عناصر الخطبة
1/اختلاف الناس في الأعمال والآمال 2/أهمية العمل الصالح 3/أعمال صالحة لها أجور عظيمة 3/أعمال صالحة ترفع صاحبها في الجنة 4/عظم جزاء الصدقات الجاريةاقتباس
فلا جاه هناك ولا حسب، ولا مال ولا ولد، لكن إن هو إلا العمل وجزاؤه، ثم الثواب عليه وجائزته.. والعبرة بحسن العمل لا بكثرته، وتحين فاضله لا مفضوله، واغتنام عظيمه وجليله...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: حين ينبلج الصباح، ويشع النور، تستعد النفوس لخوض عمل يوم جديد، تواصل ما قد بدأته، أو تُنشئ عملاً جديداً، وهكذا دواليك حتى ينتهي المطاف، وتنقطع فرصة العمل والحرث، وفي الحديث: "كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها"(رواه الترمذي).
إلا أن جميع الناس وإن اشتركوا في العمل والحرث، فهم يتمايزون فيه ويختلفون، فمنهم مَن يرفعه عمله، ويكون ذخراً له، وآخرون لا نصيب لهم إلا الكدّ والنَّصب، وقد يكون وبالاً عليهم ونقمة، وقد قال الله -تعالى-: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7- 8].
عباد الله: العمل في الإسلام قرين الإيمان بالله -تعالى-، بل هو دليله وشعاره، فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل ينفع صاحبه، ويورثه الفلاح، إلا بالإيمان والتصديق بالجنان، قال -تعالى-: (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)[النساء: 173]، وقال -سبحانه-: (وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[آل عمران: 57].
واقرؤوا إن شئتم الوجه الثاني من سورة السجدة، لتدركوا أثر العمل، وتمايز العاملين. فالعمل هو وقود الآخرة، ورأس مال العبد هناك (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الانشقاق: 6]؛ "والكدح: السعي في الشيء بجهد، من غير فرق بين أن يكون ذلك الشيء خيراً أو شراً".
فلا جاه هناك ولا حسب، ولا مال ولا ولد، لكن إن هو إلا العمل وجزاؤه، ثم الثواب عليه وجائزته. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "تعمل عملاً تلقى الله به، خيراً كان أو شراً"، وفي الأثر: "قال جبريل: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه"(حسنه الألباني).
عباد الله: هناك أعمال لها عند الله -تعالى- وزن ومقدار، وأثر وميراث، تورث صاحبها السلامة والنجاة، وترفع العامل في عالي المقامات وأرفع الدرجات، يتخوّلها الموفّقون، ويتعرض لها المشمّرون، ويحافظ عليها المسدَّدون، طمعاً في الفضل والإكرام، وطلباً في الرتب العليا والمنازل الحسان، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "فإذا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّه أوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعْلَى الجَنَّةِ -أُراهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهارُ الجَنَّةِ"(رواه البخاري).
وكان التوجيه النبوي في الوصية المحمدية لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهمَّ أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"؛ فالعبرة بحسن العمل لا بكثرته، وتحين فاضله لا مفضوله، واغتنام عظيمه وجليله.
ومن تلك الأعمال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟ قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ"(رواه مسلم).
و"إِسْباغُ الوضوءِ على المَكارِهِ" يَكونُ بإتمامِه وإعطاءِ كلِّ عُضوٍ حقَّه مِنَ الماءِ، والمَكارِه تَكونُ بِزمهرير البَردِ أو لهيب الحر وألمِ الجِسمِ، فيُكرِه الرَّجُلُ نَفسَه عَلى الوُضُوءِ وتمامه مع شِدَّته وثقله.
"وانتظارُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ"، بالبقاءِ في المَسجِدِ وانتظارِ الفرائضِ بها، لا يَقطَعُه منها إلَّا الحاجَةُ... كل هذا فيما يتعلق بالصلاة، فكيف الفريضة نفسها!! فهي بوابة الخيرات ومشرع البركات، وبلوغ عال الدرجات.
كما أن حفظ القرآن وتلاوته والعمل به يعلي درجة صاحبه في الجنة، ويرفع مكانه ومنزلته، ففي الحديث قال -عليه الصلاة والسلام-: "يقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا؛ فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها"(رواه أبو داود والترمذي).
و"صاحِب القُرآنِ"، هو القارِئُ للقرآنِ، العامِلُ بما فيه، الملازمُ له تِلاوةً وحِفظًا؛ فالناس تتفاوتُ مكانتُهم في الجَنَّةِ بحَسَبِ تَفاوُتِهم في حِفظِه والعملِ بما فيه، وتَدبُّره. ودونك -أيها الموفق- كتاب الله فقد تيسرت سبل حفظه، وهو يسير على من يسره الله عليه.
ومما يرفع الدرجات في الجنة: الجهاد في سبيل الله، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض"(رواه البخاري)، وقد يحصِّلها الصادق في سؤاله للشهادة بصِدْقٍ، قال -عليه الصلاة والسلام-: "من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلَّغه منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"(رواه البخاري).
ومما يعلي المكانة ويرفع الدرجة في الجنة: حُسن الخُلق، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن شيءٍ يوضَعُ في الميزانِ أثقلُ من حُسنِ الخلقِ، وإنَّ صاحبَ حُسنِ الخلقِ ليبلُغُ بِهِ درجةَ صاحبِ الصَّومِ والصَّلاةِ"(رواه الترمذي).
وجماع الأخلاق في قوله -تعالى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199]؛ قال ابن القيم: "وجماعه -أي حُسن الخلق- أمران: بذل المعروف قولاً وفعلاً، وكفّ الأذى قولاً وفعلاً، وهو يقوم على أركان خمسة: العلم والجود والصبر وطيب العود وصحة الإسلام".
فاللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، أعوذ بالله من الشيطان (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا)[طه: 75].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
عباد الله: المُوفَّق مَن يتتبع تلك الأعمال وغيرها التي رتَّب عليها الفضل المدرار، والنزل الكبار، كما لا يغفل عن حسنات تَدرّ عليه، وأعمالٍ يناله أجرها وثوابها حتى وإن انتهى العمر، وتوقف العمل بالموت، من صدقة جارية بمال أو فكرة أو عمل، أو ولد صالح يدعو له، بتربية حسنة، وتقويم وإصلاح، وعلم نافع ينتفع به، أو عمل صالح يستمر نفعه وثوابه كالأوقاف والذكر الحسن.
قال -تعالى-: (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)[الروم: 44]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له"(رواه مسلم).
وعند ابن ماجه: "إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه: عِلمًا علَّمَه ونشرَه، وولدًا صالحًا ترَكَه، ومُصحفًا ورَّثَه، أو مسجِدًا بناهُ، أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ، أو نَهرًا أجراهُ، أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ".
فاللهم أعنّا على ذِكرك وعلى شكرك وحسن عبادتك.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات