عناصر الخطبة
1/بعض مقاصد نزول القرآن الكريم 2/شمولية القرآن الكريم وبعض فضائله 3/الأمة الإسلامية آية من آيات الله في الكون 4/عناية بلاد الحرمين الشريفين بالقرآن الكريم حفظا وتلاوة وتدبرا 5/من علامات الساعة تقارب الزمان 6/ذكر الله تعالى يجعل عُمْر الإنسان مبارَكًا 7/الوصية بالاجتهاد في شهر شعباناقتباس
إن من أعظم ما يعتزُّ به المسلمون في ماضيهم وفي حاضرهم وفي مستقبلهم، وأحقّ ما ينبغي أن يُقِيُموا عليه منهجَ حياتهم؛ هو كتاب الله -تعالى-، وإن السُّبُل لحيازة الشرف بخدمة كتاب الله، مفتوحة ممهَّدة، تهتف بمن يريد أن يسلكها بقلب مفعَم بالصدق والإخلاص ورجاء المثوبة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله العزيز الوهَّاب، مَلِك الملوك وربّ الأرباب، هو الذي أنزَل على عبده الكتاب، هُدًى وذِكرى لأُولي الألباب، وأودَعَه من العلوم النافعة والبراهين القاطعة غايةَ الحكمة وفصلَ الخطاب، وصلَّى الله على سيدنا ونبينا محمد، الذي جاءنا بالقرآن العظيم، وبالآيات والذِّكر الحكيم، وجاهَد في الله حقَّ جهاده، فكان خيرَ مَنْ غزَا وقاتَل وجاهَد، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا إلى يوم المعاد.
أما بعدُ: فيا أيها الناسُ اتقوا الله -تبارك وتعالى-؛ فإن تقواه أربح تجارة وبضاعة، واحذروا معصيته؛ فقد خاب عبدٌ فرَّط في أمرِ ربِّه وأضاعه، وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والجماعة، فخُذُوا بهديهم وما كانوا عليه في المعتقَد والعمل والسمع والطاعة، واحذروا الظلمَ؛ فإن الظلمَ عارٌ ونارٌ وشناعةٌ.
عبادَ اللهِ: أنزَل اللهُ القرآنَ الكريمَ لمقاصدَ ساميةٍ وحِكَمٍ جليلةٍ؛ فهو منهاجُ الخالق لإصلاح الخَلْق، وكان من أهم مقاصد نزوله أن يكون تهذيبًا للنفوس، وإصلاحًا للقلوب، وتقويمًا للطباع، ودلالةً للناس إلى الصراط المستقيم، وأن يكون الحُجَّةَ الدامغةَ، والبرهانَ الواضحَ، والدليلَ الملموسَ على صدق النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا-، فيما بلَّغَه عن ربه على تعاقُب الليالي والأيام.
والمتأمِّلُ في القرآن الكريم يجده قد حوى جميعَ متطلَّبات الحياة وحوائج الناس وما يُسعِدهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فما من سبيل من سُبُل الخير إلَّا بيَّنَه لهم، ودلَّهَم عليه، ولا طريقَ من طُرُق الشر إلَّا نهاهم عن سلوكه وحذَّرَهم منه، وأنه قد اشتمل على ما يُصلِح عقائدَهم وأخلاقَهم ومعاملاتِهم وكلَّ شؤونهم، فالقرآنُ الكريمُ أُنزِلَ لتكوين أُمَّة مؤمنة بربِّها، تَصمُد أمامَ الأحداث، تهدي إلى الحق، وتُجادِل من أجل الحقِّ، وتُدافِع عن الحقوق، وقد كوَّن القرآن -بإذن الله-تعالى- أُمةً متعاطفةً متراحمةً فيما بينها، قويةً شديدةً على عدُوِّها، قال -تبارك وتعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)[الْفَتْحِ: 29].
