عناصر الخطبة
1/ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها 2/ من علامات كفر النِّعَم 3/ أسباب تقصير الناس في شكر النِّعَم 4/ سمات الكافرين بنعم الله 5/ كُفْرُ النِّعَمِ سببٌ لزوالها 6/ عاقبةُ الشكرِ 7/ كيف نشكر الله تعالى على نعمهاهداف الخطبة
اقتباس
أرأيتم كيف أنَّ مُلكَ هارون لا يُساوِي أدنى نعمةٍ مِن نِعَمِ الله علينا؟ إنها إشارةٌ من ابن السماك إلى أننا نملك كنوزا وملكا وخزائن؛ إنها نعم الله التي نحن عنها غافلون. ولكنَّ مُشْكلتنا أننا ننظر إلى المفقود، ونتعامى عن الموجود، لك بيت يؤويك، وفراش وثير يُدفيك، وعندك طعام يشبعك ويكفيك، وماء زلال يرويك، وأنت تتفيأ أمنا يحميك، وصحة تحفظك وتقيك، عندك لباس يواريك، ومركب يحملك ..
الحمد لله مصبغ النِّعَمِ، ودافع النِّقَمِ، ومُحْيي الرِّمَمِ، وموجِد الناس من عدم؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرأفُ مَن مَلَكَ، وأعدَلُ مَن حَكَم، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسولُهُ، سيد الورى، وقدوةُ الأمم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة القِمَم.
أما بعد: فاتقِ الله أخي المسلم حيث ما كنت؛ فمن اتقى الله وقاه ورزقه وكفاه.
أرأيتم مُلك هارون الرشيد؟ إنَّهُ مِن المحيطِ إلى المحيطِ؛ بل يزيدُ! حتَّى إنه كان يرى السحابة فيقول: أمطِرِي حيثُ شئتِ؛ فسيأتيني خراجُكِ!.
أرأيتم هذا الملك بكنوزه وجنوده وخيراته ومقدَّرَاتِه؟ بأيِّ شيءٍ باعه؟! كان هارونُ ذاتَ يومٍ في الصحراء فعطش فطلب كوب من ماء، فقال له ابن السمَّاك: يا أمير المؤمنين، أرأيتَ إن مُنعتَ هذا الكأس إلا بنصف ملكك؛ أكنت تشتريه؟ قال: إي والله، ثم شرب الماء، فقال ابن السماك: يا أمير المؤمنين، أرأيت إنْ حُبِسَ هذا الماءُ في جلدك فلم يخرج إلا بنصفِ مُلكك الآخر؛ أكنت تفتديه؟ قال: نعم والله! قال: فماذا تصنع في ملكٍ لا يساوي شربة ماءٍ وبوله؟.
أرأيتم كيف أنَّ مُلكَ هارون لا يُساوِي أدنى نعمةٍ مِن نِعَمِ الله علينا؟ إنها إشارةٌ من ابن السماك إلى أننا نملك كنوزا وملكا وخزائن؛ إنها نعم الله التي نحن عنها غافلون.
ولكنَّ مُشْكلتنا أننا ننظر إلى المفقود، ونتعامى عن الموجود، لك بيت يؤويك، وفراش وثير يُدفيك، وعندك طعام يشبعك ويكفيك، وماء زلال يرويك، وأنت تتفيأ أمنا يحميك، وصحة تحفظك وتقيك، عندك لباس يواريك، ومركب يحملك.
فكِّرْ في نفسك وفيما حولك وفيمن حولك؛ ستجد أنك في ملكٍ وسلطان، ونعيم وجنان، تعيش كثيرٌ من الأمم في صراعات وحروب، وتفكُّك وتشرُّد، وأنت تنعم بمجتمع تسوده الألفة والترابط، وتغمره المودة والتعاون: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103].
تفكَّرْ في نفسِك؛ تجدْ أن الله جعل لك عينين، ولسانا وشفتين، خلقك فسوَّاكَ فعدَلَكَ، وجعل لك السمع والبصر والفؤاد؛ لعلك أن تكون من الشاكرين.
نِعَمٌ في نفسِك، وفي ولدك، وأهلك، ونِعَمٌ فيما حولك، آلاء يقف العقل عاجزا عن إحصائها، وينقلب القلم خاسئا وهو حسير، فكيف يحصيها في أطباق السماء، وفي آفاق الأرض؟ كيف يحصيها في النهار، أو ساعات الليل؟ كيف يعدها في نفسه أو في الكون المسخر له؟ (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا..) [إبراهيم:32-34].
أفكل هذا مسخر للإنسان؟ أفكل هذا الكون الهائل مُسَخَّرٌ لذلك المخلوق الصغير؟ السماوات ينزل منها الماء، والأرض تتلقاه، والثمرات تخرج من بينهما، والبحر تجري فيه الفلك بأمر الله مسخرة، والأنهار تجري بالحياة والأرزاق في مصلحة الإنسان، والشمس والقمر مسخران دائبان لا يفتران: (ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [يوسف:38].
تعيش الأمم حولك في جاهليَّةٍ جهْلَاءَ، وضلالات عمياء، وأنت قد هُدِيتَ إلى دين قد ارتضاه الله لك، فيه سعادة الدنيا، والفوز في الآخرة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3].
والليل والنهار يتعاقبان، أفَكُلُّ أولئك للإنسان ثُمَّ لا يشكُرُ ولا يذكُرُ؟! (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، إن هذه ليست سوى الخطوط العريضة في صفحة الآلاء المديدة، ففي كل خط من النقط ما لا يحصى، ومن ثم تضم إليها على وجه الإجمال بقية النعم: (وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ)، وما لم تسألوه مِن مال وذرية وصحة وزينة ومتاع، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)، فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها فريق من البشر؛ بل كل البشر.
فوا عجباً كيف يُعصَى الإلهُ *** أمْ كيفَ يجْحُدُه الجاحِدُ
وللهِ في كُلِّ تسبيحةٍ *** وتحميدةٍ أبداً شاهدُ
وفي كل شيء له آيةٌ *** تدلُّ على أنَّهُ الواحدُ
أيها المسلمون: وأمام هذه المِنَح الربانية، والمنن الإلهية، والعطايا الرحمانية، يأبي أناسٌ إلَّا أن يبدلوا نعمة الله كفرا، وجحَدُوا بمقالهم أو فَعَالِهِم كفرا بنعم الله بعدم شكرها، أو بإنكار أن الله واهبها، وبنسبتها إلى العلم والخبرة والكد الشخصي والسعي، كأن هذه الطاقات ليست نعمة من الله.
وقد يكون كفرها بسوء استخدامها بالبطر والكبر على الناس، واستغلالها للشهوات والفساد والإفساد، وكله كفر بنعم الله، وحينها يستحق الجاحدون عذاب الله: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، والعذاب الشديد قد يتضمن محق النعمة عَينا بذهابها أو سحق آثارها في الشعور، فكم من نعمة تكون بذاتها نقمة يشقى بها صاحبها ويحسد الخالين منها، وقد يكون عذاباً مؤجلاً إلى أجله في الدنيا أو في الآخرة، كما يشاء الله تعالى.
لقد طغى فئام من الناس حينما توافرت لديهم النعم نتيجة غفلتهم عن النعمة فهم لا يتذكرونها ولا يعرفون لله حقا فيها، والنعم إذا كثرت بتوالي الخيرات وتنوعها غفل الإنسان عن الخالين منها، وظن أن غيره كذلك، ولم يصدر منه شكرا للمنعم.
وقصر الناس في الشكر نتيجة جهلها بحقيقة النعمة، ونسيانهم الماضي، ونظرهم إلى من هو فوقهم ونتيجة لبعدهم عن الله، وجهلهم بعظمة الله وقدره: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل:53].
الكافرون بنعم الله هم قوم آتاهم الله الأموال ورزقهم من الطيبات فتعاملوا بالربا، ولجئوا إلى الغش والخداع ونقص المكاييل وبَخْس الموازين وأكْل أموال الناس بالباطل.
الكافرون بنعم الله هم قوم يتقلبون بنعم الله الظاهرة والباطنة من أمن في الأوطان، وصحة في الأبدان، ورغد في العيش، ثم إذا ناداهم منادي الرحمان إلى الصلاة إذا هم يستكبرون!.
الكافرون بنعم الله هم قوم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ويعيشون بين أظهرنا يتفيئون نعمة الأمن في هذا البلد الأمين، الأمن بكل أنواعه، ثم لا يقر لهم قرار ولا يهنأ لهم عيش حتى يسعوا ليقوضوا هذا الأمن، ويخرقوا جداره، ويزيلوا أسبابه ومقوماته عن طريق دعواتهم المشبوهة ودعايتهم المضللة، كدعوتهم لما يسمونه بتحرير المرأة وتشغيلها بأعمال تتنافى مع فطرتها وطبيعتها، مع تلميعهم لدعاة وداعيات التحرر والفساد، وجعلهم قدواتٍ ورموزاً.
ومحاولة فرض الاختلاط بصوره المختلفة في محاولة لجر البلاد إلى مستنقع من الضياع عريض يزيل في النهاية مقومات الأمن والبقاء: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء:27]، وإن تطيعوهم فإنكم من الخاسرين.
الذين بدلوا نعمة الله كفرا هم قوم توافرت لديهم النعم من مآكل ومشارب، قد حيزت لهم الدنيا بحذافيرها، كما قال صلى الله عليه وسلم-: "مَن أصبح منكم آمنا في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحزافيرها".
ومع هذا فهم يمتهنون هذه النعم، ويبارزون مُسديها ومنعمها حينما تراهم يلقون ببقايا هذه الأطعمة مع القاذورات والنفايات وفي الشوارع والطرقات غافلين عن قول الله -عز وجل-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112]، وقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا) [القصص:58].
والنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت، إنك لتأسى وتحزن وأنت ترى فئة من عقلائنا قد انجرفوا مشاركة أو مشاهدة خلف تفاهات تعقد لجمال الجِمال! وهناك ترى ما يدمي القلب من انتهاك صارخ لنعم الله وتبذير وإسراف ومفاخرة ومباهاة، وتكريس للعصبية والعنصريات، في وقت يتضور مسلمون جوعا في مشارق الأرض ومغاربها، وفي وقت يموت مسلمون جوعا وخوفا ولا يجدون لقمة تسد جوعتهم.
أفلا نخشى أن تسلب منا هذه النعم؟! وما يؤمننا من عذاب الله -عز وجل-؟ المبدلون نعمة الله كفرا هم شباب من هذه الأمة منحهم الله الصحة والقوة ووهبهم المال فما رعوا هذه النعم حق رعايتها، وإنما تراهم على كثبان الرمال صعودا ونزولا، لا يتفكرون في آلاء الله وقدرته، ولكن ليهدروا الأوقات في أفعال مشينة، وحركات سخيفة.
هناك، حيث تضيع الصلوات، وترتكب المحرمات، وتتبع الشهوات، وأصوات الغناء تسطح بأعلى أصواتها، هناك كن شرا ولا تسأل عن الخبر.
فيا ليت شبابنا يدركون أنهم بأفعالهم هذه يستمطرون غضب الجبار، ويسعون في سلب النعم عنا من حيث يشعرون أو لا يشعرون!.
المـُبَدِّلُون نعمة الله كفرا هُنَّ نساءٌ مِنْ أُمَّتِي وهبهن الله صحَّةً وقوَّةً، وخلَقَهُنَّ في أحسنِ تقويم، فلم يرفعن كف الحمد قائلات: "الحمد لله الذي خلقنا فأحسن خلقنا"، وإنما رفعن ثوب الحياء ونزعن ستار العفة، فجعلن من الخلق الحسن فتنة للآخرين بعباءة متبرجة، ونقاب فاتن، وحركات مثيرة، وخروجا من البيوت دائم آثم.
فيا نساء المسلمين: اتقين الله، واحفظن نعمة الله علينا وعليكن من قبل أن يتبدل الأمن خوفا، والإطعام جوعا، والجمال تشوها، والعز ذلا؛ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:82].
الجاحدون لنعم الله هم قوم سخَّر الله لهم ما يسهل أمورهم وما يقضي حاجاتهم من وسائل اتصال حديثة فصرفوها لإيذاء العباد، وضلال الخلق، وتفكيك الأسر، وإفساد المحصنات الغافلات عن طريق المعاكسات وتبادل الرسائل والمقاطع الهابطة، أولئك المخربون بيوتهم بأيديهم.
الكافرون بنعم هم مَن رزقهم الله المراكب الفاخرة والسيارات الفارهة لكي تكون عونا لهم في قضاء حوائجهم وتصريف شؤونهم فصرفوها لتكون وسيلة إيذاء وإفساد وقتل للنفوس البريئة، فكم من أسرة فقدت عائلها بفعْلِ مراهقٍ طائشٍ، وكم من أطفال تيتَّمُوا، ونساء ترمَّلْن بسبب سرعة جنونية أو تجاوزات لإشارة، فأين قدر النعم عند هؤلاء؟ وأين قدر منعمها إن كانوا يعقلون؟!.
الجاحدون لنعم الله هم قوم أنعم الله عليهم بمساكن يرضونها فيها كل مقومات الراحة ومتطلبات السعادة، (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) [النحل:8]، وفي المقابل؛ هذه النعمة تملأ البيوت بما يسخط الله ويغضبه من آلات اللهو ووسائل الفساد والإفساد، ولا ترى لذكر الله فيها أثراً؛ فهي بيوت عشش الشيطان فيها وفرَّخَ، والبيت الذي فيه صورة لا تدخله الملائكة، والشياطين لا تدخل بيوتاً تُقرأ فيها سورة البقرة، فيا ليت أولئك يعلمون!.
يا أيها المسلمون: إنَّ كفرَ كلِّ نعمة يكون باستخدامها في معصية الله، وتسخيرها لإيذاء عباد الله، وإنما أنعم ربُّنا علينا بهذه النعم لكي نتفرغَ للغايةِ الَّتي من أجلها خَلَقَنَا، وهي عبادته وطاعته، وحينما يتخلى الناس عن هذه الغايةِ فهُم كالأنعام؛ بل هُم أضلُّ!.
يوم أن يتخلى الناس عن شكر المنعم والثناء عليه -سبحانه- حينها يمسك الله رحمته فتنقلب النعمة نقمة وعذابا، فالمال والولد والصحة والقوة والجاه والسلطان تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد.
وإن فتح أبواب الخير وإغداق الأرزاق وتنوع النعم ليس دليلا على الرضا ما لم يكن هناك شكرٌ لهذا العطاء، وتصرّف حسَن لهذه النعم؛ بل يخشى أن يكون هذا استدراجاً من الله تعالى، وإملاءً لهم، ومكرا بهم، ثم تكون الضربة القاضية.
وفي أخبار مَن سَبَقَ عبرة لمن يعتبر: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ:15-17].
وإن سنة الله ماضية، مَن أعرض عن شكر الله تعالى وعن العمل الصالح وعن التصرف الحميد في نِعَم ربه عليه فهو حري في دار الدنيا في سلب هذا الرخاء وإبداله بالجوع، وسلب نعمة الأمن وإبداله بالخوف.
والإنسان إذا نشأ في نعمة ورخاء وأمن؛ كيف تكون حياته إذا تحولت إلى ضدها؟ كيف يعيش الفقر والخوف بعد حياة الأمن والرخاء؟؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك".
قال أبو حازم -رحمه الله-: "إذا رأيتَ الله -عَزَّ وجَلَّ- سابغاً نعمته عليك وأنت تعصيه فاحذره، والله -جل جلاله- لا يسلب قوما نعمةً أنْعَمَها عليهم حتَّى يُغَيِّرُوا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح"، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46]، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11].
وهذا التغيير الذي يكون سببا في زوال النعم والعقوبة العامة أو الآجلة لا يلزم أن يكون تغييرا من المجتمع كله؛ بل يكون سببا إذا صدر من بعض الناس، ومن هنا لزم القيام بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ حتى لا يكون العصاة سببا في عذاب عام، فكما قال -صلى الله عليه وسلم- لما سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال "نعم؛ إذا كثر الخبث"، والخبث كل معصية عصي الله بها.
نسأله -تعالى- أن يهبنا لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وأن يديم علينا نعمه، ويجعلنا لها من الشاكرين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وصلَّى الله وسلم على خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون: في الشكر تدوم النعم: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]، ومع الشكر يمتنع العذاب، ويرتفع البلاء: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء:147].
والشكر سبب لرضا الرب -سبحانه-، وإن تشكروا يرضه لكم، ويقابل الشاكرين له بالشكر لهم، (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) [الشورى:23].
الشكر لله مبدأ تربوي متمم لمبدأ الذِّكْر، فهو نوع من أنواعه، والذي خصه الله بالوصية للمؤمنين، إذ يجب أن يقرنوه بكل نعمة أنعم الله على عباده: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها، والطائع الشاكر بمنزلة الصائم الصابر".
الشكر يربي في المؤمن روح التواضع لله والذلة، قال أحد الصالحين: "الشكر ألا ترى نفسك أهلا للنعمة".
الشكرُ قَيْدٌ للنِّعَمِ الحاضرة، وَمَجْلَبَةٌ لنِعَمٍ مفقودة، وهو والإيمان صنوان؛ فقد جعل إبليس غايته أن يسعى في قطع الناس عنه: (ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:17].
وأمام ما نعيشه اليوم من بحور النِّعَم التي عزت عن الإحصاء والحصر، وما نراه من صور الكفر والجحود والكنود، فإنه يجب أن نتذكر -يا مسلمين- أن أمماً من أمثالنا كانت تعيش ما نعيشه من أمن ورخاء، فسلكت ما نسلكه اليوم من تبديل نعمة الله كفرا؛ (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، وسنة الله لا تحابي أحدا، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب:62، الفتح:23].
فارفعوا يا -مسلمين- راية الشكر بقلوبكم بالاعتراف والإقرار أنَّ ما بنا من نعمة فمن الله وليس للعباد حول فيها ولا قوة، وأن علينا أن نتلقاها بإظهار الفاقة والفقر، مرددين: "اللهم ما أصبح وأمسى بنا من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر".
أعلنوا الشكر بألسنتكم بالثناء على الله، والتحدث بنعمه، وتسبيحه وحمده، حققوا الشكر لله بجوارحكم بملازمة الطاعة، ومجانبة الزلات، وقيام الجوارح بالعبودية لله، وصرف نعمه فيما يحبه ويرضاه، والاستعانة بها على طاعته: (اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا) [سبأ:13].
كان -عليه الصلاة والسلام- يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ويقول:"أفلا أكون عبدا شكورا؟!".
حققوا الشكر بالمحافظة على نعم الله من أن تمتهن أو يكون مآلها القمامات والحاويات، وإن من تعظيم الله تعظيم نعمه وآلائه.
ارفعوا راية الشكر برفع راية الاحتساب وإنكار المنكرات والتعاون مع المحتسبين ورجال الهيئات؛ فإنكار المنكر مسؤولية كل مسلم قادر، لا يملك بشر من البشر أن يمنعها، ويوم أن تتهاون الأمة في هذه الشعيرة وتستسلم للإرجاف والتخذيل فإن الله يوشك أن يعمها بعقاب من عنده.
وحققوا الشكر بالمساهمة بالمشاريع التي تستهدف حفظ النعمة وصيانتها والتي تقوم بها الجهات الخيرية، ودعم تلك المشاريع لإتمامها وتمكينها من القيام بمهمتها في حفظ النعم، لنحظى بالمزيد من الكريم المنان.
وحققوا الشكر بحمد الله على كل حال، حتى فيما تراه في ظاهره بؤسا، برؤية الجانب المضيء من الحياة، فبقليل من التأمل سنشعر بأن المشكلات التي تؤرقنا ليل نهار ما هي إلا نعم تستحق الشكر والعرفان، فإن عانيت من ضيق الحال وقلة المال فلتحمد الله أنك لست ممن يتسولون قوت يومهم، وإن شكوت يوما من ضيق بيتك فتذكر أنك لست ممن يفترشون الأرصفة ليناموا عليها، وإن كان لك ولد يعاني من صعوبة في التعلم أو تعثر في الدراسة فلتحمد الله على عدم وجوده من وسط الآلاف من مرضى السرطان والآفات.
وإذا ذهبت لك يد فتذكر أن لك يداً أخرى، وقل ما قاله عروة بن الزبير وقد مات أعز ولده وقطعت رجله، قال: "اللهم لك الحمد، كانوا سبعة فأخذت واحدا وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، فلئن كنت قد أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتليت فقد عافيت".
(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40]. فيا الله اجعلنا من الشاكرين الذاكرين.
وصلِّ إلهي على مَن أرسلته رحمة للعالمين، وارضَ اللهم عن صحابته أجمعين، وعمنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المجاهدين، ومَكِّنْهُمْ مِن رقاب الكافرين...
التعليقات