قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبوانا شيخ كبير

عمر بن عبد العزيز الدهيشي

2022-10-26 - 1444/04/01
عناصر الخطبة
1/كثرة هدايات القرآن على الأحكام والآداب 2/أهداف القصة في القرآن 3/تأملات في قصة النبي موسى عليه السلام 4/ضوابط خروج المرأة للعمل 5/مساعدة أهل المروءة للمرأة.

اقتباس

وعلى المجتمع المسلم ذوي المروءة والفطر السليمة بعد ذلك مساعدةُ المرأة، والحرصُ على عدم مخالطتها للرجال، بجعلهن في مكان مستقل تماماً؛ حفظاً لخصوصيتهن، وتقديراً لحاجتهن، ومعاملتهن معاملة الأخت أو البنت؛ والجزء من جنس العمل...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

عباد الله: هدايات القرآن الكريم ودلالاته على الأحكام والآداب، كما أنه يُستدل لها من عموم الآيات ومجمل السور، فإنه كذلك قد تستنبط بدلالات خفية وإشارات دقيقة من قصص القرآن وأخباره عن الأمم السابقة وأحوالهم السالفة، فكل قصة في القرآن يُراد بها: "الانزجار عما في تلك القصة من المفاسد، التي لابَسها أولئك الرهط، والأمر بتلك المصالح التي لابَسها المحكي عنه"(ينظر: نفائس الأصول للقرافي 9/3832).

 

وقد ختم الله قصة يوسف -عليه السلام- بقوله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف:111].

 

عباد الله: حين ضاقت أرض مصر بما رحبت على موسى -عليه السلام-، وجاءه الصارخ : (يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)[القصص:20]، فخرج هائماً على وجهه، خائفاً يترقب أن يُوقَع به القتل، لا يدري أين يذهب، وإلى أين المصير، فاستهدى ربه، وسأله أن يهديه الصواب، والله –سبحانه- لا يخيّب مَن دعاه، وبحسن ظن رجاه!!

 

فألهمه الله أن يُيَمِّم وجهه إلى أرض مدين، وهي جنوبي فلسطين؛ حيث لا مُلك فيه لفرعون، فدعا الله أن يسلك به سواء السبيل؛ (عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)[القصص:22]؛ أي: الطريق الوسط المختصر الموصل إليها بسهولة ورفق، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "خرج موسى متوجهاً نحو مدين، وليس له عِلْم بالطريق إلا حُسْن ظنٍّ بربه، فإنه قال: (عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)[القصص:22].

 

ولما بلغ ديار مدين، قصد ماءها؛ لأنه مَظِنةُ اجتماع الناس؛ لعله يتعرف على مَن يصاحبه أو يضيّفه، (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) أي جماعة كثيرة العدد (يَسْقُونَ) نعمهم ومواشيهم، ووجد من دون الأُمّةِ الناسِ الذين هم على الماء، وفي جانب مباعد عنهم، (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ)؛ أي تحبسان غنمهما عن الماء حتى يفرغ الناس من سقي مواشيهم، ثم تَسقيان ماشيتهما، (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا)؟ أي: قال موسى للمرأتين: ما شأنكما وأمركما، تذودان ماشيتكما عن الناس؟! هلا تسقونها مع مواشيهم؟

 

(قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ)؛ أي: لا نسقي ماشيتنا حتى يُصْدِر الرعاة مواشيهم، لأنا لا نستطيع أن نزاحم الرجال -فكانتا ذات مروءة وتربية صالحة-، وإنما نسقي مواشينا ما أفضلت مواشي الرعاةِ في الحوض، (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)[القصص:23]؛ اعتذارًا عن حضورهما للسقي مع الرجال؛ لعدم وجدانهما رجلاً يستقي لهما؛ لأن الرجل الوحيد لهما هو أبوهما وهو شيخ كبير، لا يستطيع ورود الماء لضعفه عن المزاحمة (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[القصص:24].