لقد كانت تلك الأمة العظيمة آية من آيات القدرة الإلهية؛ أَنشأَتْ في الأرض -بإذن الله- ما شاء أن تُنشئ، وسارت في الأرض ما شاء الله أن تسير، قرَّرَتْ للإنسانية عقيدةً طاهرةً نقيةً، وتصوُّرًا سليمًا، وقيمًا وموازينَ، حقَّقَت العدالةَ والأمنَ والاستقرارَ، وهو قادرٌ الآنَ -أعني القرآن الكريم و-بإذن الله- أَنْ يُخرِجَ لنا أيضًا أمةً على غرار تلك الأمة العظيمة، ولكِنْ لابدَّ لشباب هذه الأمة من السير على ما كان عليه السلفُ الصالحُ؛ من الإيمان الراسخ بالله، والتوكل على الله، والاعتصام بالله وحدَه، والإيمانِ بقدرِ اللهِ، والتصديقِ بوعدِ اللهِ ووعيدِه، فتلكُمُ هي المعاني التي كانت خُلُقَ النبي -صلى الله عليه وسلم تسليمًا-، وأصحابه، والقرون المفضَّلة.
وتلكم الصورة -يا رعاكم الله- لو استقرَّت في قلب إنسان مؤمنٍ لصَمَد أمامَ جميع الأحداث، وأمامَ جميعِ الخصومِ، قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا- لابن عباس -رضي الله عنهما-: "احفظ الله يحفظك، احفظ اللهَ تجده تُجاهَكَ، إذا سألتَ فأسأَلِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِنْ بالله، وَاعْلَمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمَعَتْ على أَنْ ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوكَ إلَّا بشيء قد كتَبَه اللهُ لكَ، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يضرُّوكَ إلا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ عليكَ، رُفعت الأقلامُ وجفَّت الصحفُ"(أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح).
أيها المسلمون: إن من أعظم ما يعتزُّ به المسلمون في ماضيهم وفي حاضرهم وفي مستقبلهم، وأحقّ ما ينبغي أن يُقِيُموا عليه منهجَ حياتهم؛ هو كتاب الله -تعالى-، وإن السُّبُل لحيازة الشرف بخدمة كتاب الله، مفتوحة ممهَّدة، تهتف بمن يريد أن يسلكها بقلب مفعَم بالصدق والإخلاص ورجاء المثوبة، وطلَب المزيد من خيرَي الدنيا والآخرة، وقد تكفَّل اللهُ -سبحانه وتعالى- بحفظ هذا القرآن العظيم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الْحِجْرِ: 9]، ويسَّر على عبادِه حفظَه في الصدور، وفي القلوب، وفي السطور والحمد لله ربِّ العالمينَ.
ومنذ أن تأسست المملكة العربية السعودية على يد جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل -طيَّب الله ثراه-، ومِنْ بعدِه أبناؤه البررةُ -رحمهم الله- بفيض رحمته وأسكَنَهم عريضَ جناته، إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله-، وسمو ولي عهده الأمين -نصرَه الله- كان من عظيم عملهم الاعتناء والاهتمام بكتاب الله -تبارك وتعالى-؛ حفظًا، وتلاوةً، وتدبرًا، وبسُنَّة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وقد تعدَّدَت سبلُ العناية بالقرآن العظيم؛ منها تنظيم الجوائز والمسابقات، كجائزة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمانَ بنِ عبد العزيز لحفظ القرآن الكريم، وتلاوته، وتفسيره، للبنين والبنات، والتي بدأت دورتُها الثالثة والعشرون لهذا العام، بتنظيم موفَّق مسدَّد من وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد.
