عناصر الخطبة
1/فضائل الصيام 2/كثرة أبواب الخير في رمضان 3/ثمرات الصيام 4/اغتنام شهر رمضان.اقتباس
وحريٌّ بمن أدرك رمضان أن يحمد الله على بلوغه، وأن يدعوَ الله الإعانة على صيامه وقيامه إيمانًا واحتسابًا، وأن يوفَّقَ لقيام ليلة القدر، ويغتنمَ هذه النفحات فيزداد من القربات، ويبتعدَ عن الخوارم والملهيات، ويحفظَ سمعه وبصره عما يغضب مولاه...
الخطبة الأولى:
خلق الله الليل والنهار، وفاضل بين الشهور والليالي والأيام، وخصَّ شهر رمضان بالفضائل والنفحات، ومزيد الخيرات والبركات، فهو شهر الرحمات وتكفير السيئات، وأداء القربات وفعل الطاعات، وهو سببٌ لدخول الجنات، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من آمن بالله ورسوله، وأَقَام الصلاة، وصام رمضان، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة"(رواه البخاري).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم حجة الوداع: "اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم"(رواه الترمذي).
قال ابن القيم -رحمه الله- في الصيام: "إنه لِجامُ المتقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضةُ الأبرار والمقربين".
وقد افترضه الله على هذه الأمة بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البَقَرَة: 183-184].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة، وآمرًا لهم بالصيام، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنيةٍ خالصة لله -عز وجل-؛ لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم، فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أُسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك".
والصوم سبب لمغفرة الذنوب والآثام، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومَن قام ليله القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"(متفق عليه)، قال ابن حجر -رحمه الله-: "المراد بالإيمان: الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب: طلب الثواب من الله".
وقد أعد الله ثوابًا جزيلاً للصائمين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به"(متفق عليه)، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهو لربّ العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئًا إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوباتِ النفس وتلذذاتِها، إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سِرٌّ بين العبد وربه، لا يطلع عليه سواه".
ومن كرم الله للصائمين، أن في الجنة بابًا لا يدخله إلا هُم، فضلاً منه -سبحانه-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يومَ القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرُهم، يُقال أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد"(رواه مسلم)، والريان: صيغةُ مبالغة من الرِّيِّ، وهو نقيض العطش.
كما أن خلوف فم الصائم أطيب من ريح المسك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده ! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، قال البغوي -رحمه الله-: "معناه الثناء على الصائم، والرضى بفعله"، وقيل: لكثرة ثوابه وأجره.
وللصائم فرحتان يفرحهما: "إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"(رواه البخاري)، قال القرطبي -رحمه الله- "معناه: فَرَحٌ بزوال جوعه وعطشه؛ حيث أُبيح له الفطر، وهذا الفرح طبيعي، وهو السابق للفهم، وقيل: إن فرحه بفطره إنما هو من حيث إنه تمام صومه، وخاتمةُ عبادته، وتخفيفٌ من ربه، ومعونةٌ على مستقبل صومه"، والفرحة الأخرى: "إذا لقي ربه فرح بصومه"، أي: بجزائه وثوابه، وقيل: هو السرور بقبول صومه وتَرتُّبِ الجزاءِ الوافر عليه.
وكما أنه شهرُ الصيام، فكذلك هو شهر القرآن، قال الله -سبحانه-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[البَقَرَة: 185]، وقد أنزله الله في ليلة القدر جملةً إلى السماء الدنيا، كما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقيل: ابتداءُ نزولِه فيها.
قال الشنقيطي -رحمه الله-: "جميع الشهور من حيث الزمن سواء، ولكن بمناسبة بدء نزول القرآن في هذا الشهر جعله الله محلاً للصوم، وأكرم فيه الأمةَ كلَّها، بل العالمَ كلَّه، فتتزين فيه الجنة، وتُصفَّد فيه مردة الشياطين، وتتضاعف فيه الأعمال".
