفَ فَلَمْ يشْعُرْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَّا وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ، فَقَالَ له: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قال: اللهُ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللهُ، فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْهُ فَأَخَذَ -صلى الله عليه وسلم- السَّيْفَ، فَقَالَ لَهُ: "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟" قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ. قَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟" قَالَ: لَا وَلَكِنْ أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ وَلَا أَكَونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ"، قَالَ: فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَجَاءَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: جِئْتكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ -صلى الله عليه وسلم- (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
هكذا جلى لنا هذا الموقف المباغت المفاجئ الإيمان الصادق واليقين الجازم أنه لا ينقذك في الشدائد والملمات إلا الله، ولا يحميك في البأس إلا الله، ولا يمنعك من بطش عدوٍ أو كيد حاسدٍ إلا الله، ولا ينصرك في الوحدة إلا الله -صلى الله عليه وسلم- (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا).
في هذا الموقف العظيم لم يتوسل له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو يتنازل له بشي حتى يدعه، أو يخادعه في الكلام حتى يأتي أصحابه فينصرونه بل قال بشجاعةٍ وثقة وإيمانٍ وتوكلٍ ويقينٍ تامٍ حين قال له: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللهُ.
شُجَــــاعٌ فِيهِ تَتَّسِـعُ الْمَنَايــا *** إِذَا مَا كَرَّ في ضِيقِ الْمَجَالِ
كمـيٌ لا تقاتلــه الأعادي *** بِأَمْضَى مِنْ سُيُوفِ الاِبْتِهَالِ
يرى الدنيا وإن عظمت وجلَّت *** لديه أقلَّ من شسع النعال
ودونكم في شجاعة القلب ورباطة الجأش والثبات في الملمات ممن تخرجوا من مدرسته وتربوا تحت كنفه في زوجته وأبيها الصديقين.
قالت عائشة -رضي الله عنها- لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلع نجم النفاق وارتدت العرب وصار المسلمون كالغنم السارحة في الليلة الماطرة، فنزل بأبي من الأمر الفخم ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها.
فمن يماثله أو من يجانسه *** أو من يقاربه في الصدق والعلم
فأيهما أربط جأشاً وأثبت قلباً في هذا الأمر الشديد، والمصاب العتيد، أهو الصديق -رضي الله تعالى عنه- أم ابنته عائشة -رضي الله عنها-؟ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات بين سحرها ونحرها وشاهدت ذلك الهول الجلل، ثم احتملته فوضعته على فراشه، وسجته ببردته، ولم تدع أحداً من نسائه وأهلِهِ يعينُها عليه، وعمرها إذ ذاك ثماني عشرة سنة.
طابت منابتُها فطابَ صنيعُها *** إن الفعال إلى المنابت تُنسبُ
هذه حال القلوب الثابتة الموقنة تقوى ثقتها بالله، ولا تعرف في الشدائد والمضائق إلا الله؛ قال يوسف -عليه السلام- في شدة ابتلائه بامرأة العزيز ومحاصرتها له قال -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) -صلى الله عليه وسلم- (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ).
تحتاج النفوس لمثل هذه المواقف لتتعلم الصدق واليقين، ولتتقوى النفوس بالإيمان وحسن التوكل، ولتطمئن القلوب بالإخلاص والثبات.
تتربى النفوس على الصدق حتى في الشدائد على النفس..
لا شيء فوق أديم الأرض يعجبني *** كالصدق يبن الورى في القول والعمل
وليس شيء لعمــر الحــــق يؤلمــني! *** مثل النفاق ومثل الكــــذْبِ في الرَجُلِ
الصدق مرٌ، وقد يصحبه ابتلاء لكن عاقبته خيرا وفلاحاً، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: في ابتلاء الله له في الصدق وقول الحق: "فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رسول الله قد تَوَجَّهَ قَافِلًا حَضَرَنِي هَمِّي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا، وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي البَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، فجَاءَهُ المُخَلَّفُونَ، يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، فاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: "تَعَالَ" فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ لِي: "مَا خَلَّفَكَ، أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ". فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ، تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ، مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى، وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ". فقال كعب بن مالك بعد ذلك: إِنَّمَا نَجَّانِي اللَّهُ بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا، مَا بَقِيتُ. ووالله مَا تَعَمَّدْتُ بعد ذلك كَذِبًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ.
ونِيّاتُ أهلِ الصّدقِ بِيضٌ نَقِيّةٌ *** وألسُنُّ أهْلِ الصِدْقِ لاَ تتجلَجُ
تتعلم النفوس اليقين وقوة الإيمان في الملمات -صلى الله عليه وسلم- (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا).
كلما مكر بك عدوٌ أو غدر بك حاسدٌ فثبت جنانك، وقل بقلبك ولسانك؛ (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ)؛
فقد قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ قَالُوا: -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ).
يا مَــنْ ألُــوذُ بِهِ فيمَـــا أُؤمّلُــهُ *** وَمَـنْ أعُــوذُ بهِ مِمّا أُحــاذِرُهُ
لا يَجْبُرُ النّاسُ عَظْماً أنْتَ كاسِرُهُ *** وَلا يَهيضُونَ عَظْماً أنْتَ جابِرُهُ
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات...
الخطبة الثانية:
الحمدلله وكفى وسمع الله لمن دعا وصلى الله وسلم على عبده ورسوله المصطفى؛ أما بعد:
رباطة الجأش وقوة التحمل وثبات القلب تكمن في الصدق مع الله واليقين بمعية الله -صلى الله عليه وسلم- (إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون)، والصبر والتقوى عنوان للحفظ والحراسة؛ (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً).
ليوطن الإنسان نفسه على المصاعب والأزمات، ولتكن النوائب مِنْك ببال؛ فَأكْثرُ المكاره تأتيك بما لم تحْتَسب، "وَإِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإنما الحلم بالتحلم"، "ومن يتوخ الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ"، ومن يصبر على الرزايا يعقبه الله خيرا، وعواقب الْأُمُور، تتشابه فِي الغيوب، فَرب مَحْبُوب فِي مَكْرُوه، ومكروه فِي مَحْبُوب، وَكم مغبوط بِنِعْمَة هِيَ داؤه، ومرحوم من دَاء هُوَ شفاؤه.
فخف المضار، من خلل المسار، وارج النَّفْع، من مَوضِع الْمَنْع، وعِنْد اشتداد الْبلَاء يَأْتِي الرخَاء.
ومن يدعو الأنام لكلّ خطب *** يخاف وكلّ معضلة تؤود
فمن يحمي حمى الإسلام أم من *** يذبّ عن المكاره أو يذود
وما سمي الصديقُ صديقاً إلا بعد أن صدّق بالحق في أشد أيامه، وصبر على نوائب الزمان في قلة رجاله، ولم يتخلى عن صاحبه النبي الأكرم في أوقات المطاردة من أعدائه.
كأنّه شجرٌ الأترجِ طاب معا *** حَمْلا ونوراً وطاب العودُ والورقُ
اللهم ثبت قلوبنا على الحق وارزقنا اليقين والصدق في الاقوال والأفعال وأعنا يا ربنا على نوائب الزمان.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد..
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح ولاة أمورنا.
التعليقات