وهذه الجهود المشكورة من الأسباب التي تُحفِّز الشبابَ على حفظ كتاب الله -تعالى-، في عصر ضَعُفَتْ فيه الهممُ، وكثرت فيه الصوارفُ، وإن هذا ما يعتز به المسلمُ ويفتخر به في هذه البلاد المنعَّمة بالأمن، والاستقرار، والرخاء، تحتَ راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فجزى اللهُ خادمَ الحرمين الشريفين، ووليَّ عهده خيرًا، وجعَل كلَّ ما يُقدِّمانه للإسلام والمسلمين في ميزان حسناتهم يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنونَ إلَّا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ، وأسأل اللهَ التوفيقَ والسدادَ للمشارِكينَ، (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)[الْكَهْفِ: 13]، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[الْإِسْرَاءِ: 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني اللهُ وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد للهِ ربِّ العالمينَ، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعدُ:
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا-: "لا تقومُ الساعةُ حتى يتقاربَ الزمانُ، فتكون السنةُ كالشهرِ، والشهرُ كالجُمُعةِ، وتكون الجمعةُ كاليوم، ويكونُ اليومُ كالساعةِ، وتكونُ الساعةُ كالضَّرَمةِ بالنارِ"(رواه الترمذي بإسناد جيد).
لقد بيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا- في الحديث بعضًا من علامات الساعة، وأن منها قلةَ بركة الزمان، وقلةَ فائدته، واشتغالَ أكثر الناس بزخارف الدنيا وملذَّاتها، وتضييعَ الوقت فيما لا ينفع، فلا يستفيدونَ من الزمن، لا في أمور الدين ولا في أمور الدنيا، ولعلَّ من الأسباب توفُّر الراحة، وتكاثُر النِّعَم، وتيسُّر الخيرات، لكنَّ الواجب على المسلم التوازن في حياته، ومعرفة الهدف الذي خُلِقَ له، قال -تبارك وتعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذَّارِيَاتِ: 56-58]، فالإنسانُ له هدفٌ ورسالةٌ، فلم يُخلَق للأكل، والشرب، والمتاع، واللَّعِب فحسبُ، وإنما هي قوةٌ له؛ للاستعانة بها على طاعة الله.
قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: "إذا قيل: ما هو السبيل الذي يجعل أوقاتَنا مباركةً؟ قلنا: ذِكْر الله، ودليلُ ذلك قول الله -تعالى-: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الْكَهْفِ: 28]، ومعنى "أَمْرُهُ": أي: شأنه كله، يَكن فُرُطًا: ليس فيه بَركة، فالإنسان إذا أَعرَضَ عن ذِكر الله، واتَّبَع هواه، نزَع اللهُ البَركةَ من عُمره، وهذا هو حالُ كثيرٍ من الناس اليومَ -مع الأسف- أنَّ اللهَ أغفَل قلوبَهم عن ذِكْرِه، واتَّبَعُوا أهواءهم، وكانت أمورُهم فُرُطًا، تمضي عليهم الساعاتُ، بل الأيامُ، وهم لم يُنتِجوا شيئًا". انتهى كلامه -رحمه الله-.
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، واشكروا نعمة الله عليكم، بما من به عليكم من هذا الشهر المبارك؛ شهر شعبان، فكله مكان لرفع الأعمال إلى الله -تبارك وتعالى-، فاجتهِدوا في طاعة ربكم، وخذوا من صحتكم لمرضكم، ومن غِناكُم لفقركم، ومن شبابكم لهَرَمِكم، ومن حياتكم لموتكم.
ثم اعلموا أنَّ الله -تعالى- أمرَنا بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال جلَّ مِنْ قائلٍ عليمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلْيُصَلِّ عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا".
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارضَ الله عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين، الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية الصحابة أجمعينَ، وأهل بيته الطاهرين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم بمنكَ وإحسانك يا أرحم الراحمينَ.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشركَ والمشركينَ، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّدْ بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقْه لهُداكَ، واجعل عملَه في رضاكَ، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما تحب وترضى، وخُذْ بناصيتهما للبر والتقوى، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين، للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، أنتَ الغنيُّ ونحن الفقراء إليكَ، أنزِلْ علينا الغيثَ ولا تجعَلْنا من القانطينَ، اللهم اسقِنا وأغِثْنا، اللهم إنا نستغفركَ إنَّكَ كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مدرارًا.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يَزِدْكُمْ، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعونَ.
التعليقات