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يمدح -تعالى- شهرَ الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، وكما اختصه بذلك قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍّ مضين من رمضان، والإنجيلُ لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان".
وفي رمضان ليلةُ القدر، اختصها -تعالى- عن بقية ليالي الشهر بعظيم الأجر، وجعلها الله -تعالى- خيرًا من ألف شهر.
وهو شهر القيام ولذة مناجاة الله وطلبِ مرضاته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة"(رواه أصحاب السنن)، فحافظ على إتمام قيامك مع إمامك حتى تنال عظيم الأجر.
وهو شهر البذل والعطاء، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجودَ الناس وأجودُ ما يكون في رمضان"(رواه البخاري)، قال العَيني -رحمه الله-: "وأما كون أكثرية جُودِه في شهر رمضان، فلأنه شهر عظيم، وفيه الصوم، وفيه ليلة القدر، والصوم أشرف العبادات". فليتلمس الصائم إخوانه المحتاجين والأرامل والمعوزين، وليُفرحهم ببذل، ويؤنسهم بعطاء، ومن أهم ما يكون في هذا الشهر الكريم إطعام الطعام عمومًا، وتفطير الصائمين خصوصًا، فقد ورد الفضل في ذلك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من فطَّر صائمًا، كان له مثل أجره، غيرَ أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء"(رواه الترمذي).
ومن فضل الله على الصائم أن له دعوةً لا تُرَدّ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد"(رواه ابن ماجه). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر"(رواه أحمد).
والعمرة في رمضان أجرها مضاعف، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عمرة في رمضان تعدل حجة"(رواه مسلم).
وليحرص المسلم على أَكْلة السَّحر ففيها بركةٌ وتعين على أداء العبادات في نهار رمضان، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بركة"(متفق عليه)، قال ابن حجر -رحمه الله-: "المراد بالبركة: الأجر والثواب، أو البركةُ لكونه يقوِّي على الصوم، ويُنشِّط له، ويخفف المشقة فيه، وقيل البركة: ما يُتضمن من الاستيقاظ والدعاء في السَّحر، والأَولى: أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة، وهي اتباع السنة، ومخالفةُ أهل الكتاب، والتقوّي به على العبادة، والزيادةُ في النشاط، ومدافعةُ سوء الخُلُق الذي يثيره الجوع، والتسببُ بالصدقة على مَنْ يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل، والتسبّب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، وتداركُ نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام"؛ وهي مخالفة لأهل الكتاب فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن فصل بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلةُ السحر"(رواه مسلم).
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
على المسلم استغلالُ أيامِ شهر رمضان ولياليه بكل ما يكون ذخرًا له في آخرته، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان من هديه في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل يدارسه القرانَ في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجودَ بالخير من الريح المرسلة، وكان أجودَ الناس، وأجودُ ما يكون في رمضان، يُكْثِر فيه من الصدقة، والإحسان، وتلاوة القران، والصلاة، والذكر، والاعتكاف".
وحريٌّ بمن أدرك رمضان أن يحمد الله على بلوغه، وأن يدعوَ الله الإعانة على صيامه وقيامه إيمانًا واحتسابًا، وأن يوفَّقَ لقيام ليلة القدر، ويغتنمَ هذه النفحات فيزداد من القربات، ويبتعدَ عن الخوارم والملهيات، ويحفظَ سمعه وبصره عما يغضب مولاه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"(رواه البخاري)، وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن جابر -رضي الله عنه- قال: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل فطرَك وصومَك سواء".
وصَعِد النبي -صلى الله عليه وسلم- المنبر ذات يوم، فلما رَقِى عتبة قال: آمين، ثم رَقِى الأخرى فقال: آمين، ثم رَقِى ثالثة فقال: آمين، ثم قال: "أتاني جبريل -عليه السلام- فقال يا محمد! مَنْ أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، فقلت: آمين"(رواه ابن حبان).
نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا لصيامه وقيامه إيمانًا واحتسابًا.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات