عناصر الخطبة
1/خطر الفتن ووجب الحذر والبعد عنها 2/حال الملبسين الحق بالباطل مع أهل الحق 3/العلم الشرعي والورع نجاة من لبس الحق بالباطل 4/خطر معاشرة أهل الأهواء والضلال 5/قضاء من عليه صيام من رمضان الفائت 6/حكم إهداء الطلاب للمعلمين وما شابههماقتباس
إنّ من أعظمِ الفِتن التي تُعاني منها المجتمعاتِ المسلِمة في عَصرِنا هِي فتنة غِيابِ الحقّ ولَبسه بالباطل.. فيدعي الذين أُشرِبوا في قلوبهم الاعتقادَ الفاسدَ بأنّ ما يَفعَلونه هو الإسلامُ بعَينِه، فإذا ما قامَت صَيحَاتٌ تصحِيحيّة تدعوهم إلى الرجوعِ إلى المنهج الحقّ؛ أنكَروا عليهم ما يدعون إليه، واتَّهَموا الناصِحِين بالرَّجعية والجمودِ عند ظاهِرِ النّصوص دون روحِها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمد من يشكر النعمة ويخشى النقمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فالق الحبة وبارئ النسمة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، معلِّمُنا الكتابَ والحكمة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الراجين من ربهم الرحمة.
أما بعد: فاتقوا الله، واعلموا أن هذه الأيام والليالي خزائن للأعمال، ينبغي أن يودع فيها ما يسره في القيامة أن يراه، وإذا تفكر المؤمن الصادق في حياته فإنه يفزع؛ لأنه يرى تقصيره، والأيام تنقضي سراعاً، ولأنه يرى الفتن تحاصر أكثر الناس، فيتساقطون في حمأتها، وهذا ما حذِره وحذَّر منه رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فلقد اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ: "سُبْحَانَ اللهِ؛ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ -يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ- رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ"(1).
وأَشْرَفَ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: "هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ"(2).
إنه خوف وفزع من النبي الرحيم -صلى الله عليه وسلم- على أمته؛ فقد خاف علينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ فما الفتن؟ وما أثرها وخطرها؟
إليكم الجواب مفصلاً من إمام راسخ، عرف الفتن وخبرها وحذِرها وخطرَها؛ إنه شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فاسمعوه إذ يقول: "والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء. والفتن إنما يُعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت، فأما إذا أقبلت فإنها تُزَيَّن، ويُظَن أن فيها خيرًا"(3).
أيّها المسلِمون: إنّ من أعظمِ الفِتن التي تُعاني منها المجتمعاتِ المسلِمة في عَصرِنا هِي فتنة غِيابِ الحقّ ولَبسه بالباطل.. فيدعي الذين أُشرِبوا في قلوبهم الاعتقادَ الفاسدَ بأنّ ما يَفعَلونه هو الإسلامُ بعَينِه، فإذا ما قامَت صَيحَاتٌ تصحِيحيّة تدعوهم إلى الرجوعِ إلى المنهج الحقّ؛ أنكَروا عليهم ما يدعون إليه، واتَّهَموا الناصِحِين بالرَّجعية والجمودِ عند ظاهِرِ النّصوص دون روحِها، كَذا يزعُمُ دعاةُ التلبيس والتَّدلِيس، ولسانُ حالهم ينطق بقول الله -جلّ وعلا-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة:11-12]، وقال تعالى: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:42]؛ فكل من كتم الحق وخلطه بالباطل؛ فهو من أهل هذه الآية.
أيّها المسلمون: إنّ أهلَ التلبيس والتَّدليس قد يسلُكون مسلكًا آخَر هو من الخطورةِ بمكان؛ حيث يضخِّمون المفاسدَ المترتِّبةَ على إظهَاره في مقابلِ تهوينِ المصالحِ المتيقنة. وقد توعّدَ الله أصحابَ هذا المسلكِ بقولِه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ) [البقرة:159].
قال الحسن البصري: "شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل، يُعْمُون بها عباد الله"(4).
ويؤكِّده قول ابنِ مَسعود -رضي الله عنه-: "كَيْفَ بِكُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَتُتَّخَذُ سُنَّةً، فَإِنْ غَيَّرْتَ يَوْمًا قِيلَ: هَذَا مُنْكِرٌ". قَالُوا: وَمَتَى ذَاكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: "ذَاكَ إِذَا قَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَ قُرَّاؤُكُمْ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ"(5).
فمن أراد أن يقي نفسه ورطة لَبْس الحق بالباطل؛ فعليه بتحصيل العلم الشرعي، والتدينِ بالورع؛ فبالعلم تحترق الشبهات، وبالورع تحترق الشهوات.
ولنسائل أنفسنا: لماذا ضل كثير من السابقين واللاحقين وتحيروا، ولم تثبت أقدامهم على الصراط المستقيم، ولا ماتوا عليه؟ أو وصلوا إليه بعدما انقضى جل عمرهم؟
والجواب: لأنهم عاشروا أهل الأهواء، فصاروا بحيرتهم يتحيرون ويضطربون. وما أكثرُ وصايا السلف بالحذر من أهل الأهواء، والبدع المضلة، والجلسات المزلة.
وفي عصرنا الزاخر الوثابِ، حيالَ وسائل الاتصال ذاتِ البريق الإعلامي الأخاذ، تبرز فتنة فتاوى الفضائيات ووسائل الاتصالات ممن غرتهم فتنة الإعلام، فتوهموا أنهم من الأعلام.
فيا مَفتونون فمُفتون بجهلكم لجاهكم: انتهوا خيراً لكم؛ وإلا فيا ويلكم يوم تبلى السرائر، وحينها يعلم كلُّ متشبِّع بما لم يُعْطَ إلى أي انحطاط هو صائر!
الخطبة الثانية:
مسألتان مهمتان نحتاجهما هذه الأيام:
إحداهما: تتعلق برمضان؛ فمن كان عليه قضاء من رمضان الفائت؛ فليسارع في قضائه قبل أن يدخل عليه رمضان بعد ثلاثة أسابيع.
نعم؛ تأخير القضاء إلى شعبان ولو بلا عذر جائز، ويشهد له قول عائشة -رضي الله عنها-: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ"(6).
وإن تضايق شعبان ولم يبق منه إلا بقدر أيام القضاء وجب عليه صيام تلك الأيام، ولا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان الثاني.
(وإذا ترك الإنسان أشهراً بعد بلوغه ثم تاب؛ فهل يلزمه قضاء هذه الأشهر؟
لا يلزمه قضاء هذه الأشهر التي تركها بلا عذر؛ فقضاؤه إياها لا يفيده شيئاً؛ لأن الإنسان إذا أخر العبادة عن وقتها المحدد شرعاً بدون عذر شرعي، فإنها لا تُقبل منه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(7).
المسألة الثانية المهمة، والتي تتزامن مع ختام الأنشطة التعليمية، وحفلات التكريم والتخرج ويكثر فيها السؤال عن: حكم إهداء الطلاب والطالبات هدايا للمعلمين والمعلمات، أو إهداء المعلم لقائد مدرسته. والناس فيها طرفان ووسط؛ فمنهم المنفتح المتساهل بالإهداء، ومنهم المتشدد الرافض تمامًا.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "أما الهدية فلا يجوز أن يقبلها؛ لأن الهدية يملكها، أما أن يجيب الدعوة لوليمة فلا بأس؛ لأن إجابة الدعوة لا يملك فيها الطعام الذي يأكله"(8).
وقال ابن باز وابن جبرين رحمهما الله: "إذا كانت الهدية بعد الفراغ من النظر في درجاتهم، وبعد الفراغ من الشهادات؛ فلا حرج في ذلك"(9).
نعُوذُ بِاللهِ مِنَ الفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .. نعُوذُ بِاللهِ مِنَ الفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.. اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول وفتنة العمل.
نستغفرك اللهم من نقل الخطوات إلى الخطيئات، وسوق الشهوات إلى الشبهات.
اللهم هب لنا قلوباً تتقلب مع الحق، وألسنة تتحلى بالصدق، وأنفساً تأنف الخنا.
اللهم من أراد بنا أو ببلادنا أو ولاة أمرنا من العلماء أو الأمراء فتنة فأشغله بنفسه.
اللهم واجعل هذه البلاد آمنة مطمئنة، سائرة على الإيمان والتوحيد، مُحَكِّمة لشرعك على ما تحب وترضى، يا أرحم الراحمين. اللهم ونسألك أن تؤمننا في جميع ديارنا.
اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تنسنا ذكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تجعلنا من الغافلين
اللهم إنا نعوذ من دنيا تمنع خير الآخرة، ونعوذ من حياة تمنع خير الممات.
--------------------
(1) صحيح البخاري (7069)
(2) صحيح البخاري (1878) صحيح مسلم (7427)
(3) منهاج السنة النبوية (4/343 و 409)
(4) أحاديث في ذم الكلام وأهله للمقرئ (529)
(5) الإبانة الكبرى لابن بطة (758)
(6) صحيح البخاري (1950)، وصحيح مسلم (1146)
(7) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين – (ج 17 / ص 270)
(8) لقاء الباب المفتوح (176/ 11)
(9) مجموع فتاوى ابن باز (20/ 64). وانظر شرح أخصر المختصرات لابن جبرين (64/ 48)
التعليقات