 

عباد الله: لما رأى موسى -عليه السلام- جماعة الناس على الماء لم ينكر ذلك، بل لم يشغل اهتمامه؛ فإن ذلك المكان مظنة اجتماع الرجال وقضاءِ الحوائج، لكن راعه تلك المرأتين بين جموع الرجال، وإن كانتا في معزل، فسألهما بـ(مَا خَطْبُكُمَا)؟ واستعمال السؤال بالخطب إنما هو في مُصَاب أو مَن يُشفق عليه أو يأتي بمنكر من الأمر، فكأنه بالجملة في شر، فأخبرتاه بخبرهما..

 

مما يدل على إنكار موسى -عليه السلام- تلك الحال، وكذا الفِطَر السليمة لا ترضى بمخالطة المرأة للرجال، وتبسُّطِ المرأة للرجل الأجنبي والعكس، وديننا القويم حذَّر أيما تحذير من مخالطة المرأة للرجال الأجانب، وفي الحديث: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت"(رواه البخاري 4934 ومسلم 2172). والحمو: أقارب زوج المرأة كعمه وأخيه وابن أخيه ونحوهم.

 

كما أن الأصل بقاء المرأة في بيتها، لتتكامل مع الرجل، وتتولى أعظم مهمة في تربية النشء وإصلاح المملكة الداخلية، وألا تخرج إلا لحاجة، قال -تعالى-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)[الأحزاب:33]، وهذا لا يعني بالضرورة أن تظل المرأة حبيسة البيت،  بل أباح لها الإسلام الذهاب إلى المسجد، والخروج لزيارة أهلها ومحارمها، وأن تخرج لحوائجها، أو العملِ وطلبِ الرزق حال الحاجة، وفق ضوابط الشرع، وآدابه المرعية، الحاثّة على الحشمة والاحتشام، والحفظ والصون، ليكون مجتمعاً نقياً طاهراً بعيداً عن مكدراته، ومخالطة مفسداته، (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[الأحزاب: 33].

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: حين سأل موسى -عليه السلام- المرأتين عن سبب وجودهما في ذلك المجمع، اعتذرتا بأمرين دعاهما للخروج، وهذان الأمران هما ضابطا خروج المرأة للعمل عموماً،  الأول: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)؛ أي هناك حاجة دعتهم للخروج والسعي في طلب الرزق؛ للحاجة القائمة أو عدم وجود العائل، وليس فقط لتزجية الوقت، وتغيير الجو، والثاني: (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) فليست تلك الضرورة مبيحةً لكل عمل ومجال، بل لا بد أن يكون بعيداً عن مخالطة العاملة للرجال ومزاحمةِ الصبيان، بُعداً عن الفتنة، وطلباً لطهارة المجتمع..

 

وعلى المجتمع المسلم ذوي المروءة والفطر السليمة بعد ذلك مساعدةُ المرأة، والحرصُ على عدم مخالطتها للرجال، بجعلهن في مكان مستقل تماماً؛ حفظاً لخصوصيتهن، وتقديراً لحاجتهن، ومعاملتهن معاملة الأخت أو البنت؛ والجزء من جنس العمل، فإن موسى -عليه السلام- لما علم حالهما سقى لهما لينهي مهمتهما ويعودا حالاً، دون عناء الانتظار، أو إكراه المخالطة،  (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).

 

وعند استغناء المرأة وكفايتها عن العمل؛ الأَوْلَى بها تَرْكه وعدم الاستمرار فيه، فتلك المرأتان طلبتا من أبيهما أن يستأجر موسى ليكفيهما العمل، ويحمل عنهما المشقة والتعب: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص:26].

 

وبعدُ عباد الله: المسلم يسعى لطهارة نفسه وتزكيتها، بالابتعاد عن مواطن الفتن ومظان الفتنة، وفي الحديث: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"(رواه البخاري 5096 ومسلم 2740)، كما يساهم في صلاح مجتمعه وطهارته، حتى لا يكون مشاركاً أو سبباً لإفساد غيره فالمسلمون كالجسد الواحد. 

 

هذا وصلوا وسلموا....

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات
زائر
03-04-2024

ماشاءالله

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life